الممارسات الفطرية في حياتنا هي التي ترسم لنا المبادئ الأساسية التي توصلنا إلى الكليات العميقة لفلسفة الوجود بيد أن المانع من فتح تلك الأوليات التي تفضي بنا إلى الحقائق هو الدأب والعادة رغم تأصلها وتجذرها في مسيرتنا الحياتية التي حُفت بإرادتنا أو بعدمها.
وعندما نريد العودة إلى ذلك الجذر نجد أن الفلاسفة كان لهم الإهتمام الواسع منذ العصور الأولى للديانات في معرفة الأطر الأساسية التي تجعل الإنسان يحلل الرموز التي يتعايش معها في رحلته التي يبحث فيها عن كنه وماهية هذا العالم.
وللفلسفة الإسلامية بعض الدراسات التي بحثت في ماهية تلك الرموز التي أشرنا إليها رغم المعارضة التي تجعل بعضهم يسير في طريق حُفت بالأشواك التي يصعب عليه المرور منها إلا بعد جهد ومشقة، ولذلك فإن الفلاسفة قد بحثوا الكثير من المسائل ذات الأصول الجوهرية التي يكون للترادف اللغوي الدور الأكبر في البعد عن تحليلها حسب ما يقتضيه الحال الذي يصبح مادة للجدل العقيم الذي يحتاج إلى مواقف تجعل الفلاسفة يجدون في السير إلى معرفة النتائج دون الخوض في المبادئ التي تعتبر هي المؤطر الرئيسي لفهم المترادفات التي كان السجال يدور في الخيوط الموصلة إلى تحليل نتائجها.
ومن هنا ظهر الإختلاف في البداء وهل هو جائز على الله تعالى أم لا يجوز، ولأجل التوصل إلى هذه الحقيقة علينا معرفة البداء لغة، فالبداء في لغة العرب يعني الظهور، وبدا له أي ظهر له، أو بان له من بعيد، هذا في التعبير الذي يخص الإنسان حتى ترسخ لدينا المعارف الأولية لجذر الكلمة التي نريد البحث فيها.
ولكن حين يطلق هذا اللفظ مضافاً إلى الله تعالى لا يعني أن الأمر كان خافياً عليه جل شأنه ثم ظهر له بعد ذلك فهذا الفهم لمعنى البداء لا يمكن نسبته إلى الله تعالى، حيث أن الله تعالى هو العالم بالأشياء منذ الأزل فكل شيء بين يديه دون تفكر ودون روية وهو العالم بالأشياء الممكنة وغير الممكنة بمعنى أن الذي لا يمكن أن يكون [على تعبيرنا] كيف يكون وعلى أي شكل يصبح لو أراد له الخروج من العدم إلى الوجود.
فهو تعالى عالم بجميع الأشياء ولا يحتاج إلى ذلك أي جهد أو دراسة حسب ما متعارف عندنا، إلا أن الذي يُفهم من نسبة البداء له جل شأنه يتمثل في معنى الظهور المتجسد في الحقيقة المطابقة لعلمه المكتوب في اللوح المحفوظ عندما يشاء إيجاده على صفحة الواقع، ولأجل تقريب المعنى أضرب لك المثال التالي: هل تتذكر في يوم ما عندما كنت تشاهد مباراة في كرة القدم ذات النتيجة المتقاربة والتي تجعل الكل يتمنى إشراك اللاعب المنقذ للموقف، ولكن المدرب يشير إلى أحد اللاعبين الضعاف بأن يكون هو الورقة الرابحة وبالفعل عندما ينزل هذا اللاعب يكون هو السبب في تغيير النتيجة، فبالرغم من جهل الجمهور بما تحقق إلا أن المدرب يمتلك المفتاح الذي عمل عليه حسب ما متوفر لديه من خبرة في مجال عمله.
ولله المثل الأعلى فإن هذا المثال يجعلنا أمام قضاء الله تعالى في خلقه، بما يؤول إليه علمه الذي يخفى على الناس الذين يعتقدون ظهور ما في نفوسهم إلا أن المصلحة التي يجهلونها هي التي تحوي في طياتها الخلاصة التي يجب أن يكون عليها واقع نهاية الأشياء، ومتفرقات القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى والتي عبر عنها تعالى بالعلم كقوله: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) البقرة 143. وقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) القتال 31. وأيضاً قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً) الكهف 12.
ولو أردنا أن نفهم المقصود من العلم المشار إليه في الآيات آنفة الذكر يظهر لنا أن المراد من قوله: [وما جعلنا القبلة التي كنت عليها] أي التي كنت تعتقد في إستقبالها أو صرت عليها، فقد صرفناك عنها ، ثم علل الأمر بقوله: [لنعلم] والمقصود هنا ظهور ذلك العلم لدى الناس، أما قبل وقوع العلم فهو سبحانه الوحيد الذي يعلمه، إلا أن ظهور ذلك العلم للواقع جعل غيره مشاركاً له في العلم، ولأجل التقريب يكون المعنى كالذي يمسك شيئاً في يده ثم يقول لصاحبه أتستطيع أن تقول لي ماذا في يدي، وعند عجز صاحبه فإنه يقول له والآن لنعلم سوياً ماذا أخفيت عنك، فيكون علمه الأول ظاهراً لديه خافياً على الثاني، وعند إظهاره أصبح الثاني عالماً به أيضاً ولكن بالتبعية لا بالأصل فتأمل.
وهذا المعنى يجري في جميع الآيات التي هذا شأنها، فقوله تعالى: [ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً] يشير إلى ما قدمنا من معنى، وكذا الآيات المشابهة لما نحن فيه.
فمما مر يتبين أن البداء جائز في إظهار علم الله تعالى لما خفي عن الخلائق فيكون متعلقه الإنسان وليس علمه الأزلي جل شأنه فهو تعالى عالم بجميع الحوادث ما مضى منها وما حضر وما هو كائن إلى مالا نهاية، لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، فلا يمكن أن نتصور فيه ظهور الأشياء بعد خفائها، كما قال عز من قائل: (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) إبراهيم 38.
فإن قيل: إذا كان كل شيء بين يدي الله تعالى فماذا يعني بقوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد 39. أقول: أن الله تعالى قد خلق لوحين وهما اللوح المحفوظ والذي يسمى أم الكتاب، والثاني لوح المحو والإثبات، فالأول هو علمه الأزلي الذي لا يطرأ عليه التغيير أو التبديل، والثاني هو اللوح الذي يحدث فيه التبديل المتعلق في الخلائق كالإطالة في الأعمار أو قصرها أو الغنى بعد الفقر، إضافة إلى عذاب الإستئصال الذي يقدره تعالى بسبب فساد الأقوام قبل الرسالة الخاتمة أو رفعه كما حدث مع قوم يونس بعد توبتهم.
وهذا لا يعني أنه تعالى لم يكن يعلم حقيقة الشيء ثم بدا له ذلك، وإنما الحكمة في ذلك أن يكون الإنسان على علم من أنه في حالة تغييره لأعماله السيئة فسوف يغير الله تعالى له في ذلك، وفيه ترغيب إلى فعل الخير وترك الموبقات، أما إذا علم الإنسان أن الله تعالى قضى كل شيء وأحكمه فلم يأمل بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى أو حتى الدعاء الذي يظن الإنسان أن يغير في أحواله شيئاً يظل دون فائدة ترجى منه. مما يجر الإنسان إلى الخيبة واليأس من روح الله تعالى، وبالتالي يفقد إيمانه أو حتى إعتماده على الله تعالى.
فإن قيل: ألا يعتبر المثل الذي ضربته لله تعالى بمدرب الكرة تطاولاً عليه جل شأنه؟ أقول: إن الأمثال تضرب لأجل التقريب دون القياس، ألم تر إليه تعالى كيف يضرب الأمثلة للتفريق بينه وبين الأصنام التي تعبد باطلاً بالعبد المملوك كما في قوله: (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيءٍ ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) النحل 75. وكذلك قوله: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيءٍ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لايأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) النحل 76.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات