لعل واحدة من أبرز سمات العمل القومي للنظام السوري تتمثل في ظاهرة إعتقال و خطف و تغييب المواطنين العرب في سجون الفروع المخابراتية المختلفة و المتنوعة، و الإتصالات الرسمية الأخيرة بين الحكومتين الأردنية و السورية حول مصير عدد من المعتقلين الأردنييين بسبب قضايا و ملفات أمنية طابعها الخطف و الإختطاف من دون أسباب و لا مسوغات قانونية قد ألقت الضوء و فتحت الباب قليلا للإعلام الحر لتناول هذا الملف الذي يعتبر من أبشع ملفات إنتهاك حقوق الإنسان الذي يحتل فيه نظام دمشق مرحلة متصدرة و متقدمة للغاية، فالسجون و المعتقلات السرية التي هي الأساس الستراتيجي المكين لفلسفة الحكم السورية منذ ربيع 1963 و حتى اليوم تضم بين جدرانها أو في قبورها على أدق تعبير أعداد غير معروفة من المواطنين العرب الذين شاء حظهم العاثر أن يقعوا فريسة لبراثن و مخالب النظام الإستخبارية تحت أسباب و حجج واهية تعتمد على الشكوك و الظنون و التقارير الأمنية الكيدية أكثر من إعتمادها على الوقائع و الحقائق المادية!! فالداخل للسجون السرية السورية لا يعتمد إلا على الله سبحانه و تعالى في الخلاص من محنته، و إذا كان الأردنيون قد تحركوا كحكومة للسؤال عن مواطنيهم المعتقلين قسرا و ظلما و تجنيا، فإن هنالك مئات و لربما آلاف الملفات لمواطنين عرب آخرين من العراق و لبنان و مصر و غيرها لا أحد يسأل عنهم بالمرة، بل أن السلطات السورية تنكر وجودهم في صلف غريب و عجيب لا مثيل له في كل دول العالم، و إذا كان المواطن السوري يعاني بصمت و ألم من حرقة التعسف السلطوي الفاشي و يستنزف يوميا خيرة شبابه و مثقفيه و كوادره الحرة في معتقلات النظام بل أن بعضهم قد بلغ ملف تغييبه رقما قياسيا دوليا مثل الضابط السوري المغيب ( فرحان الزعبي ) و المختطف منذ عام 1970!!
فماذا يمكن أن نقول عن مواطنين عرب بسطاء إبتلعتهم زنازين و قبور النظام الإستخبرية المريعة؟ ثمة شواهد و ملفات واقعية لا يمكن نكرانها أو التحلل من وقائعها و لكن المشكلة هي عدم وجود من يتابع تلك الملفات متابعة ميدانية و مستمرة مشفوعة بداوي قضائية دولية يمكنها من الضغط على النظام الذي لا يعرف سوى لغة القوة و التهديد كسبيل للإعتراف بالحقائق و الوقائع المخزية، فمثلا هناك مئات حالات الإختطاف لمواطنين لبنانيين من مختلف التوجهات إختفت ملفاتهم في سجون دمشق و ضاعت قضاياهم في زحمة القضايا و الملفات الساخنة و المتصارعة!! و هنالك مئات الحالات من العراقيين و كان أبرزهم المختطف شاكر الدجيلي العراقي الأصل و السويدي الجنسية و الذي أختطف قبل أربعة أعوام في مطار دمشق بينما كان في طريقه للعراق!!
و قد أنكرت السلطات السورية علمها بمصيره علما بأنه لم يغادر بوابة مطار دمشق أبدا منذ أن ركب الطائرة لها قادما من أستوكهولم!! فهل إبتلعه الحوت وهو في الجو؟ أم أن لضباط المخابرات السورية تفسير غيبي آخر قد يرتبط بعوالم الجن و الميتافيزيقيا!!؟ و قد قدر لي أن أكون شاهدا حيا على بعضا من ممارسات الإختطاف و الإعتقال والتغييب لأجهزة نظام دمشق المخابراتية أرويها للذكرى و العبرة و للزمان لكي تكون شاهدا بسيطا على أساليب أهل المخابرات السورية في خطف الناس و تغييبهم في ظل حالة شاملة من الإستهتار بأبسط المبادي الإنسانية و الحقوقية، ففي السادس عشر من آب / أغسطس عام 1984 تم إختطافي شخصيا من داخل حافلة كانت متوجهة من دمشق لإستانبول التركية في نقطة الحدود ( باب السلامة ) فقد نادى على إسمي وقتها نقيب مخابرات بشوارب كثة طالبا مني النزول و إصطحاب حقيبتي معي لتحقيق بسيط لن يستغرق سوى دقائق كما قال و لكنه أمر سائق الحافلة بالرحيل!!! من دوني!! و هنا أركبني بسيارته الأميركية الخاصة و كانت من نوع ( دودج ) 1960!!( أنتيكة )! و عاد بي القهقرى لمسافة أربعين كيلومترا للخلف أي نحو مدينة ( حلب ) و هناك أدخلني بسيارته لمقر المخابرات الكائن في حي سكني و حيث إستلمني الجلاوزة و أستقبلوني بالطريقة العربية المعروفة قبل أن يودعوني في زنزانة ضيقة للغاية لا يكاد الكر فيها يتمكن من التنفس و تقع تحت أحد السلالم!!
قضيت ليلي هناك و أنا في وضعية القرفصاء أفكر بالأسباب التي دفعت المخابرات السورية لإعتقالي و أنا لم أرتكب جرما لا مخالفة و لم أسيء فيها لأحد بل لم أنطق أبدا بكلمة واحدة ضد النظام؟ و جاء الصباح ثم حلت الظهيرة و أمروني بالخروج للساحة لجلب الغذاء الحقير و في الساحة راعني ما وجدت فقد شاهدت عشرات الشباب السوري من المتهمين بتهم تلك الأيام و هي ( الإنتماء لتنظيم الإخوان المسلمين ) وهم يتعرضون للجلد وهم في حالة إنتظار لأخذ وجبة الطعام!! و قد تجرأ أحد الشباب و تحدث معي و قال لي بأنه مهندس و هو هنا بسبب تقرير أمني كيدي!!، المهم أنهم في الليلة التالية رحلوني لدمشق فقضيت هناك وهم لا يعرفون أسباب إعتقالي سوى البرقية الواردة من دمشق و التي تفيد بضرورة ضبطي و إحضاري من الحدود مباشرة!، في مساء اليوم التالي وصلت للفرع الخارجي المرقم ( 279 ) مخفورا و مكبلا و تحت حراسة مسلحة!! تصوروا؟ ثم رموني في زنزانة ضيقة للغاية و حقيرة كانت واحدة من عشرة زنازين متشابهة يلفها جدار الصمت و السرية و تحتوي على بطانية واحدة مليئة بالقمل لا أعرف لونها لأن الزنزانة مظلمة تقريبا و تتشابه في بعض التفاصيل مع أوصاف زنازين سجن ( تازمامرت ) المغربي الرهيب الذي عرفناه و سمعنا أخباره فيما بعد سوى أنها لا تضم مراحيضا فقد كانت من الضيق بحيث أنها لا تستوعب المعتقل و كان الذهاب للحمام محنة حقيقية تفوقت على محنة أهل تازمامرت الذين كانت لهم مطلق الحرية في التبول و قضاء الحاجة وقتما يشاؤون و بدون جدول زمني لذلك؟ وهذه نعمة كبرى لمن يفتقدها؟ أما في زنازين نظام دمشق فإن نظام الصمود و التصدي و التوازن الستراتيجي لا يسمح للمعتقل أبدا بحرية التبول!!
فهنالك وقت محدد لذلك و بستطيع المرء أن يتبول و يقضي حاجته تحت السياط المنهالة على رأسه و بدنه ليجعل من قضاء الحاجة عذاب حقيقي؟ و هو إمتياز و سبق عملي و أبتكار تعذيبي مسجل دوليا بإسم النظام الأمني السوري؟؟ أما في المساء فإن أصوات التعذيب بدولاب الهوا و بقية الإختراعات التعذيبية التي تفنن بها فاشيو نظام البعث السوري تجعل من السهرة ممتعة خصوصا و أنهم كانوا يعذبون بعض المعتقلين تحت أنغام موسيقى الراحلة أم كلثوم!! فيالها من فاشية و سادية و وحشية لا نظير لها؟ أتذكر جيدا أنه في إحدى الليالي فتحت الزنزانة المجاورة لي و سمعت أصوات صراخ و ضرب و عويل لمواطن مصري كان يقول : ( بريء يا بيه.. و الله العظيم ماليش دعوة بإسرائيل )!! و كان متهما كما علمت فيما بعد بتهمة التخابر مع إسرائيل؟؟ كما علمت أيضا بأنه قد مات تحت التعذيب في سجن المخابرات العامة في كفر سوسة!!
و بعد يومين من الإنتظار نودي علي للتحقيق و تم تقييدي و تعصيب عيوني لربما ظنا منهم بأنني الرفيق المناضل ( جيمس بوند )!!، وأخذوني للجنة تحقيقية كان يرأسها العميد ( أبو مضر ) الذي سألني عن أسباب سفري لتركيا؟ و ما هي مهمتي هناك؟ و بمن سأتصل فأجبته على أسئلته بهدوء و أكدت له من أنني مواطن عراقي مشرد هارب من الحرب و الفاشية و لا علاقة لي بأي مهام أو تنظيم معين و أعتقد أن في الأمر خطأ يا سيدي؟ فأمر العميد بنزع العصابة و فك القيود و أراني تقرير أمني ضدي يتهمني بالعمالة و الجاسوسية لصالح نظام صدام حسين في العراق و كان التقرير صادر عن القيادة القومية لحزب البعث / فرع الشام بقيادة عبد الجبار الكبيسي و بتوقيع الرفيق فوزي الراوي و هو لا زال موجودا في القيادة القومية السورية كأحد ديناصوراتها حتى اليوم!! و هو بالمناسبة مسؤول حاليا عن الإرهاب في العراق؟ و كان التوقيع بقلم أخضر حسبما أتذكر؟ و لم ينس ذلك التقرير أن يوصي بإبعادي للعراق؟؟ مدعيا أنني ذهبت لتركيا لتسليم معلومات أمنية للمخابرات العراقية هناك؟؟؟ و قد كان واضحا من السطور ألأولى أن التقرير ملفق و هزلي و سخيف و هو ما أكتشفه عميد المخابرات السورية بنفسه و لكنه أردف قائلا : إن جماعتكم العراقيين هم من يزودونا بتقارير عنكم وهم أعرف بكم؟ فشرحت له كذب التقرير إذ لا يعقل أن أكون عميلا لصدام و أنا قد طردت قبل شهور فقط من إحدى الدول العربية بسبب معاداتي لنظام صدام؟؟ المهم أنهم تركوا ملفي معلقا بيد رئيس المخابرات العامة وقتها ( اللواء علي دوبا ) الذي كان مسافرا مع الرئيس حافظ الأسد للجزائر و قتذاك، و قضيت أياما أخرى من المذلة و المهانة قبل أن يطلق سراحي في يوم عرفة في أحد أيام سبتمبر عام 1984 لعدم جدية الإتهام و بعد التأكد من شخصيتي من أوساط المعارضة العراقية في الشام و هنا لا أنسى الموقف الكريم للمرحوم السيد الدكتور مصطفى جمال الدين الذي وقف معي و ساندني و حماني من الذئاب البشرية المفترسة، و طبعا لم يخرجوني إلا بعد أن وعدتهم بالعمل و التعاون مع المخابرات السورية و التجسس لصالحهم و كتابة التقارير لهم و هو الأمر الذي لم يحدث أبدا و لم تطأ أقدامي الشام بعد ذلك و سوف لن أطأها أبدا إلا و رايات الحرية الحقيقية ترفرف عليها بإذن الله... و الطريف أن جاري في أحد الزنازين المجاورة لي كان أحد الزملاء و الأصدقاء أيام الدراسة في كلية الآداب جامعة البصرة وهو الشاعر و الباحث و المحقق التراثي السيد جمال جمعة الذي كان ضحية تقرير بعثي مزيف هو الآخر... هذه سطور من معاناة شخصية وقعت لي كنت خلالها شاهدا على مصائب عديدة، و لكن ملفات المختفين العرب في سجون نظام دمشق تظل واحدة من أبشع الملفات المخفية التي تفضح فاشية و إرهاب أجهزة النظام السوري المستقوية على الضعفاء... لقد آن الأوان لفضح القتلة وفتح كل الملفات الرهيبة، و ساعتها سيعرف العالم حجم الفواجع الإنسانية التي سببتها أنظمة الهزيمة الوراثية.
داود البصري
التعليقات