كان يوما جميلا حقا حين تعرفت قبل ثلاثين عاما في معرض كتاب القاهرة الدولي على صاحب القلب الذي ضم من أول شبابه نور الحرف وتنويره فدخلت كلماته البسيطة كبساطة الفلاحين المصريين، إلى أعماق نفسي حين كان يتحدث بسخرية عن عالم الكتب قائلا :

لا تفزع يا صديقي حين أقول لك أن عالمنا، عالم الكتب، يضم أفظع ما تحتوي الكراهية للإنسان.

كان غاضبا يومها حين لاحظ منعا لعدد من كتب التنوير بينما فتحت أبواب المعرض لعدد من كتب الكراهية والتجهيل والتخلف التي كان يسميها ( روث الماشية ).

كان ساخرا من كل ما هو سيء في الحياة الثقافية والسياسية. تنطلق الكلمة البسيطة من أعماقه بعفوية الإنسان الطيب في أكثر الأحيان.

أحب مهنة طبع الكتب وتوزيعها إلى حد لا يصدق وربما هو الناشر العربي الوحيد الذي وجدته قد هجر كل متعة في الحياة عدا متعة بيع الكتب رغم انه كان يعاني من مشقتها نهارا وليلا إذ لم تتوفر لديه إلا المعرفة التامة بأصول مهنة الكتب فاخذ نصيبه الكبير من النجاح فيها بهدوء تام طيلة نصف قرن من الزمان حتى غدا من أشهر الناشرين في مصر وفي العالم العربي كله.

لقد سرتني معرفة الرجل وصداقته من أول يوم وصار الرجل من أوائل أصدقائي المصريين الذين أزورهم حال وصولي إلى القاهرة وكان هو الرجل المصري الوحيد الذي أخابره تلفونيا أو بالفاكس قبل يوم أو يومين من سفري إلى القاهرة فأجده في غاية الفرح والطيبة مسرورا للقائي به ولكي يرتب أموره كالعادة لتناول عشاء فاخرا في مطعم صغير بحي المهندسين بالقاهرة مختص بتقديم ( الحمام ) كوجبة طعام لذيذة تجلب الكثير من الزائرين المصريين والأجانب. كل مرة يستضيفني في هذا المطعم وليس غيره رغم ضيق وقته ورغم أنه ليس من رواد المطاعم وكان يطلب من النادل حال جلوسنا : ( حمام مشوي ومقلي ومسلوق ) مرة واحدة ثم يقول لي بعد نهاية الوجبة انظر إلى هذا الواقع يذبحون الحمام رمز المحبة والهدوء والسلام، يسلقونه ويشوونه ويقلونه كي يأكله الناس فرحين مسرورين..! أليست هذه واحدة من مهازل الحياة التي بدأها أبونا آدم بعض التفاحة.

حين جاء إلى العراق في منتصف الثمانينات استضفته في مطاعم بغدادية ولبنانية عديدة لكنه استمتع كثيرا حين تناولنا وجبة عشاء في آخر الليل بــquot; مطعم باجة الحاتي quot; بصحبة الناشر العراقي هاشم حسين ndash; دار النهضة العربية ليقول لي أيضا بعد نهاية الوجبة هكذا يلذ للإنسان تناول رؤوس الأغنام المسكينة. أليست هذه مسخرة..؟

لقد أحببت هذا الرجل الساخر بالفطرة من حياة صار فيها مليونيرا لكنه لم يترك سخريته منها إذ ظل يلبس الجلابية المصرية البسيطة وينتقل من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت على ظهر موتوسيكل ليوفر لقراء منشوراته كتبا بمعدل ألف كتاب سنويا، أي أضعاف ما تنشره أية وزارة إعلام عربية، ليقدم للناس الفائدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكتب الطبخ والحياكة والفكر النير للمرأة أيضا.

تبادلنا الكثير من منافع توزيع الكتب وطباعتها حين كنتُ مالكا للدار العالمية للنشر والتوزيع في بغداد فكنت أصدّر له الكتب العراقية وكان يقايضني بالكتب المصرية. في شهر شباط عام 1984 فاجأني بمنحي امتيازا وتخويلا بإعادة طبع 24 كتابا رائجا في الأسواق من كتب ٍ كان يملك حقوق نشرها بالكامل كخطوة وجدها ضرورية لدعم الكتاب في العراق ولدعم الدار العالمية للنشر في بغداد. حين قدمتُ طلبا لوزارة الإعلام العراقية بقصد الحصول على إجازة أعادة طبعها في بغداد باسم الدار التي أملكها غير أن الوزارة منحتني الموافقة على طبع أربعة كتب فقط ومنع 20 كتابا لأنها من ( الكتب الخطيرة )..!

استمرت علاقاتنا التلفونية بعد مغادرتي العراق والإقامة في هولندا. حين طلبت منه عام 1999 كتابا من كتب الدكتورة سعاد الصباح أرسله لي بالبريد رافضا استلام ثمنه. أعرب عن ألمه وتضايقه لأني صرت في عداد المنفيين العراقيين بعيدا عن المساهمة في عملية التنوير.

في العام الماضي وصلتني منه تحية حين زيارة الصديق الدكتور كاظم حبيب لمكتبته وورود اسمي في حديث بينهما وكان قبلها قد أرسل لي نسخة من روايتي عاشقان من بلاد الرافدين رافضا أيضا استلام ثمنها وظل يداعبني أمل قوي في كل مرة لزيارة القاهرة وزيارة مكتبة مدبولي ولقاء الحاج محمد لكن هذا الأمل لم يتحقق حتى قرأت خبرا عن وفاته التي تعني أن حركة الكتب في مكتبة مدبولي لا بد أنها سكنت مصعوقة بهذا الحدث الجلل.

اليوم استلمت رسالة إيميل من الصديق المهندس دلشاد كتاني المقيم في القاهرة تحمل شوكة الخبر المؤلم إذ جاء فيها :

رحل عن هذا الدنيا العم مدبولي... الذي بدأ بائعا للجرائد والكتب اليومية ليصبح بعدها واحد من أكثر الناشرين غزارة في الإنتاج حيث كان ينشر 1000 كتاب في كل عام.

دخلت إلى مكتبته الموجودة في ساحة طلعت حرب و التي تقابل جانب التمثال لأجد أكداس الكتب الحديثة و المتنوعة في مكان ضيق. نقلت له تحيات زميله الكاتب و الناشر العراقي جاسم المطير سرعان ما عرفه لوجود علاقة وثيقة بينه و بين ثلة من كتاب و أدباء العراق. أعتذر لعدم ورود الكتاب الأخير الذي أصدره جاسم المطير في بيروت ( رواية رسائل حب خليجية ) و نقل بالمقابل تحياته الحارة إليه معي. طلبت منه كتاب الإسلام و نظام الحكم لعلى عبد الرازق فناولني الكتاب قبل أن أنهى طلبي و كأنه قرأ افكارى و عرف مبتغاى. طالبته بكتب المفكر الراحل هادى العلوى، ووعدني بأن يأتي بها من المخزن لزحمة أروقه مكتبته. قال أنها منشوره من قبل دار المدى و قد نفذت اغلب نسخها.و لم يجد إلا آخر أجزائها.

في مرات عديدة كنت إذا دخلت و سألت عن كتب الحداثة سرعان ما كان يقول بائعو الأقسام في المكتبة بأن عليّ أن انتظر لغاية حضور الحاج مدبولي لأنه يعرف أكثر منهم.

إنسان بسيط لا تدل هيئته و ملبسه عن إمكانياته المادية و العملية و نشاطه الغزير في نشر و ترويج الكتب و هو الذي دخل باب الثقافة و النشر من أصغر أروقتها ليكون محط أنظار الكتاب و ألأدباء الباحثين عن ناشر،و هو طريق ليس بالسهل و الهين.ليطبع بعدها بحدود 1000 كتاب في العام الواحد.

في لقاء له مع قناة البغدادية كان الرجل يروى قصته كيف بدأ في نفس المنطقة ببيع الصحف و المجلات في خمسينات القرن الماضي و كيف أن الدولة ومؤسسة السياحة حينها أرادت أن تساعد هؤلاء الباعة من أن يتطوروا كونهم واجهة يتجه إليها السياح لشراء الصحف و المجلات و كتب التاريخ و تم له ذلك من انه حصل على امتياز توزيع المجلات و الجرائد الغربية مثل اللوموند و التايمز و...الخ. و كانت هذه البداية أساس تطور عمله بعدها من بائع على الرصيف إلى كشك باسم مدبولي و إلى مكتبه ثم دار نشر. هذا الاسم ا احتفظ به و بقى هو فيها على سجيته في حياته بالرغم من إمكانياته المادية الكبيرة يلبس جلبابا بسيطا و يتكلم بدون تكلف و لم يقف في وجه أي كاتب أو أديب يريد أن ينشر كتابا. فكانت علاقاته كثيرة تتعدى بكثير ارض الكنانة.

يظل محمد المدبولي بعد رحيله أيضا اسما كبيرا لامعا في عالم الكتب المصرية يحتل فيه مكانة أولى ويتمتع بحظوة الأدباء والكتاب الرواد في العالم العربي كله.

ترى ماذا سيكون مصير المدبوليزم بعد رحيله..؟

جاسم المطير

لاهاي