وحدة الشعوب هي غير وحدة الانظمة و المصالح السياسية الضيقة سيما إذا ماکانت هذه الانظمة الحاکمة مفروضة قسرا على الشعوب، والقصة الدراماتيکية للوحدة اليمنية و مارافقتها من أحداث عاصفة تروي في ثناياها العديد من الاحداث التراجيدية التي دفع و يدفع ثمنها الشعب اليمني من دماء ابنائه المسحوقين ولم تکن الوحدة اليمنية منجزا حقيقيا و واقعيا يتسم بالمصداقية کما هو الحال مع الوحدة الالمانية التي تمت بسقوط جدار برلين، ذلك أن بطل الوحدة المستشار هلموت کول لم يبق کتاجر الوحدة الالمانية الرئيس علي عبدالله صالح في دست الحکم و انما انجز الرجل خدمة لوطنه و شعبه وبعد ان انتهت مدة ولايته القانونية بموجب الدستور الالماني ذهب کول الى بيته ليقضي هناك بقية حياته حاله حال هلموت شميدت و غيرهارد شرويدر بعيدا عن صخب السلطة و متاعبها.


الوحدة التي تمت بين الشمال و الجنوب اليمني، لم تتم اساسا وفق اسس واقعية و موضوعية و بناءة وانما تمت بصورة سريعة و إرتجالية يغلب عليها طابع الانفعال و العاطفية ولم تحدد بدستور و قوانين صارمة تنفذ على الجميع من دون إستثناء، فالرئيس صالح کما يبدو کان على عجالة من امره حتى يظهر أمام الشعب اليمني و الامة العربية بمظهر القائد البطل الذي حقق المعجزة و بذلك فهو يستحق أن يسطر اسمه في التأريخ بحروف من ذهب خالص، أما الرئيس الجنوبي علي سالم البيض، فقد کان هو الآخر يعاني الامرين من تداعيات الاوضاع الداخلية في بلاده و يعيش صراعات سياسية دموية فأراد حسم الامر لصالحه بإتمام صفقة الوحدة السياسية بين النظامين(وليس بين شعبي الشطرين)، لکن البيض وبعد ان تيقن من ان صالح ليس لن يسمح له بالبقاء في کرسيه کنائب لرئيس دولة الوحدة وانما سيعمل أيضا على تصفيته أو إبعاده بطريقة من الطرق(وماأکثرها لدى مثل هذه الانظمة)، ومن هنا رفع البيض شعار الانفصال مجددا و نقصد به إنفصال النظامين عن بعضيهما البعض ذلك أن الوحدة الحقيقية بين شعبي الشطرين لم تتم لحد الان وقد نجح الرئيس صالح في التغلب على خصمه اللدود و إبعاده الى خارج البلاد وهو يتصور بأن الامر قد خلا له، لکن سياق الاحداث و توجهاتها المتباينة أعادت من جديد الازمة الى واقع الوجود و طفقت الکثير من القوى السياسية اليمنية الجنوبية حتى تلك التي کانت تتسم بشئ من التحفظ و العقلانية في قراراتها، بالدعوة الى إنفصال الجنوب عن الشمال و رفض دولة الوحدة التي في حقيقة أمرها تعني رفض رئاسة علي عبدالله صالح المزمنة نفسها والتي يبدو انها لاتستأصل إلا بإستلام أبنه للرئاسة من بعده وهو الامر الذي أثار حفيظة ليس القوى السياسية الجنوبية المعارضة انما حتى الشمالية منها باتت تتململ من ثقل وطأة بقاء السلطة في اليمن بشجرة الرئيس علي عبدالله صالح، ان الاوضاع في اليمن قابلة للإنفجار في أية لحظة وان المعضلة الحوثية التي يبدو انها قد خدمت بشکل او بآخر الرئيس صالح لإبعاد شبح الازمة الجنوبية الاخطر على نظامه، قد لاتشکل شيئا فيما لو إنفجرت الاوضاع في اليمن بربع القوة التي تفجرت بها الازمة الحوثية والحل الوحيد الذي يمکنه أن يحول دون وقوع الانفصال هو ان ينسحب الرئيس علي عبدالله صالح و عائلته الى الظل تماما و يصرفون النظر نهائيا عن السلطة و النفوذ وهو امر يبدو ان المستحيل أقرب منه للواقع!


أما في جنوب السودان، وبعد کل تلك السنوات الحافلة من الصراع الدموي بين الشماليين و الجنويين و بعد کل رزم اتفاقيات السلام التي عقدت بين الانظمة السودانية المختلفة و الجبهة الشعبية لتحرير السودان، فيبدو ان نهاية المطاف قد انتهت الى طريق مسدود ليس خيار يجدي معه سوى الانفصال بحسب ماتشير معظم التقارير الخبرية و وآراء المراقبين و المحللين السياسيين، وعلى الرغم من أن الاعلام العربي يسعى لأکثر من سبب للتغطية على هذا الامر او التقليل من شأنه، لکن واقع الامر ان الانفصال و بموجب کافة التوقعات و الاحتمالات أمر لامحال منه وان هو إلا قضية وقت، لکن السؤال الکبير الذي يجب طرحه و الاجابة عليه بکل صراحة هو: لماذا لامناص من إنفصال الجنوب السوداني؟! ان الاجابة تکمن أيضا في معضلة النظام السياسي الحاکم في السودان و الذي لم يمثل أبدا رأي و موقف الشعب السوداني وانما کانت و لازالت قراراته تملى و تصدر من فوق و بمعزل عن إرادة و خيار الشعب السوداني وان الرئيس او حزبه او حتى بضعة أحزاب أخرى متحالفة معه لأسباب سياسية و مصالح ضيقة محدودة ليس بإمکانهم أبدا ان يمثلوا رأي و موقف الشعب السوداني وان السياسات الخاطئة المبنية اساسا على مصادرة الحقوق و الآراء و الحريات و رفض الآخر او إقصائه هي التي قادت الى هکذا مفترق وان مايجري في الجنوب السوداني و قبله في اليمن، هو رسالة موجهة للعديد من دول المنطقة من أن الاعصار ذاته قادم إليها مالم تحسن من اوضاعها و تترك المنطق الفوقي في التعامل مع شعوبها.


اوضاع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي يصفه معارضون بالدکتاتوري و المستبد و الذي مازالت جريمة قتل العشرات من الاطفال و النساء العزل في منطقة حرف سفيان و صعدة تخيم بظلالها الداکنة عليه وقد تشکل يوما ما القصة التي تقصم ظهر البعير، فإنه يکاد يکون مشابها لاوضاع الرئيس السوداني عمر حسن البشير المطلوب دوليا على خلفية جرائم الابادة التي حدثت في دارفور وکلاهما يدوران في دائرة نصف قطرها إلغاء الآخر و النصف الآخر التلاعب به و خداعه والالتفاف على الاتفاقيات المبرمة معه وقطعا فإن کلاهما يستحقان و بجدارة حدوث إنفصال جزء من وطنهما في عهديهما السيئين!!