ما إنْ أطلق الحكم صفارة النهاية في مباراة مصر والجزائر في السودان، حتى سالت دموع ابني حزناً على خسارة الفريق القومي المصري لبطاقة الذهاب إلى كأس العالم.. عمر ابني هذا خمسة عشر عاماً.. وأعتبره قياساً باهتماماتي الشخصية خبيراً في كرة القدم، لاهتمامه الشخصي بهذه اللعبة ومعرفته الواسعة بها وبلاعبيها وأنديتها على مستوى العالم كله.


ولم أجد ما أواسي به ابني سوى عبارة واحدة قلتها له: من الآن كلنا جزائريون.. وفهم ابني العبارة على أننا يجب أن ننسى الهزيمة وأن نستعد لمؤازرة الفريق القومي الجزائري في كأس العالم المقبل في جنوب أفريقيا 2010.

ولم يحدث بعد ذلك أن تناقشنا كثيراً حول ما حدث ويحدث، وأقصد تلك الحرب المفتوحة بين مصر والجزائر، والتي لم يوفر فيها طرف طرفاً آخر، وخاض الجميع فيها بترسانة ثقيلة من العنف اللفظي والبدني، وكأننا أمسينا وأصبحنا، لنكتشف أن كرامة مصر وكرامة الجزائر موجزة في مباراة لكرة القدم، مع احترامي بالطبع لهذه اللعبة ولمشاعر المصريين والجزائريين تجاه الفوز أو الخسارة.

والحقيقة أنني كمواطن مصري وكاتب وصحفي، لم تجذبني أبداً مقولات مثل quot;القومية العربية، وأمة عربية واحدة، والأمة العربية، أو الأمة الإسلاميةquot; وأرى أن هذه المقولات كانت ومازالت منبع شرور كبيرة، طالت الجميع، وأرى أيضاً أن كل بلد عربي يجب أن يكون بلداً صالحاً لأبنائه أولاً، وأن المقياس الحقيقي هو التنمية البشرية العادلة التي تعم بخيرها الجميع، والالتزام بالقانون والنظام في أي بلد سواء كنت مواطناً في هذا البلد أو مقيماً فيه أو ضيفاً عليه، وعدا ذلك هو من باب العاطفة التي لا تفعل الكثير في واقع نعاني منه بدرجات متفاوتة.

لهذا ولغيره من الأسباب، كانت دهشتي كبيرة، من ردود الأفعال المصرية على وقائع العنف الجزائري المصري، تلك الردود التي توجها رئيس الجمهورية السيد/ محمد حسني مبارك في خطابه أمام مجلسي الشعب والشورى قائلاً: quot;نضع سياستنا الخارجية في خدمة قضايا التنمية والداخل المصري وجالياتنا على اتساع العالم، إن رعاية مواطنينا بالخارج مسؤولية الدولة، نرعى حقوقهم ولا نقبل المساس بهم أو التطاول عليهم أو امتهان كرامتهم، وأقول بكلمات واضحة، إن كرامة المصريين من كرامة مصر، ومصر لا تتهاون مع من يسيء لكرامة أبنائهاquot;.. وكأن الجميع بما في ذلك رئيس الجمهورية اكتشفوا فجأة أن للمواطن المصري في الخارج.. كرامة.. تعمل الدولة المصرية على عدم المساس بها، وهي الدولة ذاتها التي لا تعطي مواطنيها المغتربين وعددهم عدة ملايين حق التصويت في الانتخابات الرئاسية أو النيابية، وكأن حق التصويت هذا ترف لا يعني المصريين في الخارج، ويمكنني أن أعدد وقائع كثيرة، لم تكن فيها الدولة المصرية ممثلة في سفاراتها وقنصلياتها في الخارج إلى جانب المواطن المصري في أي شيء.

دعونا من المصري في الخارج، ولنسأل عن المصري في الداخل، وكيف يعيش فاقد الأمل حتى في هواء نظيف يتنفسه، وكيف يعيش مطحوناً بدون راحة من الهموم المعيشية، وكيف يمكن لضابط شرطة أو أمين شرطة أن يمرغ كرامته بالتراب، ولن أنساق وراء التحليلات التي تقول، إن تنافس مصر والجزائر على الوصول إلى كأس العالم، كان ساحة استغلال من السلطات الحاكمة في البلدين، لإلهاء شعبين نبيلين ويستحقان حياة أفضل من تلك التي فرضوها علينا خلال الخمسين عاماً الأخيرة، لن أنساق وراء كلام كهذا ولكنني أنقل هنا مشهداً بسيطاً:
ما إن أحرز عماد متعب الهدف الثاني في مرمى الفريق القومي الجزائري في مباراة القاهرة، حتى قطع مخرج المباراة بالكاميرا على quot;جمال مباركquot; وسألني ابني.. عمره سبعة عشر عاماً.. مين ده؟
جمال مبارك، أجبته.
مين يعني جمال مبارك، ثم أكمل بسخرية كونه يعلم أن والده يعمل في الإعلام: يعني صاحبك.
ضحكت وقلت له: لا مش صاحبي، ده ابن رئيس الجمهورية وعاوز يكون رئيس.
طيب ليه مكشر ومكتئب كده.

كانت تلك إجابة شاب مصري عمره سبعة عشر عاماً، من الجيل الذي يسعى جمال مبارك حقيقةً أم وهماً إلى حكمه، ومن الجيل الذي يؤثر في مستقبله جمال مبارك بأمانته السياسية في الحزب الوطني الحاكم.

والقصد، أن القطع بالكاميرا على جمال مبارك في مباراة لكرة القدم، لن يجلب له الشعبية التي يتمناها لكي يصبح رئيساً للجمهورية، هذا بالطبع إن كان يتمنى ذلك، وأعتقد أيضاً أن تحليلات انسياق السلطات الحاكمة في البلدين لإلهاء شعبيهما بمباراة في كرة القدم عن المصائب التي يعاني منها الشعبان، ليست في محلها، فالمباراة لن يدوم تأثيرها إلى الأبد.
إن الكرة في مكان آخر تماماً، إنها في حاجة شعبين مُتعبين من ثورات ونضال وسلطات إلى قدر من الفرح، توفره كرة القدم، ودعونا نقتسم هذا الفرح، عقب فوز المنتخب المصري على نظيره الجزائري في القاهرة، زاطت مصر فرحاً، وحينما فاز الفريق الجزائري في الخرطوم، زاطت الجزائر فرحاً، وهي نتيجة في رأيي عادلة في اقتسام الفرح.

(والله يحط الرحمة بين الشعبين) كما كتب مواطن جزائري، تعليقاً على موضوع في الشحن الإعلامي تمارسه صحيفة الشروق الجزائرية، وهي في الحقيقة ليست وحدها، ففي الجانب المصري، ما أكثر الشاحنين، الذين وصل بهم الأمر إلى الدعوة إلى مقاطعة الجزائر والجزائريين حتى في الهواء الذي نتنفسه معاً.

وإن كنت أرفض كإنسان، قبل أن أكون مواطناً مصرياً، الكثير من عبارات السب والقذف في حق مصر والمصريين، كتبها جزائريون من عينة كلمات مثل quot;مصرائيلquot;.. فإنني أرفض كذلك تلك العبارات التي كتبها وقالها مصريون في حق الجزائر، ومن ذلك وصفهم بالبربر، وكأن صفة البربر سبة يخجل منها الإنسان، وكأن البربر ليسوا بشراً نبلاء لهم تاريخهم وقيمهم وتراثهم ووجودهم الإنساني في المغرب العربي كله. كما أرفض تماماً وأدين، أن يقوم مصريون بحرق العلم الجزائري أمام السفارة الجزائرية في القاهرة، فالعلم الجزائري يمثل شعباً نبيلاً، يعمل جاهداً على الخروج من أوجاعه التي كان آخرها المواجهة مع الإرهاب المتخفي بالدين، وهي المواجهة التي ذهب ضحيتها أكثر من مائتي ألف جزائري، فقدوا حياتهم، بدون أن يرف لمصري أو عربي جفن، على ما حدث في الجزائر طوال السنوات الماضية. وقد يقول محتج هنا، وماذا عن حرق العلم المصري؟ وردي أنه عمل مدان أيضاً، وفي العراك ينحط البشر إلى أسوأ ما فيهم، ولعل ما حدث يعطينا درساً في الترفع والتسامح والقدرة على قبول النصر والهزيمة.

وشخصياً، وكمواطن مصري، فسوف أحضر.. الأحد 22/11.. العزومة التي دعا إليها أصدقاء وزملاء عمل جزائريون، احتفالاً بصعود فريقهم القومي إلى كأس العالم، وسوف أقول لهم ما قلته لابني.. كلنا جزائريون.. وسأقرأ ما يكتبه الشاحنون في البلدين وأبتسم، فلا السلطات التي تستغل مباراة في كرة القدم لإلهاء الشعبين باقية، ولا مقالات القصف بالكراهية من الجانبين باقية، ولا مباريات كرة القدم باقية، يبقى شعبان عندهما ما يكفي وزيادة من.. الألم والأمل.