حزين.. هو صباح بغداد، صدقني.. كان كئيبا، ثمة شيء ضاع منها، راحت الطرقات تتلمس ارصفتها، والارصفة تتململ من ارتجاج، والامكنة.. تصعر خدها للذكريات، كان صباح النعي شديد الوقع، قوية الصدمة.

يا عبد الخالق..، يا عبد الخالق المختار، يا ايها الوجع المستدرك، يا ايها الملتصق بي، حد انني لا اعرف كيف اتصرف ازاء ما سمعت، وقد جاءني نعيك راكضا قبل ان يبزغ الفجر، تخشبت لحظتها روحي، ورويدا.. رويدا راحت تتحول الى قطرات من ماء، من دمع، من دم، من عتمة، من انكماش، من مواويل متشنجة، تنحب كأمرأة ثكلى، يا عبد الخالق.. ايها الصديق.. كنت اسمع صوتك يتبدى عبر سماعة الهاتف، واخشى ان اقول لك ان نبرات صوتك هي غير التي كنت اسمعها، غير تلك التي اعتدت عليها، المليئة بالحيوية والتماسك والتفاؤل، كانت نبراتك هائمة، متفرقة، مشحونة بعذابات لا نهايات لها، تأتي رافعة اكفها للاستسلام للقضاء وللمرض وللمعاناة، كنت احس بما كنت تقوله، افهم ما تجيش به نفسك وانت تتلوى من تقلبات (الكلية المزروعة)، والله.. اعرف، وراح مجرى الدمع في عيوني يتمزق، يتفجر ويتفتق، تتهاوى سدودا، سدا بعد اخر، وكنت اقول لابأس ايها الرجل الكبير، لا بأس يا مختار، تفاءل.. ايها المتفائل، لا تدع اليأس يقرب روحك المتفانية، لايمكن لروحك ان يهزها مرض، ولكن اي مرض يا عبد الخالق، تلك (الكلية) الوحيدة التي يتعطل عملها وتهددك بين حين واخر، وحيدة عليلة في جسدك الذي صار يكفهر، وليس ثمة علاج ناجع الا بأستئصالها وزرع اخرى، وكنت اتساءل معك : كيف؟، ولا اعرف الاجابة، فما وجدت انا الا ان استغيث واصرخ عبر وسائل الاعلام، وحين امتدت الايدي اليك.. ما كان يسعها الا انتظار ان (تطيب) المضاعفات وان تتم (دورة) الادوية، ولكن القدر.. خطفك، قطف روحك، يا للاسى.

يا عبد الخالق.. مجرى الدمع يلتهب تنزلق منه الدموع عبر مسارب الجسد كله، تنساب دون ان يقف امامها حاجز الكبرياء، تضج، تصرخ، تتعالى، تهيم في الاوردة والشرايين التي تتحول الى غابات من الحزن الاسود، وفضاءات مظلمة، لا يمكن لي ان اسمع خبر رحيلك دون ان تتحرك روحي حرقة عليك، ان تشتعل عويلا، وان تضج صارخة في المديات، ايها الصديق والفنان الكبير، لكنني لا جد للكلمات من مخرج فهي سرعان ما تحترق، وتتحول الى ذرات من رماد سرعان ما تنثرها على عيوني حسراتي، لكنني بدونك أستعرض المعاناة التي امتدت لسنوات طويلة، ولم تكن تخضع لها بل تواصلت في ابداعك لتقول كل ما عندك وتعبر عن خلجات نفسك والناس وكنت زميلا للفنانين ويؤمنون بك قدوة وفنان ملتزما، لم يتصرف الا وفق محبته للجميع، وما اكثر محبتك.

يا عبد الخالق المختار..، ايها الانسان والفنان، ها انت ترحل دون انت تودعنا، بعيدا عنا، في بلاد الغربة التي رغم ظروفك الصعبة لم تكن مغرية بالنسبة لك، وكانت عيناك تتطلعان الى بغداد، كنت تبعث نظراتك اليها لتتنفس هواءها مثلما كنت تمنى ان تتنفس روحك لتشفى، يا عبد الخالق.. لا اعرف وانا اتملى صورتك ان اقول شيئا، كل ما قرأته وتعلمته يتبخر في لحظة التمعن، كثيرا ما نظرت صورتك امس وكنت اخفق بالبكاء على رحيلك المبكر فهو الوحيد الذي يسعفني.

يا عبد الخالق.. هل تعلم ان المسرح الوطني في صباح (الاثنين) ارتدى السواد واصبح طوفانا من دمع وشهقات وعبرات وحسرات، الجميع كان يتحرك على اصداء صوتك، ونحوك ملامح وجهك، الكل يشعر بالهزيمة حين يرفع رأسه ويدرك انه فقدك، كأنهم يقولون : كان يجلس هنا، ويتحدث هكذا، ويقف هنا في تلك الفسحة او هناك على السلم، اتراك.. يا عبد الخالق تشبه احدا؟، ليس هنالك من يشبهك، وليس هنالك من اجهش المسرح الوطني انكسارا عليه.

عبد الجبار العتابي
[email protected]