إن الحديث عن طبيعة النظام، الذي ينبغي أن يتمتع به الشعب العراقي هو، في الوقت ذاته، بمثابة اختبار لمسألة وعي الديمقراطية و كيفية فهمها، أو منطق التعاطي مع حيثياتها، و تفاصيلها، التي سرعان ما تكشف القناع عن وجه كل من يفتقر للخبرة فيها، أو الثقافة في تناولها، أو الرؤية العلمية لدى التأسيس لها.

من الصواب الإقرار مع السوسيولوجي الفرنسي quot; آلان تورين quot; في كتابة المعنون quot; ماهية الديمقراطيةquot; : إن الديمقراطية هي، في وجه من وجوهها، لاتعني سوى حضور ثقافة مختلفة وشاملة، بالمعنى التاريخي، نظراً للتراث الفكري والفلسفي الذي يقبع خلفها، وتجارب النظم السياسية، منذ أن خرج هذا المفهوم إلى الوجود، بنسبه الإغريقي القديم الذي يعود الى أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، الى الواجهة و تشبثت بها مجتمعات عديدة- أكثر من نصف العالم في أوروبا والأمريكتَين و الهند وأنحاء أخرى- كنظام خاص، لتنظيم أمور الدولة و المجتمع، لاسيما بعد أن جربت تلك المجتمعات نُظماً أخرى سياسية، أفسدت فيها الحياة والسلم المجتمعي. ليس هذا فحسب وإنما أتلفت التطور و الازدهار، و كل ما يتصل بصون حقوق الإنسان في الحرية و الاجتماع، و السياسية، والاقتصاد. و حقوق أخرى مُصادَرة الى أن وصل بهم الأمر الى اكتشاف أفضل النماذج السياسية الإبداعية - و الديمقراطية هي إبداع سياسي إنساني على حد قول المفكر الفرنسي آلان باديو بالاتساق مع سلفه الأقدم توماس هوبز - للخلاص من الشمولية و العبودية و الاستبداد و الاضطهاد و الهيمنة و الغطرسة ،التي كانت سائدة من قَبل، و طوال القرون المظلمة في تاريخ البشرية.

بتعبير آخر، إن الديمقراطية هي ثقافة بقدر ما هي خبرة يكتَسَبها الإنسان و المجتمع عبر التاريخ و من خلال التجربة و الممارسة و عبر تطور الوعي و الوعي الذاتي. إنها ثقافة، ليس لنا إلا أن نفهم أنها ليست قابلة لأن تُنتَج و تُبدَع عبر القرارات و القوانين، أو أنها خبرة، لذا من اللغو القول إن هنالك من بمقدوره أن يجسِدها ويعبر عن حقيقتها المعقدة و المتعددة الوجوه من خلال وجهات نظر مسبقة، أو اعتباطية. كما إن الديمقراطية هي تجربة، فتاريخها ليس تاريخ للأفكار فحسب، وإنما تاريخ مؤسسات ومجتمعات ديمقراطية وتاريخ خبرات متراكمة من المساواة السياسية. لذا يستحيل انجازها دفعة واحدة، بين ليلة و ضحاها، إن لم نقل إنها، من باب التجربة، لامتناهية، نظراً لكل تلك التجديدات، التي طرأت عليها أو التغيرات والتعديلات، التي أُدخلت عليها أو الإصلاحات الأفهومية التي رُسمت بها مفراداتها و حددته.

بهذا المعنى، لايمكننا أيضاً القبول بأي تبسيط للمفهوم، ولا التسليم كذلك بأية مساعٍ لتأطير هذا النظام وتسطيح حدوده، في نظام دلالي سياسي استهلاكي لغرض دعائي يومي، أو تسخيره لألاعيب حزبية و تسلطية، تستأصل منه أصلاً روح الديمقراطية الحية، التي هي ذات أبعاد فلسفية، فضلاً عن أنها غير قابلة للتصنيم. بل هي، في أغلب الأحوال، دينامية و صراعية الطابع - و الديمقراطية ليست ساحة هادئة على حد قول آلان تورين - مما يعني أنه يستحيل تعيينها في بؤرة معينة أو تقييدها في إطار ضيق ، نظراً لتحكم الزمان و المكان بها أو الطبيعة المختلفة للذوات الفاعلة، أو الفاعلين الاجتماعيين في التعاطي معها و ممارستها.

من هنا ينبغي في عراق اليوم أن يكون ساستنا حذرين جداً لدى الحديث عن القيم السياسية والمدنية العصرية، التي لم تختبر بعد، في عالمنا نحن بالقدر المطلوب، حتى نسترسل في التفلسف بها اليوم بكل بساطة واستهانة، و نُنظر لها في الخطب و البلاغات الرسمية، كما نشاء ، و خاصة عندما يتعلق الأمر بمفهوم الديمقراطية والمفاهيم المتاخمة لها، التي هي مفاهيم معقدة ومركبة في آن، وتعني جملة المفاهيم الأخرى المكملة لمضمون الديمقراطية، و قد يكون أبرزها اليوم هو: الفدرالية و التعددية، الحدّ من السلطة و اللامركزية، العلمانية و المساواة، أو مفاهيم و قيم أخرى نعلم أنها تشترط الديمقراطية على الدوام بقدر ما تشكل هذه الأخيرة إطاراً شاملاً تُمارس في ظله كل تلك القيم و المفاهيم، كأدوات، لتنظيم المجتمع و الدولة و إدارة الحياة

عدالت عبدالله