كانت مقابلة تلفزيون بي بي سي العربي، أمس ليلاً، مع قطبي جبهة الخلاص الوطني الأستاذ عبد الحليم خدام، والمحامي علي صدر الدين البيانوني، والتي أخرجت النزاع بين حلفاء الأمس إلى العلن والإعلام، بمثابة رصاصة الرحمة، التي أطلقت على تلك الجبهة، والتي كانت في طور نزاع البقاء منذ إعلان الجماعة في السابع من الشهر الأول من هذا العام، عن تعليق كافة نشاطاتها المعارضة ضد النظام، في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، الأمر الذي أثار حفيظة رموز الجبهة غير الإخوانيين ومشايعيهم، الذين اعتبروا ذلك انقلاباً من جانب الإخوان على إستراتيجية، وأهداف الجبهة المعلنة وهي مقارعة، وإسقاط النظام السوري. وكان الانسحاب، لذلك، تتويجاً منطقياً، لسلسلة من المواقف المتباينة والمتضاربة، وردود الأفعال داخل أقطاب الجبهة ذاتها، التي شجبت واستنكرت سلوك الإخوان، وكانت التداعيات تعتمل مرة تحت السطح، ومرات فوقه، وسبقت الإعلان المثير.

وقد أراد الأستاذ البيانوني، في ذلك اللقاء، ومن خلال تكرار ذات الخطاب المتشدد الإخواني المعروف ضد النظام، أن ينفي، ويوحي لمشاهديه أن ليس هناك ثمة صفقة أو اتصالات ما تجري مع النظام، أو أن هناك ثمة تغيير جذري في المواقف من النظام، إذ لا يمكن بنفس الوقت، وفي مثل هذه الحالات، الحكم على ذاك الخطاب كمؤشر على خصومة ما تزال مستدامة مع النظام، حيث يبدو الأمر، أحياناً، كطور من تبادل الأدوار. غير أن الخطوة الإخوانية، تعتبر، في المآل، وفي إحدى ممكنات قراءاتها، حتى ولو لم تعلن الجماعة ذلك، أو تقوله صراحة، استجابة للشرط الذي اشترطته الأستاذ وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، في لقائه، مؤخراً، على الجزيرة مع الإعلامي غسان بن جدو، حين طلب إعلان براءة من قبل الجماعة من كافة تحالفاتها الخارجية مع أعداء سوريا، عندما سئل عن طبيعة وحقيقة الأخبار عن اتصالات مع الإخوان.

والخطوة بحد ذاتها، أيضاً، وفي شقها السياسي البحت غير البروتوكولي، تعتبر واحدة من أهم عوامل القوة الكبيرة المضافة، مؤخراً، إلى الرصيد المتنامي للنظام الذي كانت الجماعة تحاول حتى وقت قريب الإطاحة به، وتصب في طواحينه وهو الذي يشعر، ويعيش اليوم، حالة من الاسترخاء الإقليمي الملموس، بعد معايشة أحداث وتطورات جسام، عصفت به، وكانت جبهة الخلاص، وربما انشقاق السيد النائب، إحدى تجلياتها، واعتقد كثيرون فيها، ومعها، أن النظام سائر، لا محالة، إلى زوال.

ولعل هذه الفقرة التي وردت في صلب بيان الانسحاب تعطي فكرة عن الدوافع والخلفيات الحقيقة وراء الانسحاب وتلخص وتختزل ومن عدة وجوه وأبعاد، براغماتية الإخوان:quot;بناءً على ما تقدّم، وفي ضوء هذه المتغيّرات، كان لا بدّ من إعادة النظرِ في الموقف من جبهة الخلاص الوطني، فقامَتْ جماعتُنا من خلالِ مؤسّساتها المعنيّة، بتقويم هذه التطوّرات، وانعكاساتها على الموقف العام، في إطاره الوطنيّ والعربيّ والإسلاميّ، ومراجعةِ موقفها من الجبهة، في إطارِ الثوابتِ الوطنيةِ والموقفِ السياسيّ المعتمَد، وقرّرتْ بعد التداولِ والتشاور، وبأغلبيةٍ كبيرة، الانسحابَ من جبهةِ الخلاص الوطنيّ، بعد أن انفرطَ عقدُ الجبهة عملياً، وأصبحَتْ - بوضعها الحاليّ - عاجزةً عن النهوضِ بمتطلّباتِ المشروعِ الوطنيّ، والوفاءِ بمستلزماتهquot;.

إذن quot;انفرط عقد الجبهةquot;، عملياً، أو انهار نهائياً، ولا كبير فرق بلاغي هنا، وبفم إخواني صريح عال غير موارب على الإطلاق، وغير عابئ بمشاعر حلفائه القدامى. ولكن، وفي الحقيقة، وربما يفسر هذا جيداً طبيعة رد النظام عندما يتحدث بثقة عالية في تناول هذا الموضوع، فقد ضعف زخم ذاك التحالف بين الإخوان وخدام، مذ أفول نجم المحافظين الجدد، وانهيار مشروع الشرق أوسطية، وتراجع حدة التهديدات والضغوطات على سورية، وما يبدو، اليوم، من عودة قوية للنظام إلى الساحة الإقليمية والدولية، وتلاشي أية آمال محتملة بانهيار وشيك للنظام. ولذا، وبرأينا، لم تكن الخطوات اللاحقة، بالتالي، ومنها انسحاب الإخوان، سوى تحصيل حاصل لتلك المستجدات والمعطيات الجديدة. وقد قرأ الإخوان تلك المعطيات بشكل عملي وواقعي، ووفق رؤيتهم التي تتواءم عادة والأوضاع الجيوبوليتيكة الراهنة، وكان ما كان من قرارهم المثير. ومن هنا، ربما لم تكن ذريعة غزة، التي قدمتها إسرائيل لهم، ويا للمفارقة، سوى غطاء عقائدي وقوي لتفعيل تلك البراغماتية والذرائعية الإخوانية المعهودة.

ومهما سيكون من أمر، ومن خلفيات وأبعاد الخطوة الإخوانية، وما سيحدث لاحقاً على جبهة علاقتها بالنظام، فإن جبهة الخلاص أضحت، عملياً، في ذمة التاريخ، ولم يعد لها أي وجود عملي على الأرض بعد انسحاب جماعة الإخوان ذات التمثيل الطويل العريض، والتي شكلت عماد التحالف وجسده النابض. ولا يمكن، باعتقادنا، لمن تبقى في ذاك التحالف، وبوضعه الحالي كبضعة أفراد متناثرين، هنا وهناك، يعتمدون في عملهم على محض quot;نجومية سياسية ذابلةquot; للسيد النائب السابق، من إحداث أي قدر من التأثير، والضغط، حتى المعنوي، على النظام السوري.

نضال نعيسة
[email protected]