بعد اكثر من ثمانية عشر عاما من الاستقلال الذاتي بصيغة الفيدرالية التي اقرها الدستور العراقي الدائم بعد سقوط النظام السابق، وثلاث انتخابات عامة نجح شعب كوردستان بتجاوز محنته في الخيار الديمقراطي واصراره على تداول السلطة من خلال صوت الشعب المكثف في صناديق الاقتراع التي استقبلت يوم الخامس والعشرين من تموز 2009م اكثر من 78% من مجمعوع ناخبيه الذين يربو عددهم على المليونين ونصف المليون ناخب، وهي نسبة تدلل على اصرار هذا الشعب على اختيار الطريق الديمقراطي في بناء تجربته الرائدة هنا في العراق. وبصرف النظر عن النتائج النهائية ومن سيفوز باكثرية الكراسي البرلمانية فان ما تحقق خلال الايام القليلة الماضية اثبت بأن الناجح الاول هو الشعب بكل اطيافه وطبقاته وشرائحه الذي ادرك إن الطريق الى المستقبل الزاهر هو الاعتراف بالاخر وقبوله ومشاركته في السلطة والمال والقرار والابتعاد كليا عن العنف والغاء الرأي الاخر أو مصادرته.


لقد اثبتت فترة الدعاية الانتخابية نضوجا واضحا في خطاب معظم الفعاليات السياسية حيث كان التعاطي مع الشارع والرأي العام عموما يحفظ مسافة الاحترام بين تلك الفعاليات في أدائها الاعلامي والدعائي، وقد ادت مؤسسات الدولة واجبها بنفس المسافات المتساوية بين الفعاليات والاحزاب والكتل، حيث لم تفرق قنوات التلفزة والاذاعة المملوكة للدولة بين احزاب رئيسية او كبيرة واخرى صغيرة او منافسة في تقديم الدعاية والاعلان لتلك الاحزاب ومرشحيها.


ورغم ذلك كانت هناك خروقات في الاقليم عموما اجملتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بما يقرب من تسعين شكوى في معظمها لم تؤرثر على مجريات الدعاية أو الانتخابات، بل وكانت حسب ما اعلنه الكثير من المراقبين الدوليين ومنهم مراقبي الجامعة العربية بأنها أقل من المستوى العالمي في هكذا انتخابات، هذا وقد بلغ عدد المراقبين نحو 45 الف مراقب بينهم 350 مراقبا دوليا من دول الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة والجامعة العربية، اضافة الى العشرات من المراقبين الاسيويين من تركيا وايران وكوريا واليابان.


لقد وصفت هذه الانتخابات بأنها الأكثر اثارة وتنظيما وقد تميزت بأقبال شديد وخطة امنية محبوكة بين كل اجهزة الامن الداخلي وحرس الاقليم بما لم يظهر أي تواجد غير طبيعي في الشارع ويؤمن تماما حركة الناخب وسلامته من البيت الى مكان الانتخاب وعودته بما لا يؤثر على حركة الحياة حيث تم رفع الحضر على المركبات والتجوال بعد ساعات قليلة من بدأ الاقتراع، وتحولت العملية برمتها كما قيل الى عرس وطني ساهمت به كل الاطراف المتنافسة في الاقليم.


انها فعلا الخطوات الاولى باتجاه بلورة معارضة حقيقية وناضجة تعمل تحت سقف المصالح العليا للبلاد بما لا يجعل الخلافات في الرأي والاتجاه يؤثر سلبا على لحمة المجتمع وثوابته العليا، وقد ظهرت اشارات ايجابية كبيرة على خيار الشارع الكوردستاني في التعاطي السلمي بمفردات الصراع الفكري او السياسي وهذا ما كان ظاهرا في الحملة الدعائية التي توقع الكثير من المراقبين حصول خروقات امنية او تصادمات عنيفة على خلفية الخلافات الفكرية او السياسية او الاجتماعية بين القوى المتنافسة على كراسي البرلمان او الرئاسة، واكثر ما ميز انتخابات هذه الدورة البرلمانية والرئاسية هي الاجماع الوطني الكبير على الرئيس مسعود بارزاني التي تشير اولى النتائج على تقدمه بنسبة 70% من اصوات الناخبين رغم الاختلاف السياسي على كراسي البرلمان الا انه يؤشر التفافا واضحا ومهما حول الرئيس.


ان الايام القادمة ستشهد حراكا سياسيا بمستوى الاداء الذي شهده الشارع الكوردستاني يوم الانتخابات وخلال الحملة الدعائية بما يبلور كتل برلمانية مهمة سواء في الحكم او المعارضة تنتظرها ملفات وطنية داخلية تتعلق بتنفيذ مفردات برامجها التي وعدت الاهالي بها وفي مقدمتها البنية التحتية للبلاد في الخدمات والاسكان والانتاجية والتحديث في وسائل الادارة ونظمها والاصلاح المالي، اضافة الى ملفات المناطق ذات الاغلبية الكوردية في محافظتي نينوى وديالى وحسم موضوع كركوك وبقية المشاكل مع الحكومة الاتحادية في بغداد بما يعزز الاتحاد الاختياري بين مكونات الشعب العراقي واحترام الدستور واعتباره المحطة التي يجتمع فيها كل ابناء البلاد ومرجعيتهم القانونية والتشريعية.
انها بحق واحدة من اهم نجاحات شعب كوردستان التي جاءت لتحقق ما ذهب اليه منذ الايام الاولى لحركة التحرر الكوردية الزعيم مصطفى البارزاني في انتهاج الديمقراطية طريقا لتحقيق الاهداف والقبول بالاخر بما يعزز قوة الشعب ونظامه السياسي ويؤسس لتقاليد تداول السلطة وفق اسس متحضرة وراقية تجعل الدولة ونظامها السياسي اكثر قوة ومنعة بمعارضتها الوطنية الناضجة.


حقا كانت كلمات قليلة الا انها كبيرة في معانيها حينما صرخت احدى مراقبات المراكز الانتخابية بعد انتهاء الانتخابات مباشرة:(لقد نجحنا يا كوردستان).

كفاح محمود كريم