عند النظر الى الماضي القريب، نرى بان افرازات التقسيم الاستعماري قد مزّق وقسّم كردستان ووزّع الشعب الكردي ادارياً وسياسياً على دول شكّلت بعد اتفاقية سايكس- بيكو. القرن العشرين الذي شهد حربين عالميين وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة، كان حق تقرير المصير والحرية للشعوب المضطهدة احدى سماته الاسياسية، وكما نرى في الكثير من الاحيان ان لكل قاعدة شواذ، فقد اصبح الشعب الكردي شاذاً وخارج قاعدة اعطاءه حقه في تقرير مصيره، وبعد ان فقد حريته وحقوقه القومية والوطنية والتأريخية في ارضه، سلك طريق الشرعية الثورية والنضال الثوري (حاله حال الشعوب المضطهدة التي ناضلت وتناضل حتى اليوم من اجل الحرية والسلام) لاسترداد الحقوق المسلوبة، وكانت هذه هي المرحلة الاولى في طريق النضال.


بعد عقود من الفداء بالروح والدم، استطاعت الحركة التحررية الكردستانية في كردستان العراق من تحرير اقليم كردستان من ايدي البعثيين الذين عثوا في الارض فساداً وقتلاً. وجاءت الانتخابات البرلمانية في أقليم كردستان قبل 18 عاما (أي عام 1992 ) كي تتوّج عقود من النضال الدؤوب وتحول الشرعية الثورية والنضالية في تسلم السلطة الى الشرعية الانتخابية والبرلمانية في حكم الاقليم، وبذلك انتهت مرحلة النضال الثوري وبدأت مرحلة الادارة، وكانت هذه الخطوة آنذاك من لدن الجبهة الكردستانية خطوة مهمة نقطف ثمارها حتى اليوم. فبفضل هذه البنتة الحسنة، استطاع اقليم كردستان ان يقترب رويداً رويداً من الديمقراطية والاستقرار السياسي والاقتصادي.


بعد حرب تحرير العراق وسقوط النظام البعثي، تمّ كتابة الدستور العراقي بمشاركة أغلبية القوى السياسية العراقية وصوت له حوالي 80% من ابناء الشعب العراقي، وتمّ تثبيت النظام الفيدرالي الاتحادي كنظام حكم في العراق، وبذلك فتحت ابواب الغرف المغلقة ولأول مرة امام الممثلين الحقيقيين الشرعيين لشعب اقليم كردستان، وبدأ الوجود الكردي في اماكن اصدار القرار في بغداد ضرورياً نظراً لثقلهم وتجربتهم التي اكتسبوها في ادارة الاقليم، وأصبحت أربيل نقطة التقاء الفرقاء.


يوم 25/07/2009 وبعد اسابيع من الحملات الانتخابية الصاخبة والتنافسية، جرت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في اقليم كردستان في جو ملئ بالتنافس والحركة من قبل جميع الاطراف والقوائم المشاركة، وكانت هذه القوائم بلا استثناء، كلٌ تغني على ليلاها، بدون أية عوائق أو تضييق (بالفعل كانت هناك بعض التشويشات هنا وهناك، ولكن كان هناك مجال واسع امام كل القوائم للتحرك بحرية). هذه الانتخابات كانت امتحانا صعباً للديمقراطية الكردية في هذه المرحلة الحساسة ويمكننا القول بان ديمقراطيتنا اجتازت الامتحان وهي بخير وتستحق ان نفتخر بها ونسير بها قدما نحو الامام أكثر فأكثر.


بلا شك غيّرت هذه الانتخابات تضاريس الخارطة السياسية لاقليم كردستان، هنا علينا ان لا ننسى بان هذه التغييرات ما كانت لتولد من رحم هذه الانتخابات بدون رحابة صدر وحكمة القيادات التأريخية للشعب الكردي (المتمثل بالاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني). هناك مثل فرنسي يقول، لا تبصق في الطعام الذي أكلت منه، علينا ان لا ننسى بان هذا الجو الديمقراطي الذي نملكه اليوم (رغم الشوائب والنقوصات) ما كان لنا ان نعيشه بدون نضال هذين الحزبين الكبيرين. أنا اتفهم ما يقال هنا وهناك في السنوات الاخيرة عن التقصير في الاداء الحكومي وعدم الحد من ظاهرة الفساد الموجود، لكن علينا ان نكون منصفين وان لا نبصق في الطعام الذي أكلنا منه بل علينا احترامه لأنه أنقذنا من الآم الجوع قبل ان نشبع.


د.لؤي الجاف

باريس