عبدالجبار خمران من باريس:إذا كان عنوان العمل الإبداعي عتبة للدخول إلى عوالمه ومقترحاته الفكرية والجمالية و مفتاحا لحدائقه الخلفية ، فعنوان فيلم يوسف شاهين وخالد يوسف الأخير quot;هي فوضىquot; يشمل ذلك ويتجاوزه ليفتح أفقا لقراءة مرحلة زمنية آنية من التاريخ المصري في صيرورته اليومية على كثير من الأصعدة.. يشرح الفيلم - إذا ما كان الفيلم يقدم شرحا- وبعمق الحيثيات والدوافع التي تجعل من إدمان رجل الشارع المصري الإستنكار والإحتجاج والتظاهر والإعتصام فرض عين..

من فيلم هي فوضى
الفيلم يستأنف بتظاهرة ليختتم بأخرى ، دائرة مقفلة لافجوة تفك أو تكسر حتمية الدوران داخلها إلا القضاء على الفساد و أهل أقبية التعذيب ، الراسخين في القمع ، أمثال حاتم ، أمين الشرطة المستغل لوظيفته وquot;بدلته الميريquot; - بالتعبير المصري- وتواطؤ مرؤوسيه .. إنه زمن لا يعلو فيه القانون بل يعلى عليه .. زمن يضيع فيه الحق حتى لو كان من ورائه مطالب .. زمن انقلاب الموازين والتلاعب بالقيم ..استغلال المناصب متفشٍ في المجتمع ودهاليز السلطة فيه تحتضن المستمتعين بالتماهي معها. بل يعتبرون أنفسهم الوطن المتجلي ، رأيquot;حاتمquot; أن البلد فيها حكومة والحكومة هده هي quot;حاتمquot; ..

و لا تقتصر انتهاكات quot;حاتمquot; على ابتزاز أهل حي شبرا العريق وأخد الإتاوات منهم ، بل يتعداه إلى التسلل إلى بيت الجيران - وهو رجل قانون- حيث غرفة نوم quot;نورquot; الفتاة التي تحب quot;quot;شريفquot; وكيل النيابة ،والذي يقدمه الفيلم كمقابل quot;إجابيquot; لرجل السلطة الشاب المحتِرم للقانون والدي يتجاوز على المتهمين بالتظاهر و المرفقين بمحاضر ملفقة..فأمه يسارية التفكير من زمن السادات تعرفت إلى زوجها quot;أبي شريفquot; بتظاهرة طلابية .

ويتمادى هذا quot;الحاتمquot; في تحتيم سلطته وتسلطه ليتجاوز كل الخطوط ، حيث يطلب من إمام المسجد ومن الأب في الكنيسة ،كل على حدا أن يعملا على خدمته بتوفير quot;حجاب القبولquot; .. فلامبالاة ابنة جارته quot; نورquot; وجفاؤها يجعله يقد النوم من حجر..ولأن رجال الدين لا يقبلون توفير quot;القبولquot; والدخول في أمور الشعوذة و الدجل ، والخضوع لنزوات وطيش رجل الشرطة quot;المبجلquot;، يصرخ الأخير وسط الكنيسة الفارغة إلا من صوته الصاخب :quot;لا ترانيم ولا احتفالات .. لا إحياء لمناسبات دينية quot; فأيقونة حاتم الكلامية والتي يرددها على مسامع المصريين في حي شبرا : quot;إلي مالوش خير في حاتم ما لوش خير في مصرquot;.
ولأنه واحد من رجال الظل الراسخين في تدبيج المحاضر وتلفيق التهم وإخفاء المعتقلين بزنازن مشبوهة خارجة عن دائرة ضوء القانون ،كأنها ملك خاص ..فهو لا يمث لأهداف النظام كدولة إلا بتفريغ مكبوتاته الذاتية السلطوية منها والجنسية..ففي مشهد معبر يقدم لنا المخرجان وبمونتاج سينمائي ذكي لقطتين متتاليتين :
الأولى تصور حاتم وهو يؤنَب من طرف quot;شريفquot; وكيل النيابة بعد أن وقع محضرا يمنع بموجبه من التعرض أو التحرش ب quot;نورquot; .. اللقطة الثانية تليها مباشرة ، وهي مصحوبة بتأثير موسيقي ممزوج بصراخ المعتقلين ، تصور حاتم وهو في المعتقل وحش هائج يجلد بسوطه المعتقلين/ أجساد الشباب العارية المعلقة..

الفيلم لم ينس فوضى الإنتخابات ، فمرشحو الحزب الحاكم لا يراعون حرمة المدارس ، فملصقات المرشح لا حدود ولا حواجز تمنعها من أن تعلق في ساحة المدرسة رغم أنف المدير.وعلى مستوى آخر يقدم الفيلم في مشهد مركز فوضى أخرى متفشية بالتعليم ،فنور مدرسة إعدادي تنكمش ثقافتها وقدراتها على تعليم التلاميد اللغة الإنكليزية، الشيء الدي يكتشفه المفتش، فلا أحد بالفصل يفقه حتى الإجابة عن سؤال : quot;ماعنوان بيتكم؟quot; مما يضطر المدرسة إلى الإعتراف صراحة أمام المفتش أن تعليمها نفسه ناقص ، فهي حاصلة على بكالوريوس لغة أجنبية لا تفقه فيها إلا النزر القليل..وفي الجامعة لم يكن لها الإمكانيات لمتابعة الدروس الخصوصية ، إذن مدرجات الجامعة غير كافية وبالتالي لا تفي بالغرض التربوي المرجو منها.باتجاه النهاية تكتمل تجليات فوضى السلطة وفوضى الأخلاق وفوضى المجتمع : الإغتصاب

يستدرج حاتم نور لذروة الحدث ،وبمساعدة مجرم يخرجه من الزنزانة لهدا الغرض ، ليعيده من حيث أخرجه بعد انتهاء المهمة..فهو رجل السلطة المتنفد المتلاعب بالخيوط الخفية للعبة كبرى يمثل هو إحدى حلقاتها quot; غير المفقودةquot; فكل أهل الحارة يعلمون بما حدث ويكتشف شريف الزنزانة الخفية التي يقبع فيها المجرم المساعد لحاتم في عملية اغتصاب نور - وإسم quot;نورquot; هنا له أكثر من دلالة- اسم شريف أيضا .. والذي يضطر نفسه إلى quot;البلطجةquot;..لا ينفعك أن تكون شريفا في مجتمع يستبيح كل شيء ..يخرج وكيل النيابة المحترم مسدسه ويصرخ : quot; بلطجة ببلطجة..quot; فيطلق رصاصه على باب الزنزانة/الحرام ..ليكتشف السر ويظهر الدليل..فلتطبيق القانون يجب الخروج على القانون ..
فإلى متى نظل ننتظر في عالمنا العربي سيادة دولة الحق والقانون؟؟
تجدر الإشارة إلى ان الممثلين وفقوا كثيرا في إيصال معاني الشخصيات/الرموز : خاصة خالد صالح في دور quot;حاتمquot; والذي كان متميزا بشكل لافت ،تلويناته الصوتية ، دخوله في عباءة رجل السلطة ، طفوليته أمام quot;نورquot;.. استطاع خالد صالح أن يبرز بعدين متناقضين في شخصيته - الوحش الكاسر والحمل الوديع- لكن باتساق وباحترافية ستجعل دوره في الفيلم راسخة لزمن ليس بالقصير.أيضا هالة فاخر في شخصية quot;بهيةquot; الإسم الدي يعيد للذاكرة quot;بهيةquot; فيلم quot;العصفورquot; المرأة رمز للرفض عند يوسف شاهين خاصة عندما يتعلق الأمر بالنساء المكافحات من اجل تربية الأولاد وتوفير لقمة العيش مع الحفاظ على الكرامة والشرف إنها الضمير الحي ..كانت المحرك للتظاهرة في آخر الأحداث.كدلك منى شلبي في دور quot;نورquot; ويوسف الشريف في دورquot;شريفquot; استطاعا تجسيد ثنائية quot;النور والشرفquot; الممزوجين حبا .. فالحب في أفلام شاهين رافعة للتجاوز واختراق العقبات..هالة صدقي جسدت من خلال quot;ودادquot; الوعي الإجتماعي المتجاوز للحواجز فكونها من طبقة متوسطة لم يجعلها ألا ان تحتفي بنور ذات الأصول الشعبية وتتمناها زوجة لابنها رغما عن ارتباطه بفتاة تعكس تفاهة بعض شباب الطبقة المترفة.

مسرحي مغربي- مقيم بباريس