باول تسيلان سيرة ونماذج (4/10)
ترجمة وتقديم عبدالقادر الجنابي: "كورونا"Coronaقصيدة باول تسيلان(اقرأ سيرته )كُتبت اواخر 1947 وعنوان ديوانه الأول، الذي ضمّها، "خشخاش وذاكرة"، مأخوذ من بيتها السابع.. تنطلق "كورونا" (تاج، إكليل) مما يسمى بالألمانية widerruf معاكسة، بل نفي القصد المراد في قصيدة الشاعر الألماني ماريا راينر ريلكة "يوم خريفي". فقصيدة ريلكة، تعلن عن اقتراب وقت القلق والعزلة (الخريف)، وبالتالي الاستسلام الكلي لمشيئة الهية. بينما في قصيدة تسيلان دعوة صريحة لمعاكسة هذه المشيئة وإبطال مفعول هذا القدر المكتوب على الشعب اليهودي أن يهيم في خريف التاريخ الأبدي لا يقر له قرار، غير قادر على بناء بيت له. ذلك أن تسيلان تعمّد في أن يبقي البيت الأخير، "الوقت حان"، منفصلا وكأنه يعبر عن ضرورة ملحة: آن أن يبني اليهودي الأزلي بيتا، فيكفّ عن التهيان الأبدي الذي يعيشه بسبب ذاك "الإكليل من الشوك" الذي وُضع على رأس المسيح وهو في طريقه إلى الصلب. فإذا كان خريف ريلكة المسيحي نذير شؤم وسوداوية تتساقط فيه الأوراق، فإن تسيلان لا يرفض فقط ما يبدو ظاهرة طبيعية حيث تذبل الأغصان، بل يريد تغيير حتى المسار الطبيعي كله، بل حتى على الحجارة نفسها أن تقرر الازدهار. لنقرأ القصيدة كاملة:
باول تسيلان: كورونا
من يدي يأكلُ الخريفُ ورقتـَه: نحن أصدقاء
نقشّر الزمنَ من الجوز، ونعلـّمه المشي: *
ويعود الزمنُ إلى قشرته.
في المرآة إنه يوم أحد
في الحلم ينام المرء
الفم يفوه بالحقيقة
عيناي تهبطان نحو جنسِ المحبوبة **
ننظرُ إلى بعض
نتحدث عن أشياء داكنة ***
نحب بعضناكخَشخاشٍ وذاكرةٍ
ننامُ كخمرةِ في جَـوف المحار****
كالبحرِ في خيط دمٍ دافقٍ من القمر *****
نقفُ متعانقين عند النافذة، ينظرون إلينا من الشارع:
الوقتُ حان ليعلـَم المرءُ
الوقتُ حان أن تجهد الحجارة لتزهر،
أن ينبض قلبٌ لـ(إيقاف) الاضطراب ******
حان الوقتُ، أن يكون الوقت.
الوقت حان.
•نُشرت حديثا صور طبق الأصل للقصائد التي ترجمتها دينيز نافيه إلى الفرنسية (في منتصف خمسينات القرن الماضي)، مع تصحيحات تسيلان بخط يده... وقد أفادتنا تصحيحاته لقصيدة "كورونا". في النقاط التالية: * وضع تسيلان العبارة التالية بالفرنسية كمقابل أوضح للعبارة الألمانية: Dans les noix nous décortiquons le temps .. والترجمة الخرفية للعبارة الألمانية هي: "نقشّر الزمن مستخرجينه من الجوز".
** وفقا لمحققة أعماله بربارة فيدمان: البيت هذا يوحي إلى اسطورة أورفيوس وهبوطه إلى العالم السفلي لانقاذ محبوبته. وبذلك يشير تسيلان أيضا الى المحرقة التي لحقت باليهود في ظل النازية، وفي الوقت نفسه هو استرجاع للتراث المسيحي المتعلق بالموت والإنبعاث. كما أن كلمة Geschlecht التي تعني "جنس (عرق)، وعضو جنسي في آن. وهنا معنيان متقاطبان في القصيدة. جنس (العضو الجنسي) المحبوبة وجنس الأحبة أي الشعب اليهودي.
*** في تصحيحاته المذكورة أعلاه، حذف تسيلان ما اقترحته المترجمة الفرنسية obscur (غامض، مبهم) كمقابل لـ Dunkles ووضع مكانها sombre (داكنة، معتمة، كئيبة).
**** كما أنه أضاف في هذا البيت كلمة creux (جوف، غور، تجويف) مع أنها غير موجودة في النص الألماني، فوجدت انه محق في إضافته هذه الكلمة لكي تستقيم الصورة وتتضح. وفي البيت لعب على معنيين لكلمة weinen التي تعني في الألمانية نبيذ و"يبكي".
***** Blutstrahl حرفيا دفقة دم تنز من القمر، غير أن Strahl توحي أيضا "خيط نور" من القمر
****** الترجمة الحرفية هي: "أن ينبض قلبُ للقلق"، ومضمرا أن ينبض قلب لكي ينهي عدم الاستقراؤ هذا والاضطراب النفسي. والكلمة Unrast تعني هنا أيضا قلق، عدم استقرار. حذف تسيلان ما اقترحته دينيز inquiétude (قلق) ووضع مكانها ما بلي: ce qui a ni repos , ni cesse وحرفيا: "ما ليس له راحة، ولا توقّف"
والآن، لتقرأ قصيدة
راينر ماريا ريلكه: يومٌ خريفيٌّ
الوقتُ حانَ، يا رب. كم الصيفُ كان عظيمـًا
القِ بظلك على المزاول
ودع الرياح تهبّ في الحقول
مُـرْ فلولَ الثمارِ أن تكتملَ
امنحْـها يومي دفء آخرين *
عجّـل نضوجها وسُـقِ **
الرضابِ الأخير إلى النبيذ الثقيل
من لا منزلَ لهُ الآن، لن يبني بيتا بعدُ
من هو وحيدٌ الآنَ سيبقى هكذا طويلا
سيَـأرقُ ويقرأُ، ويكتبُ رسائلَ طويلةً
وسيجول قـلقا في الشوارع جيئة وذهابا،
حين تِطـّايرُ الأوراق. ***
*يومين صيفيين آخرين
** يمكن ترجمتها بـ"واقتنص (ادفع) الحلاوة إلى النبيذ الثقيل"
*** عندما تتناثر الأوراق
إضاءة:
Coronaتعني "تاج، إكليل"، لها معان عدة منها: كعنوان يطلق على أعمال أدبية تتناول مسائل مسيحية. فمثلا، اطلق الشاعر الميتافيزيقي جون دُن "كورونا" على دورية "سونيتات مقدسة".. كما ان "كورونا" توحي بنمط شعري يفترض تكرار البيت الأول في آخر بيت للسونيتة الأخيرة. المعنى المراد في قصيدة تسيلان هو الإكليل من الشوك الذي "ضفَرَه الجنودُ ووضَعوهُ على رأسِ" المسيح.
المتحدث في القصيدة يؤكد أنه وهذا "الخريف" أصدقاء"، ويحاول أن يرى العالم قد تغير، والزمن قد تحرك.. على أن الزمن لا يزال ثابتا، لم يتحرك، بل كلما يتم تقشيره من ركام الماضي، يرتد إلى "القشرة". وها هنا نجد تلميحا، عن هذا الزمن الثابت بحق اليهود، إلى "سفر الجامعة": "تذهبُ الريحُ إلى الجنوب، وتدورُ إلى الشمال تدور وتدور ذاهبةً، ثم إلى مدارها تعود"!
الجوز، ثمرة خريفية، له دلالة سيئة في شعر تسيلان. كما أن القشرة ترمز في العرفان اليهودي التأويلي الـ Cabala، إلى "الشر في الشجرة الكونية".
بالنسبة إلى يهود اوروبا الشرقية، يمثل السبت أملا بظهور "المشيّاح" (المسيح المنتظر). لكن المرآة تعكس يوم أحد، والأحد عند المسيحيين هو رمز قيامة المسيح (عيسى)، وبالتالي إشارة إلى اضطهاد جديد سيعانيه اليهود.
وكما تشير بربارة فيدمان في تحليلها لـ"كورونا" تحتوي موضوعة "المحار" فكرة الحفاظ على الذكرى وسط عالم متغير يرمز له بـ "البحر" مع إسترجاع لما يتمثل في الحب من حضور آني ومتعة قد تؤدي الى النسيان مثلما يحصل من خلال إستخدام الخشخاش والنبيذ، غير أن الأخير يحتوي في تسميته Wein على مفهوم الحزن، ويمكن تفسير "شعاع الدم" بدم يعقوب السماوي الذي يقيم في المحار كنبيذ (العشاء الأخير في المسيحية).
لم يفت تسيلان أن يستخدم في تناول موضوعه الأسلوب الإيروسي المتبع في "نشيد الانشاد". فالقصيدة تنضح إيروسية في صور تتعاقب متوترة مفعمة بالقلق، الرغبة والكبت التاريخي. والأبيات، كما تقول بربارة فيدمان، تكاد تشبه نوطات متكاملة موسيقيا كما في النوع الموسيقي المعروف بـ Fermante والمبني على وقفات تسمى كورونا بين نوطة وأخرى.. ووجدت في إحدى الدراسات المتعلقة بالفرمانتا بانها تسمى أيضا "عين الطائر".. وهكذا يمكن القول أن تسيلان أستطاع في هذه القصيدة تكثيف مصائر تاريخية في لقطات جد قصيرة حيث كل بيت يقف لذاته.
باختصار: تكشف كورونا عن موقف الحادي متمرد على كل الارادات الدينية، ودعوة إلى أن يصنع اليهودي تاريخه خارج كل وصاية تراثية بقي أسيرها عشرات القرون. فقد كرر تسيلان أربع مرات عبارة "الوقت حان".. آن أن يمر، دون أذية، خريف إله ريلكة المسيحي... الذي بسببه تلاشى اليهود "كالدخان وعظامهم كالوقود اضطرمت" في مداخن النازية... كما أن موقع "كورونا" في هذا الديوان جد مهم إذ تأتي مباشرة قبل قصيدته الشهيرة Todesfogue وكخاتمة للقسم المعنون بـ"رمل من الأوعية" (والعنوان هذا تلميح إلى رماد الضحايا اليهود ومن الأفضل أن يترجم العنوان على النحو التالي "تراب من أوعية القبور" لكي يفهم غرض تسيلان).
كتب راينر ماريا ريلكه في كتابه "رؤى المسيح" المكتوب بنفس الفترة التي كتب فيها قصيدته "يوم خريفي" (1902) الأبيات التالية: "هكذا أتطاير كورقة ذابلة/ أتعرفون أسطورة اليهودي الأزلي / إنّ Ahasver تلك الورقة المتطايرة، هو أنا".. والغريب أن باول تسيلان هو أيضا يستعمل في أشعاره Ahasver كإشارة إلى اليهودي الأبدي (الجوال) الذي يعتقد أنه سخر من المسيح وهو في طريقه إلى الصلب، فاعلمه المسيح بعقاب يبقيه تائها إلى الأبد حتى يعود. والمرجع التاريخي لهذا اللقب Ahasver كتاب نُشر في هامبورغ عام (1602) كتبه الكاهن بولص فون آيزن، يروي فيه لقاءه في هامبرغ عام (1542) بيهودي اسمه Ahasver يدعي أنه أزلي وهو نفس الشخص الذي عاقبه المسيح بالتيهان الأبدي.
"رؤى المسيح" لم تنشر إلا بعد 1948. وهذا يعني إما باول تسيلان اطلع على المخطوطة، فمن المعروف عنه أنه نهم القراءة، أو أن كلاهما يستقي من نفس المراجع.
اعتمدنا في كتابة هذه الاضاءة على تأويلات نقاد عديدين، بالأخص الناقد الأمريكي جيري غلين الذي يعتبر واحدا من أوائل الذين خصصوا كتابا كاملا لدراسة شعرية باول تسيلان، (فكتابه صدر بالانجليزية عام 1973) وأول من ركز على الجانب اليهودي في هذه الشعرية الصلبة في تعاملها مع المعطى التاريخي للغة وبالتالي لمشكلة الإنسان – العرق مع حتمية المكتوب. لا يفوتني أن أشكر الصديق القاص صالح كاظم إلى تزويدي ببعض نقاط الناقدة الألمانية بربارة فيدمان. وها هنا الأصل الألماني للقصيدتين:
Paul Celan:
Aus der Hand frißt der Herbst mir sein Blatt: wir sind Freunde.
Wir schälen die Zeit aus den Nüssen und lehren sie gehn:
die Zeit kehrt zurück in die Schale.
Im Spiegel ist Sonntag,
im Traum wird geschlafen,
der Mund redet wahr.
Mein Aug steigt hinab zum Geschlecht der Geliebten:
wir sehen uns an,
wir sagen uns Dunkles,
wir lieben einander wie Mohn und Gedächtnis,
wir schlafen wie Wein in den Muscheln,
wie das Meer im Blutstrahl des Mondes.
Wir stehen umschlungen im Fenster, sie sehen uns zu von der Straße:
es ist Zeit, daß man weiß!
Es ist Zeit, daß der Stein sich zu blühen bequemt,
daß der Unrast ein Herz schlägt.
Es ist Zeit, das es Zeit wird.
Es ist Zeit.
***
Rainer Maria Rilke
Herbsttag
Herr: es ist Zeit. Der Sommer war sehr groß.
Leg deinen Schatten auf die Sonnenuhren,
und auf den Fluren laß die Winde los.
Befiehl den letzten Früchten voll zu sein;
gieb ihnen noch zwei südlichere Tage,
dränge sie zur Vollendung hin und jage
die letzte Süße in den schweren Wein.
Wer jetzt kein Haus hat, baut sich keines mehr.
Wer jetzt allein ist, wird es lange bleiben,
wird wachen, lesen, lange Briefe schreiben
und wird in den Alleen hin und her
unruhig wandern, wenn die Blätter treiben.
التعليقات