إيمان القويفلي

باختصار، المسألة هي إما أن يكون الحراك الاجتماعي والسياسي متّجها ً نحو المزيد من تقاسم السلطات وإشراك قطاعات أكبر من المواطنين، أو أن يكون متّجهاً نحو المزيد من الاستحواذ على السلطة وتركزها في أيدي شريحة ضيقة أو عدد محدود من الأشخاص. وأغرب ما يمكن رؤيته في البلاد العربية أن يختار مواطنوها طوعاً دعم الخيار الثاني وأن تُكرّس جهودهم وأنشطتهم من أجل إقرار حرمان قطاعاتٍ أوسع من المواطنين من الحقوق ndash; المحدودة ndash; التي يحوزونها، هذا أغرب ما يمكن حدوثه في بلاد إما يهددها خطر التحوّل إلى نظام حكمٍ استبدادي، أو هي واقعة تحت حكم استبدادي بالفعل.
ضمن هذا المنظور يتوجّب علي أن أفهم ما يحدث الآن في الكويت، بما أنني فهمت سابقا ً فوز النائبات الأربع على أنه توجه نحو المزيد من تحقيق العدالة الاجتماعية وإشراك فئة جديدة من المواطنين في القرار. نَشط بعض نواب البرلمان وبعض المواطنين من أجل إبطال عضوية النائبتين غير المحجّبتين والوزيرة أيضاً معهما، على أساس نص المادّة الدستورية التي تربط بين الحقوق السياسية للمرأة وquot;الالتزام بالقواعد والأحكام المعتمدة في الشريعة الإسلاميةquot;، بل إن الإبطال قد يطول الانتخابات الماضية كلها وربما التي سبقتها، بما أن هذه المادّة تشمل الناخبات أيضا. الحكم الدستوري المنتظر في هذه القضية سيصدر الأربعاء القادم. إذا جرّدنا القضية من التفصيلات الشخصية، فهي ذهاب صريح في الاتجاه الثاني؛ أي نحو استبعاد النساء غير المحجبات من العملية السياسية والذي هو تضييق لمشاركة المواطنين في القرار وحصر للسلطة السياسية في شريحة أصغر، بمقدار عدد النساء الكويتيات غير المحجبات. بشكلٍ جوهري، هذه ليست إلا البداية. التحركات السياسية التي استطاعت أن تفسّر ما جاء في المادة الدستورية عن quot;القواعد والأحكام المعتمدة في الشريعة الإسلاميةquot; على أنه يعني الحجاب تحديداً، قادرة على استنباط إلزاماتٍ أخرى كثيرة تخص نوع الحجاب أو المذهب أو الجنسية، وإخراج فئات أكثر وأكثر من المشاركة السياسية. الدساتير غير محصنة وجزء كبير من نجاحها على الأرض يعتمد على ما يرغب المواطنون في فهمه منها، وقضية حجاب النائبات تنم عن رغبة ليست في صالح أحد. لم يلجمها الخلل المنطقي الواضح في مسألة السلوك الديني للنائبات النساء فقط دون النوّاب الرجال (بمساعدة من المادّة الدستورية نفسها)، وهذا ربما لأنهنّ الحلقة الأحدث والأضعف في المشهد السياسي فيسهل استهدافهنّ دون غيرهن من الكتل ذات الوجود التاريخي في البرلمان، وربما أيضاً لارتباط مظهر المرأة في المخيّلة النمطية بالانضباط الديني وحجابها بطهرانية المشهد الاجتماعي. وأيضاً لم يلجمها احتمال تحفيز النفعية السياسية، كأن تلتزم المرأة ذات الطموح السياسي بالحجاب خصيصاً من أجل الوصول إلى البرلمان، وهذا لا يمكن أن يكون في الصالح العام بأيّ حال. هذا بخلاف التشوش الذي يثيره تعدد أنماط الحجاب و فتاواه، ودفع من تستهدفهم هذه القضية إلى اتّخاذ موقف ضد الحجاب وهو موقف في غير صالح الحريات بشكلٍ عام.
تبدو هذه قضية جديدة من قضايا الحجاب المعولمة. وقد يبدو الحكم فيها سهلا ً نظرياً والانحياز بديهياً للحجاب في نظر المسلمين ممن هم خارج الكويت. من الصعب الاعتراف بهذا، لكن الحجاب عملياً وعلى أرض الواقع مُتعدد بشكلٍ كبير ضمن الأطر الثقافية المختلفة. صحيح أن قضية الحجاب أصبحت عالمية وعابرة للقارّات لكن الحجاب ذاته يوجد ويتطور في كل قطر بطريقة خاصة. الدفاع عن الحجاب في فرنسا أو تركيا يثير تعاطف المسلمين حول العالم، رغم أن الحجاب في فرنسا قد لا يكون أكثر من quot;بانداناquot; على الرأس. في تركيا من المألوف أن تلبس الفتاة المحجبة قميصاً قصير الأكمام يكشف الذراعين. في سوريا قد توجد المحجبة في سهرة غنائية عامة وتشارك في الرقص. النقاب الشبكي الذي ظن العالم كله أنه اختراع طالباني هو في حقيقته تراث أفغاني قديم. العباءة السوداء تراث حيّ في الخليج والعـراق والتشادور في إيران، لكن الشارع المصري حقق قطيعة مع تـراث اليشمك والمحجبة العاملـة تلبس البنطال مع الحجاب لتتمكن من اللحاق بالميكروباص. ليس هذا فقط، بل إن الحجاب يتطوّر ويتغيّر، يتمدد أو ينكمش، يستعيد ذاكرته القديمة كما في الحالة الطالبانية أو يعيد اختراع نفسه كما في الحجاب الأنيق للشابة الكويتية، يتكيّف حسب حركة المجتمع وحاجات النساء. أخذ هذا التفاوت في الاعتبار، بالإضافة إلى صعوبة حمل المرأة على الحجاب قسرا، وحقيقة أن وجود المرأة غير المحجبة لا ينطوي بحد ذاته على إقصاء أو منع للمرأة المحجبة من المشاركة وممارسة حقوقها، يفرض بعض التأني في استيعاب قضايا الحجاب المعولمة، التي توسّع انتشارها على سطح العالم، لكن الفهم العام لها لا يزال يفتقر إلى العمق.
وعلى ذكر العُمق، كانت هناك مرافعاتٍ من طرف التيار الإسلامي في غاية الجمال حول الحرية والديموقراطية والحقوق، إبّان قضية النائبة التركية المحجبة quot;مروة قاوقجيquot; التي كان إخراجها من البرلمان إقصاء يحاكي الحالة الكويتية. من المفيد استعادة هذه المرافعات اليوم، إذا كانت قضيتنا حقاً هي الحرية والديموقراطية والحقوق، وليس الحجاب، فقط. قد تقرأ الآن أن بعض المعلقين الكويتيين يدعون من لا ترغب في التحجب إلى الهجرة إلى حيث يمكنها أن تعيش دون حجاب. مروة قاوقجي المحجّبة بالمناسبة هاجرت إلى أمريكا التي استوعبتها، ولا أظنّ وطناً يفخر بتهجير أبنائه لأن طريقتهم في اللبس لا تروق له، سواء كانت تركيا، أو سواها.