أميرة كشغري

تصدرت صحفنا يوم الاثنين الماضي 19/ 7 صورة معبرة من صور أنشطة سوق عكاظ لهذا العام. وأقول quot;تصدرتquot; من باب الألفة ليس إلا! أما الحقيقة فإن الصورة استبطنت الصحف ولم تتصدرها. ولكني أرى أن موقع الصورة من الصحيفة أمر غير ذي أهمية، بل الصورة ذاتها هي ما تثير في النفس الشجون وفي العقل الأسئلة.
أما الصورة فهي لمواطن ارتدى ما إخاله لباساً عربياً أصيلاً، زينت رأسه عمامة ذات ذؤابة ويمسك بين يديه صحيفة. جعل الله صحفنا وصحفكم في أيماننا. ولقد كان المواطن يعتلي صخرة من صخور مدينة الطائف الحبيبة نحت عليها بيت من قصيدة كعب بن زهير، وquot;بانت سعادquot; فلم نعثر لها على أثر. ولقد تجمهر حول المواطن مواطنون كثر، يتضح من لباسهم ومن سيماهم أنهم رجالٌ ونساء، شبابٌ وكهول. ويتضح من تقارب أماكن وقوفهم كثرة في العدد وراحة في الشعور وتلقائية في الاستجابة وفطرية في المشاعر. أوليس الإسلام دين الفطرة؟
و أكاد أجزم أن ما رأيته بعيني هو اختلاط بين البشر وهم وقوف، وهو اختلاط بين البشر وهم يتحركون. وأكاد أجزم بأنه لم يسمع أحد عن منكر صار، أو كبيرة ارتكبت، أو باب للذرائع قد فتح، بل وكأني أتخيل أن القوم استمتعوا بالشعر الجميل ثم انطلقوا إلى أهلهم فرحين.
ولا يختلف الأمر عندي بين هذا الالتقاء وبين التقائنا نساء ورجالاً في محفل علم أو في ندوة فكر أو في ملتقى حوار. اللهم إلا أننا في المشهد الأول نلتقي وقوفاً بينما نحن في المشهد الثاني قد نكون جلوساً أو على الأرائك متكئين.
والاختلاط أضحى اليوم بعبعاً يشهر في وجوه الناس حتى بات واحداً من معضلات المجتمع المربكة والتي لم يستطع لها حلاً.
الاختلاط أصبح اليوم ممنوعاً. أفهم ذلك على اعتبار أننا وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية أسسنا لعادات وتقاليد ترسخ وتبني لهذا التوجه حتى أصبح الاختلاط هاجساً وموضوعاً للكثير من الجدل والمناظرات التي قد تصل إلى حد الاقتتال. نحتاج الآن إلى بناء عادات وتغيير قوانين حتى نهدم ما ترسخ من عادات لا تمت إلى الدين ولا إلى الفطرة الإنسانية الطبيعية وأن نشرع لقوانين تساعد في زحزحة ما بنيناه من عادات جعلت من وجود المرأة محرماً في الحياة العامة وممنوعاً من المشاركة في كل نشاط عملي خارج الدائرة المغلقة.
فلماذا يكون الاختلاط بين البشر ممنوعاً؟ إلا إذا كانت المرأة من غير البشر؟ لماذا يكون الاختلاط كما نراه يومياً ونعيشه واقعاً في الأسواق والحرمين الشريفين والشارع والمتنزهات ممنوعاً وهو ممارس وواقع إنساني؟ لماذا الاختلاط بين البشر quot;ممنوعquot; وهم جلوس بينما هو مسموح وممارس وهم وقوف ومتحركون كما رأيناه في سوق عكاظ ونراه في سوق جدة وسوق بريدة وسوق جازان وسوق القطيف؟
أعرف مسبقاً أن هناك المئات بل الآلاف ممن يعترضون على ما أقوله وحججهم quot;درء المفاسدquot; والآية القرآنية quot; وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنquot;. لهؤلاء المعترضين أقول: على مهلكم فدرء المفاسد أمر نسبي، ألا ترون معي أن عدم الاختلاط قد تسبب في مفاسد أيضاً. كثيرة هي تلك المفاسد ولا أحتاج إلى تعدديها إذ يكفي ما نراه من رجال وشباب ليس لهم هاجس إلا مطاردة النساء في الأسواق والطرقات. رجال ليس لهم هاجس إلا كسر هذا المنع بطرق أبعد ما تكون عن الإنسانية فهل درأ عدم الاختلاط شيئاً من هذه المفاسد؟
أما الآية القرآنية quot;من وراء حجابquot; فلست في حاجة إلى شرحها لأنني لا أخال أن واحداً منا لا يعلم سياق نزولها وأنها نزلت في الصحابة الذين كانوا يدخلون بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويسألوهن قضاء حوائجهم.
لسنا في حاجة إلى الجدل حول الاختلاط ولا حول الفرق بين quot;الاختلاطquot; وquot;الخلوةquot; فالاختلاط أمر طبيعي وفطري بين الناس. والإسلام حرم الخلوة ولم يحرم الاختلاط الذي كان شائعاً حتى الأمس القريب في مجتمعنا الفطري السليم بدليل ما يعرفه آباؤنا وأجدادنا عن مجتمعهم البسيط قبل أن تطغى موجة التشدد والفصل التعسفي بين الجنسين. لا أقول، كما قد يعترض المعترضون، إن الاختلاط سيحل مشاكلنا الكبرى وليس هذا الهدف ولا الغاية من كتابة هذا المقال، لكنه وبكل تأكيد سيجعل منا رجالاً ونساء أناساً أكثر توازناً وأقدر على التعامل مع معطيات الحياة بشكل فطري طبيعي بعيداً عن الشك والريبة والمطاردة. تحية لمهرجان سوق عكاظ فلعله يعيد للبشر شيئاً من فطرتهم السوية.