جاد نصرالله :...يحدثني آدم عن اعجابه بأبناء الطبقات غير الميسورة في لبنان، وكيف أن التعقيدات المعيشية في بلدهم لم تحل دون دخولهم الجامعات، وكيف ان رفضهم بالتخلي عن الحلم بتحقيق أحلامهم دفعهم الى معترك العمل الليلي.
يعرف آدم جيدا معنى التعب الذي يكابدونه لتأمين حاجياتهم وتحقيق أحلامهم. التقى خلال اقامته الطويلة، هنا في لبنان، بالعديد منهم. تعرف عليهم في اماكن العمل المتواضعة التي تنقل بينها.. حدثوه عن طموحاتهم فروى لهم حلمه.
... وحلم آدم، جرار زراعي!
بدأت حكايته في مكان آخر ، ولكن الجرار حمله الى لبنان.
...قبل نحو ثمانية اعوام ، كان آدم ضمن مجموعة مكونة من عشرة شبان إختاروا مخابئ لهم في الادغال الاستوائية. سكون مطبق يخيم على المكان، وفجأة تحين اللحظة المنتظرة للانقضاض بأدواتهم الحادة على الحيوان المفترس الذي يتجول في الناحية الاخرى .. ساعات من الإنتظار المضني تنتهي بصيد ثمين يتقاضون مقابله خمسين دولارا للفرد.
قد تكون الضحية أسد أو نمر أو فيل أو سواها من الحيوانات التي تعيش في هذه الغابات والتي تشكل ثروة يلهث وراءها التجار.إنها تجارة مربحة،جلود وفرو وأسنان عاجية وسواها من التفاصيل التي تدر ارباحا طائلة الى جيوب التجار الذين أسسوا شركات خاصة لتسويق هذه التجارة.


وآدم، شأنه شأن أبناء جيله، يشكل عدة الشغل، اي انه في هذا المعنى آداة بشرية اضطرته ظروفه المعيشية للخضوع لهذا النوع من العمل الذي لم يكن على الأرجح مقتنعا بصوابيته، ولكن تلك كانت مصادر العيش في بلاده التي ما لبث أن شح مردودها بسبب التدابير القاسية التي اتخذت ضد صيد الحيوانات البرية.
كان أبو آدم يملك اراض زراعية شاسعة وزّعها بين أبنائه بالتساوي، غير أن الارض كانت بورا وتحتاج الى حراثة وعناية وزراعة ولا يملك آدام ايا من المواد الأولية اللازمة لزراعتها.
رحل عن قريته النائية في غرب السودان جنوب دارفور، وشكلت ليبيا وجهته الأولى حيث أمضى ثلاثة أشهر من دون ان يحظى بأي فرصة عمل لينتقل بعدها الى السعودية بمساعدة اخيه الذي يقيم هناك .. كان هو ايضا أسير حلم آخر، اراد شراء حافلات لنقل المواشي عبر الحدود.
كانت اقامة آدم في السعودية غير قانونية، فافتضح أمره بعد وقت قليل، واودع السجن مدة ستة أشهر ليرحل بعدها الى بلاده التي هجرها سعيا وراء تحقيق حلمه.
دار آدم دورة كاملة ليجد نفسه مجددا في نقطة الانطلاق: السودان التي عاد اليها خالي الوفاض. إكتأب واسودت الدنيا في وجهه. وكان لا بد من ايجاد منفذ جديد يجرب فيه حظه.. وجاء بصيص الأمل هذه المرة عن طريق لبنان حين اتصل به ابن عمه ودعاه الى هذه البلاد التي غادرها قبل ان يصل آدم اليها!
وفي لبنان محاولة جديدة وقصة، لا بل قصص من نوع آخر. أقام في منطقة الجناح قرب المدينة الرياضية، في مربع سكني يكتظ بالعمال الآسيويين والافارقة والوافدين من الدول العربية.
أجواء من الفساد والدعارة والسرقة و"التشبيح" أبطالها شبان من دولة شقيقة يتنكرون بثياب عسكرية ويعترضون العائدين من اعمالهم المرهقة ليلا ويطلبون منهم ابراز الاوراق الثبويتة واقامة العمل،علما منهم ان إقامة معظم العمال غير شرعية. أسلوب تهويل للحصول على خوة من العمال السود على اعتبار "اننا اجانب.. وكأنهم من أبناء البلد".
في هذا المكان المزدحم يقيم عمال زهيدو الأجر و يبرعون في القيام بالاعمال الوضيعة كما يحلو للبعض أن يصنفها: كنس الشوارع وتجميع القمامة، وشطف الادراج، وتنظيف البيوت.. . لقد خبر آدم جميع هذه المهن وكانت قائمة سجله المهني طويلة، طويلة فشملت غسل الصحون والخدمة في الفنادق...
كان نهاره مبرمجا وفق إيقاع محدد ومنتظم. يستيقظ في السادسة صباحا، يقصد الفندق _مكان عمله_ مشيا.
ينتهي دوامه عند الرابعة من بعد الظهر،فينطلق مسرعا الى مركز عمله الثاني في أحد المطاعم في منطقة اخرى ، وقد يضطر أحيانا الى الركض حتى لا يتأخر على موعد بدء العمل في الخامسة من بعد الظهر، فآدم لا يستخدم وسائل النقل بل يستعين برجليه ليوفر كلفة التنقل.
لا يصف آدام عمله في المطعم مرهقا مقارنة مع ما يكابده في الفندق حيث يعمل أيضا في جلي الصحون، فهناك سرعان ما يفيض المطبخ يالاواني والصحون المتسخة ما ان تمتلئ قاعة المطعم بالزبائن.
ونهار العمل عند آدم طويل لا ينتهي قبل الواحدة فجرا من اليوم التالي. عندها فقط يتنزه عائدا الى حيث يبيت. فهو ،هذه المرة، ليس على عجلة من أمره بعد يوم طويل من العمل الشاق
. ساعات قليلة يستلقي خلالها في ركن غرفة يتقاسمها وتسعة شبان سودانيين لا يلتقيهم الا نائمين!
وها هي عقارب الساعة تتحول ثانية الى خط ثابت لتعلن حلول السادسة صباحا: نهار جديد ولهاث وعرق وتعب ...
يعيش آدم وفق هذا الايقاع منذ اعوام طويلة.. إنه يحلم بالنوم، تعب من الوقوف الى حد يكاد يفقد معه الإحساس بأجزاء من جسده وفي يوم إجازته اليتيم يستنفر باكرا، فلقد أصبح النوم عدوه الأول بعدما تدرب على طرده من جفونه حين كان يباغته النعاس في عز ساعات العمل.

آدم ليس يائسا ولا حاقدا.. انها ضريبة إصراره على تحقيقه حلمه. انه الجرار الزراعي.
ولعل أكثر ما يعزي آدم انه نجح في إدخال ولديه الى المدرسة. أراد أن يجنبهما الكأس المرة التي شربها، فآدم أمي .. يرغب في أن يتعلم القراءة والكتابة، ولكن الوقت عدوه.
إلتحق رفقاؤه السودانيون المقيمون معه في الغرفة بمدرسة ابن بلدهم المحامي تيجاني الذي يعلمهم القراءة والكتابة مقابل عشرة آلاف ليرة في الشهر.
ولكن آدم لا ييأس . فغدا ستعلمه ابنته مريم، وتعوض عليه عجزه عن الالتحاق بمدرسة تيجاني.
لم يحضر آدم ولادة إبنه و لم يرافقه في خطواته الاولى، ولكنه سيراه قريبا. اشهر قليلة ويعود آدم الى السودان لينثر البذور مع زوجته وأولاده في الأرض التي لطالما حلم في زراعتها. وهناك سيدفن كل ذكرياته السيئة والمعاناة التي كابدها خلال اعوام من العمل المضني، وستؤتي الارض ثمارا وسيجني المواسم وسيستحق تحقيق الحلم كل هذا العناء. عندها فقط سيسامح نفسه على العجز الذي أصابه عندما حاول ان يرسم ذات أمسية في غربته القاسية صورة لبيته وأرضه وقريته فعجز. بدت يومها السودان بعيدة جدا، وكانت بلدته مجرد خيالات مبهمة ...