جاد نصرالله:لماذا لم يطل الفنانون "الملتزمون" على الشاشة في حوار متلفز منذ زمن طويل. لماذا لا يشارك الفنانين في البرامج التلفزيونية غير تلك التي اعتادوا أن يحلوا ضيوفا عليها. برامج استهلاكية لا يتكلمون فيها الا عن آخر اصداراتهم ومواعيد الحفلات. لماذا لا نتابع حوارا لا يمت بأي صلة لما تعودنا عليه من إشاعات وفضائح باتت تشكل مقياسا لحجم الفنان(ة) ومكانته!

ليس هناك ما يميز يوم أحد ممل تقضيه في غرفتك مسمرا أمام التلفاز، سوى انه يتيح لك فرصة مشاهدة البرامج المعاد بثها التي فاتتك متابعتها في اوقات عرضها الاولى. وقبل أكثر من شهرين خلال التنقل السريع بين القنوات الفضائية والارضية في صباح الاحد المنصرم، تستمهلك أناقة سيدة جميلة على محطة "الجزيرة". إنها جوليا بطرس. لا باس إن لم تتمكن من التعرف عليها سريعا. إذ أنها لم تطل على الشاشة في حوار متلفز منذ زمن طويل. لا بأس إن خانتك الذاكرة لدقائق معدودة وخصوصا أن الحديث كان في السياسة. كان بكل بساطة حوارا في الأزمة اللبنانية المستجدة اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أدلت جوليا بآرائها بكل صراحة. موقفها من جريمة الاغتيال، وتفاعل الشارع اللبناني مع ما حصل. تحدثت عن المعارضة والموالاة. وتطرقت إلى انسحاب الجيش السوري وتبعاته السياسية.


قالت"كم كنت أتمنى أن أكون في لبنان لأشارك في التظاهرة التي دعا اليها السيد حسن نصرالله في الثالث عشر من آذار. لنقول انه لا يمكن لأحد أن يلغي الآخر". بهذه الجرأة، ومن دون مواربة او انتقاء للعبارات التي تبدو أحيانا "كمن يفسر الماء بالماء"، عبّرت جوليا عن رأيها بالتظاهرات والتظاهرات المضادة. الانفعال والحدة اللتان ارتسمتا على قسمات وجهها بدتا غريبتين عن قناع التحفظ الذي يرتديه عادة الضيوف أكانوا من الوسط الفني أو من خارجه الفني. إذ يمتنع معظم هؤلاء عن الإدلاء بقناعاتهم في ابسط الامور واكثرها سذاجة متحججين بماركة "فنان(ة)" الملصوقة على جبينهم. "انا من موقعي كفنان(ة)، بقول انو...". " أنا من موقعي كمطرب (ة) بعتبر...". وكأن المطرب، والممثل، والفنان ليسوا مواطنين لبنانيين يتفاعلون شأنهم شأن المواطنين المغمورين مع الأحداث والمتغيرات التي يفترض أن تؤثر على حياتهم تماما كما تفعل بنا شظاياهم الغنائية كلما اعتلى احدهم خشبة المسرح!

تميز الفنانون الملتزمون في البلاد العربية بشكل عام بالتزامهم القضايا التي تعكس مفاهيم الحق والعدالة الاجتماعية والانسانية. ففي لبنان غنت جوليا بطرس للمقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان. مثلها مثل مارسيل خليفة واحمد قعبور والفنان السوري سميح شقير وزياد الرحباني الذي كتب ولحن "خلصوا الاغاني هني ويغنوا عالجنوب". ساهم هؤلاء من ضمن مجموعة كبيرة من الفنانين في إشعال حماسة الجماهير وتشكيل وعيهم السياسي في مرحلة من المراحل، علما أن التزامهم الفني لم ينحصر بهذه القضية. بل طال المفاهيم السياسية و اشترطت اغانيهم ايصال رسالة معينة محورها اجتماعي واقتصادي وسياسي. فبالاضافة الى الفنانين السالفي الذكر هناك سامي حواط وخالد الهبر كما فرقة "صابرين" الفلسطينية ، وبالطبع المرحوم الشيخ امام والشاعر أحمد فؤاد نجم في مصر ، والذي عرف نتاجهم انتشارا واسعا في أواخر القرن الماضي. كما حفل سجل العديد من الفنانين "الملتزمين" بأنواع مختلفة من الغناء كان لل"عاطفي" منها ركنا اساسيا. أذ أن المقصود بالالتزام هنا هو احترام أبسط المعايير الأخلاقية والأدبية كتابة ولحنا، وبالطبع أداءً.
لماذا لا يعكس النقاش الذي يخوضه الفنان، بغض النظر عن مدى الموافقة على آرائه أو عدمه، معرفة دقيقة بالمعطيات والوقائع التي يبنى عليها عادة، كالتواريخ وتسلسل الاحداث؟ المحاججة التي ادلت بها جوليا، بغض النظر عن الموافقة عليها او عدمه، نمَّت عن معرفة صحيحة بالمعطيات المثبتة والتي يبنى عليها عادة، كالتواريخ وتسلسل الاحداث. كل هذا ضروري لانه يصب في مصلحة الفنان-المواطن ومتلقيه من المستمعين-المواطنين. وهذا ليس تفصيلا بل إنه ضرورة حتى لا يختلط حابل الفنان بنابل الجماهير التي تصفق ويعلو صفيرها حين تسمع مثلا أغنية "حاصر حصارك لا مفر". هذه الاغنية المقتطعة من قصيدة "مديح الظل العالي" للشاعر الفلسطيني محمود درويش والتي صدحت عاليا في وسط بيروت خلال الحفلات التي اجريت في مناسبة اعادة احياء الوسط التجاري. هللت لها الحشود على تنوع انتماءاتها السياسية والحزبية، علما أن معظمهم يجهل القصيدة وكاتبها والظروف التي كتبت فيها كما الرسالة التي تحملها والدعوة إلى ضرب العدو ومحاصرته. وللإشارة فإن الرسالة لم تكتب بصيغة المجهول! من المفارقات التي تُدرج في السياق عينه، ترداد بعض الأطراف اليمينية في الحرب الاهلية اللبنانية لأغنية "في الأخضر كفناه" في تأبين شهدائها أو إحياء ذكراهم، علما أن الأخضر والأحمر والأسود التي كَفّنَ بهم مارسيل خليفة شهيده انشادا ليست سوى ألوان العلم الفلسطيني! علم كُفِنَ به المواطن الفلسطيني، سواء أكان قتل في عمق الاراضي الفلسطينية أم كان ضحية سفاحي مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان. يضحكك الذهول المرتسم على قسمات وجوه بعض المواطنين اللبنانيين حين يعرفون أن صاحب كلمات أغنية "بيروت" التي يعيدون سماعها في مواسم الشحن العاطفي السياسي، هو سوري الجنسية، الشاعر نزار قباني. هذه الجنسية التي لم يقدر العديد من المتحمسين لمفاهيم خاصة بالحرية والاستقلال والمنظرين لها ليلا ونهارا ، لم يقدروا على فصل بسيط بين موقفهم من النظام السوري الوصي على بلدهم وبين الشعب السوري ، نظيرهم في المعاناة!

مضى أكثر من شهرين على مقابلة جوليا المتلفزة ولم أشاهد فنانا غيرها وقد سجل حديثا في السياسة."يمكن أن تكون هذه المقابلة آخر واحدة سأجريها في حياتي". هكذا ختمت جوليا بطرس برنامج "اوراق ثقافية" على القناة القطرية. متنبهة ضمنيا الى الكيفية التي ستقابل بها كلماتها والتي كسرت النمطية التي اعتدناها من الفنانين (في العالم العربي). أتمنى أن لا يصح ظنها، وان كانت مواقفها تستفز نقاشا حقيقيا. فنادرة هي الاصوات التي علت في الآونة الخيرة لتقويم ولو جزئي لاعوجاج امور الساحة اللبنانية. امور متداخلة، بالغة التعقيد، هي حكما فعل تراكمي بدأ قبل الرابع عشر من شباط بوقت بعيد...

nasrallah_jad@ hotmail.com