عبدالرحمن مصطفى: لي صديق من أسرة متوسطة الحال، أنهى تعليمه الجامعي وأخذ يتنقل بين المهن المختلفة على أمل الاستقرار في إحداها . صديقي لا يشغل باله كثيرا بما يدور حوله في هذا الكون، يستقي ثقافته من المحطات الفضائية والانترنت وجلسات الرفاق. هو شخص مسالم ومرح في أغلب الأوقات.. وأحيانا مستهتر. لكنه في الفترة الاخيرة بدا مختلفا فقد ظهرت عليه أعراض توهج ونشاط مصحوبة بضيق في الأفق كلما دار معه نقاشا حول قضايا الوطن وهمومه.

العام الماضي.. وتحديدا في أكتوبر/تشرين الأول، وقعت أحداث كنيسة محرم بك في الإسكندرية، ووقتها.. أظهر صديقي هذا تأييده المفرط لمن تظاهروا أمام الكنيسة ورشقوها بالحجارة، وبرر فعلتهم تلك بأن ذلك إعادة لكرامة الإسلام ضد الكنيسة التي أنتجت مسرحية مسيئة للإسلام.. تحاورت معه حينها حول حرمة دور العبادة في الإسلام، وعدم جواز التعرض لها بأي أذى، وكان رأيه أنه لو تم تمرير تلك الحادثة دون رد فعل إسلامي قوي، فسيتكرر الموقف مرة أخرى.. وضربت له مثلا برجل أساء إليه جاره، هل يكون رد فعله الطبيعي أن يرشق منزل جاره بالحجارة أم يتحدث معه ويناقشه قبل أن يلجأ للطرق القانونية..؟ اتهمني صديقي بالتخاذل والضعف، واتهمته بالتعصب وضيق الأفق.

وتمر الأيام.. ويختتم عام 2005 بحادث أليم، عندما فضَّت قوات الأمن المصرية اعتصاما للاجئين السودانيين أسفر عن مصرع العشرات من اللاجئين، ومع إطلالة العام الجديد 2006.. كنت أنا وصديقي نستقل إحدى حافلات النقل العام.. وفي إحدى المحطات صعد إلى الحافلة شاب تبدو عليه الملامح الزنجية الجنوبية، أوقفه حظه العاثر بجوار صديقي الذي بدأ يضايقه كاشفا عن وجه آخر لم أره من قبل..

وبدأ الحوار quot;لماذا لم يتم اعتقالك مع من اعتقلوهم من المعتصمين..؟quot;
أجاب الشاب السوداني بأنه كان يتمنى أن يموت مع من ماتوا أرحم له من حياته البائسة..
ورغم قوة العبارة وما تحمله من ألم، إلا أن صديقي رد عليه متهكما: quot;أنتم تستحقون هذا.. لقد كان يكفينا ما نحن فيه حتى تأتونا أنتم أيضا من أفريقيا بأمراضكم وأوبئتكم quot;.. كانت تلك العبارة الأخيرة مجرد بطاقة دعوة إلى أحد الركاب المتابعين للحوار كي يشارك هو الآخر في التنمر على الفتى السوداني.. و بدآ الاثنان في إثارة الشاب واتهام اللاجئين المعتصمين بأنهم كانوا مجموعة من المخمورين القذرين، وأن الشرطة قد قامت بتطهير المدينة منهم.. ولم ينته الموقف إلا بعد أن عاب الشاب السوداني عليهما أسلوبهما في الحوار الذي لا يليق بمسلمين، واتضح أن الشاب السوداني هو الآخر مسلم مثلهما، ونزلنا من الحافلة، ولمت صديقي على ما قام به، و انتهى الحوار بيني وبينه بان اتهمته بالتعصب وضيق الأفق، واتهمني بالتخاذل والضعف.

وبعد هذا اللقاء بأسابيع.. وتحديدا في أواخر مارس/ آذار 2006، اجتمعت أنا وصديقي في أحد مجالس الأصدقاء، لاحظت عليه التألق والتوهج وهو يتحدث عن أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، فدار نقاش بيننا حول رد الفعل الإسلامي تجاه الأزمة، وانتقلنا بالحديث إلى مبادرة الداعية عمرو خالد... وأعلنت تأييدي لها، فانفعل صديقي متهما عمرو خالد بالتخاذل والتسليم لأعداء الأمة بزيارته للدنمارك بعد أن قاربت المقاطعة على تركيعهم... حاولت أن أوضح أن سبب الأزمة الرئيسي هو اختلاف الثقافات وجهل الكثيرين بالإسلام وبثقافة الشعوب العربية، لكنه احتج وأنكر أقوالي مؤكدا أن الإساءة متعمدة وأنها ضمن مخطط كبير لإذلال المسلمين، تحدثت عن رد فعل تلك القلة من المسلمين التي أحرقت السفارات الأجنبية وسط الأزمة وكيف أساء ذلك إلى صورة المسلمين أمام العالم، وتحدثت معه عن ضرورة مواجهة المسيئين في الغرب في عقر دارهم والتحاور معهم لمعرفة حقيقة نواياهم ومكاشفتهم بمخاوفنا.. وكانت النهاية أن اتهمني صديقي بالتخاذل والضعف واتهمته أنا بالتعصب وضيق الأفق .

واتسعت الفجوة بيني وبينه بعد أن صارحته بأن تعصبه للدين لا يختلف كثيرا عن تعصبه لفريق النادي الأهلي، وأخبرته بأنه يتعامل مع أهل الأديان الأخرى بعداء مثلما يتعامل تماما مع مشجعي نادي الزمالك - الغريم التقليدي للنادي الأهلي- ولم يهتم لتعليقي.منذ أيام... فوجئت بسفره إلى إحدى البلدان الأوروبية للعمل هناك، ودفعني الخبر أن أتأمل ما قد يواجهه هذا الشاب في الخارج.. كيف سيتعامل مع من كان يريد مقاطعتهم..؟!
وتذكرت النهاية التقليدية لحواراتي معه، وتساءلت هل هو حقا متعصب أم أنا المتخاذل...؟؟عموما.. من الواضح أنني لن أفتقده كثيرا، حيث انه قد ترك خلفه نسخا كثيرة منه أقابلهم كل يوم في شوارع المدينة، يمارسون أفعاله ويطبقون سلوكياته.. فمازال نمطه هو السائد حتى الآن .