عصام سحمراني: كقرص الشمس الجنوبيّ أشعّت في روحه حينما تخايلت في مشيتها أمامه. حينما لحقت سنابل شعرها الأسود ببعضها متعانقاً فوق ذلك الحقل الشمسي الدافئ المحفور في ذاكرته لسنابل القمح الذهبية المتألقة بعبق رائحة التراب.وجلست قبالته كالحقيقة فريدة في فراغ كونيّ لا متناهي. كأنّها المرأة التي لا شيء سواها. كأنّها الوحيدة الفريدة في كومة من التشوه المؤذي للحواس والأحاسيس.

لم تكن سوى يد إلهية تلك التي امتدت بين أمواج شعرها الناعم وجعلت تزيد اختناق رعشات اللذة في أعماقه فجاوزت حدود الإنفجار الصامت في عينيه الساكنتين بأبدع مظهر تراهما، وكأنّ الإحساس بات منفصلاً لديه، في كلّ حاسة تضاعف للأحاسيس. وتماوجت السنابل كاللؤلؤ الأسود انتشل من أعماق الجمال البركاني الصارخ فأضاءت كما الشمس في غروبها المشوب برهبة الختام وشوق تجدد اللقاء المشوب بالإحمرار.

لمعت فوق جيد الشمس شمس النهار فتسللت الخيوط الذهبية إلى ثنايا خبائها الصدري إبداعاً ناعماً فوق إبداع. تسللت الخيوط الناعمة الدافئة لتوقظ آلاف وآلاف من أشجان الطبيعة الأمّ الهاربة من روتينها القاتل؛ فلا الغيوم التزمت مشاعر القسوة حين انهمرت بالبكاء ولا الرياح استكانت في مقالعها حين هبّت من كلّ المناحي حارّة، دافئة، باردة، نسيمية اختلطت ببعضها لتقف عاجزة أمامها. وتآلفت الشمس معها فانعكست على جيدها كانعكاسها فوق سطح ذلك الماء الهادئ الساكن في مخيلته في ذلك الجبل الصنوبريّ ربيعاً حين يتجمّع ليشكّل تحفة فنية بديعة أين ابن المعتزّ لينظم شعراً أمام روعة مذاهبها الفنّية.

أيقونة كانت في عينيه المعلّقتين برؤياها. في بنّيها المشدود فوق اسمرارها الرائع على القوام الفارع المبهور بشفتيها الناضحتين بدماء آلاف من العشاق المتهاوين فوق صخرة صمتها القاتم المذهل. وترامت نحو آفاق المكان بعبقها الملائكي وكأنّها السماء تلفّ شروده بشمسها وبدفئها وبغيومها وبلونها البديع في كيانه؛ المتسلّل عنوة إلى أعماق الشرايين الدموية في قلبه.

حبّ!؟ ما تلك بالكلمة الملائمة لمشهدها الجماليّ الذي تعجز أمامه قواميس اللغات ومعاجمها عن وصفه. كلّ لغات العالم لا يمكن لها أن تعبّر عن حالته وهو يستغلّ حاسة واحدة لا غير والحواس الأخرى تشتعل من الداخل مشغولة ومتيقظة للإستدعاء المرتقب. وان ابتكرت الكلمات والمصطلحات أو ظهرت أو خلقت فلم تكن سوى لها. الحبّ لها، العشق لها، الجمال لها، الغنج لها، الرهبة لها، السكون لها، الإدهاش لها، لها لها لها وليس لأحد آخر سواها. فينوس الإلهة هي أمام الدنيا بأكملها تلك التي توقّف صرير مجتمعاتها وتعلّق بين أنفاسها. كانت له في تلك اللحظة، له دون سواه بكامل أنوثتها الإلهية ولتتهامس الملائكة ما تشأ عن تخطيها الجمال الربّاني الخاص بهم.
هي ليست سوى عبادة. عبادة لهم جميعاً في ذلك العالم القاحل من أسباب الجمال. ذلك العالم المكتفي بمعلّبات الجمال الإستهلاكيّ لا غير. هي الطبيعة تفضحهم منذ النظرة الأولى. تفضح عريّهم الروحي الذابل الشاحب الخامد. هي الماء في قلب صحراء القلوب. هي الغذاء بعد مجاعات روحيّة أليمة.
لم تكن يوماً معذّبته وإن فضحت اشتياقه بكلّ ما فيها لها. إلى لمس الروح قبل لمس الجسد. ومن قال أنّ الروح لا تلمس؟ من قال ذلك فهو مخطئ لا محالة فروحه اجتاحتها غمزاتها الخلاّقة فكانت كالبركان تختصر تاريخاً وتاريخاً من كبت حقيقي يداويه كذباً بتشويهات شتى قبلها. تلك الروح التي قتلت عند أكعابها لأجيال وأجيال جميع التائهين الباحثين عن الأسرار الكونية المغلّفة بصمتها الإلهي الذي لم يدنّس يوماً طرفاً بإسفاف الكلام. الصمت الربّاني الروحاني الأثيري لا يمكن تشويهه بكلام بشري.
أين ابن عربي؟ أين غيره من مريدي الجمال اللا نهائي. الجمال الربّاني الخالد الأزلي الأبدي السرمدي. أين ابن طفيل والسهروردي وأبو اليزيد؟ أين هم أمام ما لطالما بحثوا عنه؟ لقد أعلن توبته الآن أمام جلالها. أعلن توبته وتوبة جميع العشاق الباحثين عن الضياع في متاهات الجمال الخيالي. صبّ جميع أرواح العشاق في روحه. والروح صبّها في عينيه تنهلان مشهد الجمال الإلهي.