الأسواق؛ في أثر "ريا وسكينة":
من الطائرة المحوّمة فوق القاهرة، كان من الممكن جلاء المشهد المترامي تحتنا، والمتبدي ككثيب أحمرَ، ما لبث هنيهة إثر هنيهة أن كشف عن حاصله وسرّه: بيداء ٌ ملغزة؛ هباءٌ منثورٌ؛ خلاءٌ موشى بنقط بنية مائلة إلى الحمرة، ككل شيء في هذا المشهد الربيعيّ المذاب بصفرة ذهبية، مزيفة كنحاس الكيميائيّ؛ صفرة الشمس التي تسرّح الريح بأناملها: هي ذي إفريقية؛ القارة السمراء حدّ البرونز، والتي ألتقيها لأول مرة في عمر أسفاري النادرة؛ أنا القادم من تخوم آسيا والمقيم دهراً في أقصى صقيع اوربة.
مطارُ القاهرة، خليّة نحل نشطة ومنتظمة؛ موظفون خفيفو المحمل، وشرطيون غاية في التهذيب مع من تلوح العجمة في سحناتهم أو هيئاتهم؛ لولا أنّ السائقين المرائين قد أفسدوا المشهد بتزاحمهم علينا أمام المرآب الخارجيّ، الواسع، المفتوح على حرّ أيار؛ هؤلاء السائقون الواجدون رزقهم في حمأة من المساءلة والمفاصلة، الراطنون بمفردات من لغات لا يدري إلا الله أصولها، المتداخلة في مشيئة لهجتهم المصرية، المحببة. هكذا، و بعد جدل "دولاريّ"، أقنعنا أحد الأدلاء بنعمة ركوب السيارة من المطار رأساً إلى محروسة الإسكندرية، ميممين جهة الطريق الزراعية الحافلة بزحمة من المركبات والحافلات والمقطورات.. ولم أدر لحظتئذ أننا على موعد مع رحلة مشؤومة، موعودة بمخاطر الطريق السريعة؛ حيث موتٌ موشكٌ في كل إنعطافةٍ، و كل فرملة رمية في الآخرة.
كنت منزوياً في المقعد الخلفيّ، عيناي القلقتان لا تحيدان عن الدرب المغامر إلا لكي تهمزا عينيّ السائق اليقظتين، واللا مباليتين في آن: رجلٌ في أواسط العمر، رأسه الضخم بحجم جسمه، أسمر بلون مائل إلى لون تربة القرية التي ربما لفظته فتىً إلى إسمنت المدينة الكبيرة؛ رجل ضخم بسيكارة مشتعلة دوماً على طرف فيه ذي التكشيرة المركّبة،المدّعية الأنس أحياناً مع تمتمات أجشة مخنوقة بالسعال : كان لابد أن يذكّرني هذا الرجل بمواطنه القديم، حسب الله؛ الشقيّ الذي نكد طفولتنا بإطلالته الفظة وزوجته المرعبة، عبر الشاشة الفضية الصغيرة، كما جسّده الدور المنوط بهما في فيلم "ريا وسكينة": وعلى حين فجأة، تناهى لذاكرتي المشوشة بقلق الطريق، أن حكاية هذا الفيلم، الحقيقية، إنما دارت يوماً فصولاً، دامية، في المدينة التي تتجه نحوها مركبة الهلاك الذي يمتطينا: الإسكندرية !
ثمة أسطورة إغريقية، طريفة، تزعمُ أنّ الإسكندر الأكبر، الذي منحَ إسمه المكلل بالغار لهذه المدينة المتوسطية، قد ولدَ وسيماً كإلهٍ، لولا عيبٌ ظاهرٌ فيه: أنّ أذنا حمار تنتصبان من رأسه الحكيم. وتتابع أسطورتنا أنّ الفتى الوسيم كإله أخفى عيبه بقرنيْ أيل، حتى غلب عليه في شرقنا لقب "ذي القرنين"، الذي عرّف به القرآنُ جمهرته من المؤمنين.. وتقول الأسطورة نفسها، أنّ وزير الإسكندر قد عرف السرّ واؤتمن على حفظه عن أيّ بشر. فما كان من الإغريقيّ، الحافظ للسرّ، إلاّ أن ذهَلَ عنه، يوماً، بحضرة ساقية سلسبيل، ما لبثت بدورها أن باحت به إلى أخواتها.. حيث ما برحن يثغثغن بالسرّ الملكيّ الحماريّ إلى يومنا هذا؛ أو بالأحرى إلى عصر ذلك اليوم الربيعيّ، المودي بنا طريقه إلى عروس الساحل الإفريقيّ؛ الطريق الزراعي المبثوثة حوله عشرات السواقي، المتلوية كأفاع ٍ خضر ٍ، والمتناهي من خرير مياههن أصوات مبهمة، مشتتة،، متهامسة بوجل: " الملك له أذنا حمار.. حماااااااار " !
مدخل مدينة الإسكندرية، المصمم كبوابة قلعة قروسطية، يكاد طرازه المستحدث، المبهرج في أبهة كاذبة، لا يخدع العابر لقنطرته المزخرفة، حيث نجتاز بعدها مباشرة جداراً مزيناً بلوحة من الفسيفساء لا تقلّ بهرجة، مثلت رجالاً ونساء؛ كرموز للمدينة: وهي غير لوحة الفنان الكبير، ناجي، والمسماة " مدرسةالإسكندرية"؛ اللوحة الشهيرة التي أحيت حضارة الإغريق القديمة ممثلة في الهللينية؛ بأشخاصها التاريخيين كانطونيو وكليوباترا، فضلاً عن شاعرها الفذ، المعاصر، قسطنطين كافافيس، مروراً بحضارة بيزنطة المسيحية وحتى الحضارة الإسلامية وعصر النهضة؛ إنها الإسكندرية، حاضرة العالم القديم، الكبرى، بأجناسها المتنوعة، وكما جسدها إبنها، كافافيس، في إحدى قصائده:
"كنا خليطاً؛ ميديين وسوريين وأغارقة وأرمناً،
وكان ريمون من هذا النمط كذلك..
عادت أفكارنا إلى جارميديس أفلاطون"
لم أكن أدري، يومئذ، أن فندق "سيسيل"، المحجوزة بعض غرفه الأثرية لبعثتنا السويدية، هو ذات الفندق الذي مررت بإسمه، عابراً، لدى قراءتي رواية لورنس داريل، الملحمية "رباعية الإسكندرية"؛ وكان هذا النزل الفخم، أيضاً، مكاناً أثيرا للكثير من الأدباء والمشاهير الذين مروا بهذه المدينة. إنه قصر يونانيّ عتيق الطراز، لا يختلف كثيراً في مظهره الخارجيّ عن الكثير من أمثاله من الأبنية في الحي اليوناني القديم، و التي تتراصف بدعة على الجهة المقابلة ل " الكورنيش "؛ روح الساحل الإسكندراني، والأكثر إزدحاماً، مساءً، بالخلق وحتى ساعة متأخرة من الليل. و بدا، للوهلة الأولى، من حسن حظي أنّ باب شرفة الغرفة مطل على هذا الكورنيش الساحر، بأضوائه وأنسه؛ لولا أن ضوضاء عرباته ومركباته وحافلاته ودراجاته النارية، قد أحالت ليلي إلى أرق معذب. وكان من الممكن تجنب هذا الصخب، وذلك بإحكام رتج باب الشرفة، إلا أنه بدا من المحال تحمل حرّ الساحل الرطب، الخانق.
على أنّ ذلك المساء، الأول، لم يألُ جهداً في الترويح عن ضيفه. إثر الحمام وتغيير ملابسي، هرعت إلى الخارج، قاصداً تلك الساحة المتبدية من شرفتي؛ وهي المسماة "ميدان المنشية"، أين تمثال سعد زغلول، المهيب، يتسامق فوق أشجار الحديقة الصغيرة، والتي أيضاً بدورها قد أدخلت تحت رقها خلائط َ من البشر؛ وأكثرهم عائلات محافظة تبتغي النزهة، إلى فتية يرومون التنفيس عن دواخلهم السجينة دلخل الجوّ المحافظ إياه، وحتى المشردين المطرقين برؤوسهم، في صمت يليق بصاحب التمثال، المحافظ، الوقور. ومن "المنشية"، تحولت نحو اليمين إلى الجهة المؤدية لشارع " رشيد "، القديم، والتجاري الأكثر إزدحاماً، والمزمّل بالمتاجر والحوانيت المتنوعة، وأغلبها متخم ببضائع إستهلاكية يتهافت عليها الشباب بمحض مشيئة بؤسهم البادي للناظر؛ البؤس الذي لا يدانيه سوى مشهد المشردين، الرث، الخلِق، المشرّع على عين الخالق. الليل يتكاثف، والحرارة اللاهبة تتلطف بنا نوعاً. بيد أن الزحام لا يبدو لائقاً بهذه الأرصفة المتخلخلة، التي يتماوج فوقها بحر من البشر من كل المشارب والأزياء واللهجات، ولا بتلك الشوارع الضيقة في أغلب الأحيان؛ أين راكبو العربات والمشاؤون في نزاع وخصام وإشارات مهددة، متوعدة، تصل أحياناً إلى المشادة. أهرب من الشوارع المتخاصمة إلى هدوء الحواري الجانبية، والمنارة بمصابيح الدكاكين والمقاهي والمطاعم. هاهي رائحة الفلافل، المميزة، تتلبس الفضاء المعبق بأريج النراجيل المحبب؛ فلأعطفنّ، إذاً، إلى تلك البسطة التابعة لمقهى أو مطعم، أو سمّه ما شئت ! الخيبة تتلبسني، فهذه الأكلة المسماة عند المصريين "طعمية"، لا علاقة لها بفلافل بلاد الشام، الشهية؛ خيبة ستكبر هنا، و في كل يوم يأتيك بمطالب المعدة الخاوية، ها أنت تكتشف أن لا تقاليد للطبخ لدى المصريين؛ والمطبخ فنّ، كما تعرفه، وإتقان وذوق وحذق: عليك، والحالة هذه، بالوجبات السريعة، الأمريكية، والتي غيّر أصحابها هويتها إكراماً لمشاعر الشعب الأبيّ وغيرته على عراق الطاغية؛ المشاعر التي كانت بعد أقل من شهر على إنتهاء الأعمال الحربية، ما إنفكت مصدومة بعنف وقع التسليم المذل لبغداد..
من الشارع التجاري، تتسلل خطاي إلى أسواق مفتوحة على اخرى. مدفوعاً برغبة خفية نحو المجهول، أجدني خائضاً اللجة البشرية؛ وعند كل منعطف سائل يستعطيك، وأمام كل دكان صبيّ يشدك شداً إلى الداخل.. هناك، حيث "المعلم"، غالباً، مشغول عن رزقه بتأمل قوام زبونة مليحة، تتأمل بدورها نفائس القماش المموجة الألوان والمناديل الحريرية وغيرها.. فيما النرجيلة تقرقر لهيب الجمرة المنتعظة في مستقرها. الأساور والأقراط والخواتم، الذهبية، المرصعة سمرة هذه الحسناء، يشعشع بريقها الأماكن العتمة، السحيقة القدم، في ذاكرتي؛ الذاكرة المترجعة صوراً، أو أشباحاً مصوّرة ربما، لإمرأتين متناكبتين، عليهما ملبس القرويات الأسود، والمتماهي بنقاب نساء المدينة، الحاجب للجزء الرئيس من الوجه، عدا العينين: الشقيقتان ريا وسكينة، هما "أسطورة" اخرى، أكثر دموية، لهذه المدينة وفي حيّها "العربيّ"، بالذات، المنسيّ بناسه المدقعي الفقر والذين يعودون غالباً لأصول قروية وصعيدية، إضطرتهم ظروف قاهرة للتخلي عن أرضهم والنزوح إلى إسكندرية الأكابر من مسلمين وقبط، و الخواجات من اليونان والطليان والسوريين والأرمن واليهود وغيرهم.. الأسطورة التي إستحضرها فيلم الطفولة بالأبيض والأسود، وجدت أيضاً ترجيعاً لها في الصبا، من خلال مسرحية كوميدية، رسخت بملحميتها وروعة أداء ممثليها، تلك الصور المحفورة في الذاكرة. لقد سبق لي أن عرفت في وقت ما، وعن طريق المصادفة كذلك، أن كاتب سيناريو ذلك الفيلم لم يكن سوى الأديب الكبير نجيب محفوظ؛ و كان في بداية تعاونه مع المخرج الواقعي المعروف صلاح أبو سيف. والسؤال المحيّر هو: كيف لواقعة كبيرة، كحكاية ريا وسكينة، والتي هزت المجتمع المصري في أربعينات القرن المنصرم، ألا تلهم محفوظاً بعمل روائي، وهو من كتب "اللص والكلاب" متأثراً بواقعة أقل إبهاراً؛ عرفت بإسم "سفاح الإسكندرية".. ؟
أياً كان التعليل، فقد أمدّ مرأى تلك الصبية الحلوة ذاكرتي بخيوط مضيئة، موصلة إلى الطفولة ومكنوناتها الحميمة؛ الطفولة التي صدمني، في تلك الليلة، مشهد من أكثر مشاهدها المصرية إيلاماً: أخوة ثلاثة متهالكون على بعضهم البعض، كبراهن بالكاد إجتازت سنها العاشرة، وهم نيام شبه عراة بأسمال مهلهلة لا تدفيء من برد الليل الربيعي القارس، يستجلبون الحرارة للجسد الغض بذلك التلاحم الغريزيّ، أو ربما بأحلام أكثر دفئاً؛ أحلام طفولة مهدورة.. كنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل، قد دلفنا إلى رصيف الكورنيش، متخمين من عشاء فاخر من السمك المشويّ، وفي أكثر مطاعم الشاطيء رقياً، تشهد له تلك الصور المتواترة في الرواق و الخاصة بزبائن من مشاهير الجاه والسياسة والفن و.. قال لي المشرف السويدي على جماعتنا: " أعيش هنا في الإسكندرية منذ حوالي السنة، وكل يوم أزداد إحباطاً ". الإسكندرية، مدينة الثقافات المتنوعة التي إندثرت جميعاً في الحلكة التي غشيتها، مع زحف الريف التدريجي على مدنيتها، حتى غمرتها تماماً إثر إنقلاب الضباط " الأحرار "، الذين خنقوا حرية البلاد.. إسكندرية كافافيس، مدينة المجون والمحافظة؛ مدينة المتناقضات الصارخة:
أيها المسافر
لن تلومني، وأنت الإسكندريّ..
العارف أهواء حياتنا هنا، اللذة، واللهيب.
قصائد كافافيس، من أعماله الكاملة "وداعاً للإسكندرية التي تفقدها "، ترجمة سعدي يوسف (بيروت 1979)
للرحلة صلة..
التعليقات