من لندن: هناك من الكتّاب من لا يعرف كيف يتوقف عن الثرثرة على صفحات الجرائد، وشعراء لا يطيقون الصمت ويجب أن ينشروا ديوان شعر جديد كل ستة أشهر غالبيتهم ينتمون الى بانثيون السفهاء. صادق أحمد التميمي يختلف عن هذا النمط السائد جذرياً. انه مقّل. يفضّل أن يطبع كتبه الصغيرة وكراريسه النادرة بيده وبطبعة محدودة العدد. كتابه الأخير "صناعة الموت" صدر أخيراً. يجد طريقه بأدب وأريحية الى الأصدقاء، هو نص نثري لا تغيب عنه الرؤية الفنية حول مرحلة ماضية وآنية، يتناولها الكاتب بلغة شاعرية على جانب كثير من التكثيف، بل انه يكاد أن يكون مكوناً من مقاطع تستطيع أن تقرأها وتعيد قراءتها وكأنها لوحات أو تابلوات بالمعنى الفرنسي، يشدّها، ويركز لحمتها ان جاز التعبير ظل الديكتاتور الذي سيطر على العراقيين لثلاثة عقود تقريباً يرمز اليه الكاتب باسم "شاخ ـ مات" المفردة الشطرنجية. انه نص مرصع بالنجوم على خلفية دامية.

بعدسة كاتب المقال

صادق التميمي من منفاه في مدينة كولونيا لا يساوم ولا يقبل أنصاف الحلول ولا يعتقد بالرأي القائل ان السياسة هي فن الممكن. حبه للعراق ما كان وما آل اليه أقوى وأصدق وأعمق من كل هذا وذاك.
والمسألة بالنسبة له لكاتب خسر كل شيء وفاز بحريته وان كانت في منفى العودة المستحيلة يقول "لن أعود الى البيت الوديع، ولن أغتسل في بئر الماء، هل من أحد يقدم لي كوباً من الشاي، متشرد أتعبه المنفى والوجوه التي تفاجئه بالسؤال".
ويضيف "قلت للحب امنحني ذكاء الصقر الذي امتلكته بالأمس، القضبان الحديدية التي أحاطت الروح، المركب الذي قادك في صباح ضبابي وممطر الى المجهول، الروح التي احتفلت بمواهبها تكاد تلتقي والندم في حانة منسية".
وبالاضافة الى شخصية الديكتاتور التي يرسمها الكاتب بصورة سينمائية مذهلة ومعبّرة، الديكتاتور الذي "اقتنع بنهايته، نهاية رئيس جمهورية قامت على الوحشية. وقيل عنه انه كثير الاهتمام بهياكل بشرية أخذت تكرر زياراتها له ليلاً. كانت المرة الأخيرة لهذا الكابوس عندما وقف أمام زنزانته الآلاف منهم، ممن قلعت اسنانهم وتشوهت معالم أجسادهم...".
والنص الذي يخترقه الشعر ويتشربه في كل سطر ويزاوج بين الصورة والفكرة يقترب من روح كامو، وهو نص يجمع بين "المقصلة" و"أعراس" في قبضة واحدة، ويعيد الى الأذهان بالتأكيد "الانسان المتمرد" خاصة في ترجمته بروعة من قبل محمد رضا في أواسط الستينات.
في رسالة خاصة يتحدث صادق أيضاً عن الموقف من المعرفة الأخلاقية لحياة المجتمع الدموي القائم بما فيه من صراعات اجتماعية وسياسية واقتصادية "بحيث تم تحويل الناس الى طوابير من المشوهين والمستلبين". ويوجه الكاتب اصبع الاتهام للنظام السياسي وينوه بسارتر الذي اهتم بالموقف الاخلاقي لكل ما يمت بصلة بالحياة، ويدافع عن الحرية دون الاندماج في "المؤسسة التي تجلب الحطام للروح"، ليستشهد ببورخيس وقوله "السياسة هي بؤس العالم" في الصفحة الأولى من الكتاب.
كما انه لا يميز بين الايديولوجيات السياسية الحاكمة منها والمعارضة فهي "المشوه الاعظم والناشر الحقيقي للأوهام والخوف والعواطف الخادعة" وان "الأحزاب ـ هذا الاخطبوط الايديولوجي البائس في المجتمع العراقي ـ هي التي شوّهت الوعي البسيط للناس، وانها مارست ووضعت كافة مصطلحاتها في خدمة المناخ السياسي السابق والحالي" ليعلن براءته من الانتماء اليها الى ان تتم محاكمة جذرية "لكل من شوّه تلك البلاد الجميلة وحوّلها الى ركام ومزابل".
هذا على صعيد الرأي الشخصي كما عبّر عنه الكاتب صادق أحمد التميمي تستطيع أن تتفق معه أو تعترض عليه، الا انه في رأينا، أقل أهمية بكثير من النص "صناعة الموت" حيث نقرأ "ان تبسيط الأشياء ظاهرة شكلية، كالحرية التي فاضت بها القرى، ولم تطأ أرضها أقدام الجند، قرى أخذت بكل هذا التكامل من الاقناع والاعجاب المنتشي بخصال جديرة بحيرة الذئب الذي لم ينقطع عن تأمل تلال رملية غرقت تماماً بالعتمة. أراها الآن ولا شيء سواها تكشف عن طموح وقيم تعبيرية لابد من العودة اليها عندما يحل التفكير ضيفاً على المخيلة".
ثم "لا يحق لأحد مطالبة تلك البلاد بأن تواصل تقديم الدروس عن تحليق الصقور، وكيف تختار القمم الشاهقة لتستقر فوقها، في حين يفضل من يحرس أبوابها البقاء في بئر مظلم. انها زورق يرفض افراغ محتوياته على شاطئ مجهول مفضلاً دروب الحروب والتمزق".
ان "صناعة الموت" سيناريو شعري بالمعنى الرامبوي للشعر، أركانه الثلاثة الوطن والغربة والأم، وهناك من المقاطع عن الوطن والغربة والأم ما يعيد الى الأذهان من جديد كامو "لو خيّرت بين العدالة وأمي لاخترت أمي" يعيد الى الأذهان، تلك الأقلية الخيّرة التي اختارت التجذر في الشعر وفي الحقيقة، بعيداً عن المساومات وأنصاف الحلول والارتزاق، اختارت الغربة والمنولوج الداخلي المشبّع بالشاعرية والفقدان والتأسي. "سألت القلب عن علاقة غريبة أقمتها من جانب واحد مع وطن لم يسع هو اليها. وكان بودّي أن أعقد معه صفقة العمر في الحياة والموت، وباختصار كان كشجرة حطت على أغصانها طيور غنت ورقصت بخشوع، وعند حلول المساء حلقت مبتعدة عن عالمها الصاخب صوب غابات مظلمة.
ولد صادق التميمي في أهوار الجنوب مدينة الناصرية، انخرط في الحياة الثقافية في الستينات في التمثيل المسرحي في المدينة المذكورة، سجن عام 1663 بعد صعود المد الفاشي في العراق، خرج من السجن 1968، في العام 1969 غادر العراق، حصل على اللجوء السياسي في ألمانيا في العام 1981.
في العام 1985 أصدر كتيباً صغيراً بعنوان "تأملات القرى" وفي 1992 أصدر "مشاغل الروح" بالعربية ثم بالألمانية من ترجمة الفنان الراحل أحمد أمير وصديقته مونيكا لين. كتب في عدد من مجلات الشتات العراقي.