البحث عن المدينة
حين أطلت سفوان المدينة الحدودية التي كنت أعرفها بدت لي غريبة لا أثر فيها يدلني على ما اختزنت ذاكرتي . ولكن مالي وللمدينة! وقد غامت عيناي وأنا أرى وجوه أصدقائي الحبيبة وهي تقترب مني، كأنها وجوه أشباح نائية استردت حياتها فجأةً ... ملامح اكتشفها في لحظة خاطفة وهي تحل محل ملامح رافقتني سنيناً.. كأنني قادم على آلة زمنٍ.
هل الزمن يرتد بي أم يتقدّم؟ وأين ثوابت المكان الذي يشف الآن ويعود بي إلى مكان آخر.
كل شئ يتداخل : الزمان والمكان، الوجوه والأحاسيس، وأنت في أقصى انفعالاتك : فرحاً أم حزناً؟ وحين يضمك مقعدٌ في الباص وتستأنس بصديق قديم تهدأ روحك وتسكن بعد أن اصطخبت وامتدّت فلا تدري لروحك حدوداً، وسط أصدقاء هرموا ولكن ما زالت بعض ملامحهم تضئ. ولعلّ هذه الإضاءة هي التي منحت روحي سكينتها وهدوءها.
ها أنا إذن بينهم مرة ثانية أقطع السنوات والأمكنة بخطى طفل مسحور... ولكن هيهات.. سأغادر بعد قليل حكايتي الخرافية لأسير على أرضٍ هي أرض طفولتي ويفاعتي وحبي الذي أستعيده الآن بلا طللٍ.
ما من طللٍ لكي أقف مستذكرا ما فقدت.
أين اختفت المدينة التي رأيتها وهي تمتدّ الآن بيوتاً واطئة أخفض من قامتي وأنا أسير وسطها كأنني غيلفر في بلاد الأقزام؟
قال لي صديق زارها قبلي : " سترى بيوتها الخفيضة أوطأ من قامتك. "
لم أصدّق ذلك إلاّ بعد رؤيتي لها.
لم أتعرف في الحقيقة إلاّ على معالم قليلة. وحين وصلت الفندق كانت الأحاسيس غامرة ثانيةً وأشدّ التباساً. ثمة محبون وأصدقاء لا تعرفهم حتّى لو التقيتهم ثانية. ليس ثمة ملامح قديمة لتهتدي إليهم ولا تفاصيل ولكنّهم أصدقاء محبون... أصدقاء حاضرٍ مقطوع عن ماضٍ لا تعرفه، ولكنهم يعرفونه جيّداً أنت فيه الحاضر الغائب في قصيدةٍ أو بيتٍ أو في تفصيل عابرٍ لا تتذكره، ومن أين لك تلك الذاكرة التي تستحضر كلّ الأشياء دفعةً واحدةً وقد أثقلتها المقادير، ورهق الحياة، ومفاجآت الموت وظلّه البغيض الواقف أبداً؟
هل تتذكّرني؟
سؤال يتكرّر وإجابة مداورة وعتاب لا أجد له أحيانا مخرجاً سوى محبتي التي تستفيض إلى ما يُطمئِن صاحب السؤال.
كانت ذاكرتي في أوج يقظتها وكذلك عاطفتي ولا أعتقد أنهما هدأتا ذلك اليوم حتّى في نومي، ففي الصباح عليّ أن أقرأ شعري في قاعةٍ لا أعرف أين؟، وفي مكان لا أستطيع أن أحدّد معالمه.
كلّ شئ مختلط.
وصلت متأخراً بعاطفتي التي خمدت فجأةً. وقد كان عريف الحفل الشاعر عبدالسادة البصريّ لطيفاً عذباً عرّف نفسه الليلة الماضية بوصفه واحداً من أفراد عائلتي محبةً واعتزازاً. طلبت منه أن يترك لي الوقت لكي أستعيد ما فقدتُ من ذاكرةٍ أو عاطفةٍ في انهماكات التهيؤ والاستباق. ويبدو أن للاشعور دوراً كبيراً في اختيار القصائد.
بدأت قراءتي بقصيدة نثر قصيرة هي ( أسد بابل ) لجمهور حاشد وكأنها تعكس حالتي الراهنة آنذاك في علاقتي الملتبسة بالمدينة والناس :
على بعد أمتار من النهر
يجلس أسد بابل
لا مصاطب تحيط به ولا أطفال
لا جنائن ولا أبراج
وحين يمر به الناس
ولا يلتفتون
يهز رأسه أسفاً
مردّداً جملةً واحدةً
لا يسمعها أحدٌ
وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً:
"أنا أسد بابل
أنا أسد بابل"
لم أكن أتوقع ردود فعل الناس. لقد استقبلوا قصيدة النثر القصيرة هذه بحماس منقطع النظير، وبتصفيق حاد، زادوا عليه بصيحاتهم، وكأننا في حضرة شعر كلاسيكي مما يلقى في المناسبات، وكأن أسد بابل ينطق باسمي وباسم عراق منسيّ مهجور.
كانت القصيدة بوابتي المشرعة على جمهور مجهول.
شعرت بعد قراءتي وزحمة اللقاءات أنني تخففت من أعباء كثيرة.. أعباء عاطفتي المحتشدة لأعود بعد ذلك وكأنني لم أسافر ولم أغترب وليس لي بيت هناك في أقصى الأرض.. لقد عدت واحداً منهم أشاركهم جلساتهم اليومية في بيوتهم الأليفة المكتظة بالزائرين ومقهاهم الوحيد.. اتحاد الأدباء، البيت القديم الغابر المظلل الأليف الذي غمرني بحنوه بعدما مللت واجهات المنفى، والذي رددت حيطانه صدى قصائدي التي قرأتها في جمهور حاشد اكتظ به، وصدى صوت ابن البصرة الساحر محمد خضير وهو ينطق بكلماته العزيزة هذه، في تقديمه لي : ( أجل، أيها الصديق الشاعر – ولتكن أنت شاهدا على لحظة لقائنا في هذا المنزل العشاريّ القديم، لقائنا المعزول عن صخب الشارع الخارجيّ – نستطيع أن نقيم لقاء الوحدة الأدبية، وأن نشرع في استمداد قيم الأدب العراقيّ العريقة، قيم الشعر والرواية والفكر، واستنهاض روح التجديد والابتكار، وتوكيد صداقة الجيل. قد يكون لقاء المصادفة والصداقة هذا لقاءً عابراً، إلاّ أنّ أصوات المشاركين فيه سترشح من جدران المنزل القديم وتسري في طرق المدينة الصاخبة، حتى تصل إلى تلك البقعة المفقودة، على طريق ( المطيحة )، وطيوره التي تلقط حبات الحنطة في سكون. إن الصداقة تصنع المعجزات، ومنها معجزة الشعر حين يهطل من روح شاعر مثلك. فكن شاهدا فينا وعلينا، ونحن نلتقيك، أيها الطائر الحبيب! ) .
فجأة أجدني هنا لا هناك حيث أمضيت ثلاثين عاماً.
أحزنني أن المدينة لم تعد في مكانها.
هل غادرت معي إلى المنفى؟ ولن تعود أبداً؟ .. مدينتي الغائبة.. أ ليس لي من أثرٍ؟ ولولا الناس لما تعرفت عليها... الناس هم شهودي الوحيدون.. الناس الأحياء الطيبون.. أ كلّ هذه الأهوال وتبقى طيبتهم مرتسمةً على الوجوه؟
أحياناً ألتقي بعشرات الناس في جلسة واحدة. إنهم أصدقائي وأبناؤهم وأحفادهم... سلسلة وارثين لم يرثوا منّا سوى ما يجعل الإنسان إنساناً خارج أسواق المزاد المعلنة والخفيّة، حيث الشاحنات على مرأى من السلطة، وهي تحمل الوقود إلى السفن وحيث الخزانات تملأ شواطئ المهربين.
استثاء وحيد.
ابن قريب لي فاجأني بزيارته لي وهو محاط بثلاثة من حراسه الشخصيين بدشاديشهم القاتمة.
سألني وبالأحرى أجابني، فهؤلاء لا يستفسرون من الآخرين وأسئلتهم الوحيدة هي في أقبية التعذيب
- سمعنا ( دك وركص ) في فندق المربد
قلت له : تمنيت، ولكن ذلك لم يحدث.
قال : أردنا أن نرسل مفرزة لهم ( يقصد الشعراء )
لم أتوقف عند وقاحته كثيراً وتجاوزتها بسؤالي :
- ألا تحرصون على كسب المثقفين
أجابني :
- لسنا بحاجة إليهم، لدينا ناسنا.
كان هذا الشاب، قريبي، من جماعة إسلامية متطرفة. وحين جمعتني به مناسبة أخرى فاجأني بشخصه الآخر السمح، البعيد عن رقابة حراسه، ورغباته الدنيوية التي تتجاوز ( الدك والركص ).
هكذا هم : مهذبون، وقحون، دنيويون، سماويون، أرضيّون، مهربو وقود وشاحنات، سريون، علنيون، ولكنّ سرّهم يفوق علنهم. لم أجد هناك من يحبهم. ولكنهم مع ذلك يتكاثرون. تسيرهم منافع شتّى ومصالح ضيقة. وقد يعود سرّهم علناً حين تحين فرصتهم في اقتسام غنائم أوسع. إنهم مع كلّ ما جمعوا من ثروات غير راضين أبداً. لأنّ هذه الثروات تحتاج إلى من يحرسها. وهذا يعني تثبيت لا ثرواتهم التي تحققت بل تنظيماتهم أي سلطتهم.
لم يكن صوت قريبي صوتاً مفرداً بل صدى لأصوات صارخة أخرى، ظلامية، متوحشة قادمة من عصرٍ حجريّ غابر، ومن كهوف خرائب المدينة التي تطالعك على بعد مترين من بيوتهم النظيفة.
أحد هذه الأصوات منشورٌ طالعنا بمانشيته الظلاميّ :
( بعد المربد... نداء إلى المثقفين الإسلاميين.. حرّروا اتحاد أدباء البصرة )
مع ذلك فثمة أمان في مدينتي المخرّبة... أمان لن تجده، ربما، في أماكن أخرى من عراقي الجريح وإن كان كسطح بحرٍ هادئ لا تدرك أعماقه.
ويبدو أن هذا الأمان تفتقده - وهذه مفارقة – كلّما اقتربت من قلب السلطة... من بغداد.
مئات الكليلومترات اجتزتها مع أصدقائي المبدعين : محمد خضير، محمود عبدالوهاب، كاظم الحجاج وأحباء آخرين في باص صغير دون أن نشعر أننا مهجورون في صحراء الإرهاب.. مفارز عديدة وشرطة مهذبون، ولكن ما إن دخلنا المناطق القريبة من بغداد حتى اختفت المفارز؟ لماذا؟ كان حارسنا الوحيد هو غفلتنا : نسينا أننا في مناطق خطرة وقد تتابعت نكت محمود عبدالوهاب المتلاحقة، والغريب أن هذه المناطق الخطرة هي أماكن مكشوفة، فمن أين ترى يأتي الخطر؟ من أين أيتها السيدة يا سلطتنا؟
مرّةً أراد عريف حفل، في إحدى مهرجانات الشعر الشعبيّ ، أن يحيّي منظمة حزب البعث المقبورالذي انبعث الآن جثةً تقاوم كما في أفلام الرعب، ومعها يحيّي محافظ الديوانية، فقال رافعاً عقيرته أمام جمهور حاشد:
السيد محافظ الديوانية!
السيدة منظمة حزب البعث العربي الإشتراكي!
فيا سيّدتنا أيتها السلطة، موقتة أو دائمة، لماذا كلّ هذه الحراسات في المناطق المأمونة وغيابها في المناطق الخطرة؟
لقد تخليت عن طموحي ورضيت بالقليل الأقلّ، بعد أن لقنتني السلطات والحياة دروساً لا أقوى على نسيانها، واكتفيت ببضعة أسئلة ومطالب صغيرة : أيتها السلطة السيدة! إذا كانت المدينة آمنةً، والحاكمون من اضطهدوا سابقاً، والودائع ردت إلى أهلها، والمحتلون في ركنٍ قصيّ من المدينة لا أثر لهم في شارعٍ أو زقاق، فلم كلّ هذا الانقطاع الوبيل في الكهرباء والماء وما ينفع الناس؟
سأتخلى عن أسئلتي هذه أنا القادم من سماء أسئلتي إلى أرض أجوبتكم، وسأكتفي بهذا السؤال الساذج :
لماذا هذه الأنهار العفنة التي تخترق المناطق المحتشدة بأهلكم والتي لا يستطيع حتى العابر تحمل رائحتها الخانقة؟
لم كل هذه التلال من الأوساخ؟
ألا يمكن معالجة ذلك : إحياء الأنهار أو طمرها إذا شئتم؟
ألا يمكن دفن مزابل أو حرقها في مدينة موصولة بالصحراء؟
ألا يمكن ذلك؟ يا سيدتي البلدية؟ ويا أيها القائم على البلدية يا قريبي العزيز الكاره لـ (الدك والركص)؟ ولكن ما يفاجئ حقا هو ما نسمعه من أن قطاعات المدينة ودوائرها تقاسمتها الأحزاب والمنظمات : فلهذه المنظمة البلدية ولهذه الكهرباء ولتلك .....
ولا ندري من يرشح صاحب المنشور المخزي ليوليه مسؤولية الشعر؟
ويبدو أنه كلما ساء الواقع ساءت توهماتنا عنه.
قيل لي ستسمع الناس يتحدثون الفارسية في الشارع وقد تراهم يتبادلون العملة الإيرانية، لكنني لم ألحظ أيّ شئ مما يشير إلى ذلك.
هل إيران أشدّ خطرا من تطرف عراقيّ مقيت؟ ما حاجتي للتوهم في واقع يحتشد بتناقضاته، عارياً لا تغطيه غير شعاراته الأكثر عرياً .. شعارات تعيدك إلى ماضٍ سحيق... وصور ذات أحجام هائلة ترافقك في الطريق... محاطة بالقداسة في واقع يحفل بكلّ ما هو مدنّس من تقتيل ومقولات جوفاء، وأفكار هابطة من السماء بأجنحة الشياطين.
ماذا يجري؟
وما يجري، رغم كل غرائبيته، لا يزال الناس يعتبرونه أفضل مما مرّ، بكوابيسه ومقابره الجماعية، وخطابه البشع الذي لا يستقر على حالة أبداً.
ثمة صحافة، ومنافذ للقول، وفضح لما يرتكب، ورأي عالمي.
لم يعد ثمة واقع خلفيّ : كل شئ مكشوف وما هو مخفيّ أشدّ عرياً.. لا نوايا تخفى على الناس بعد ما عانوا ما عانوه من تجربة لم يشهد كوكبنا مثيلاً لها.
ورغم أن ثمة بطالة وفسحة عيشٍ تضيق فقد رفض بعضهم ما قدمته لهم من عون لا استنكافاً من عزيز لهم بل محبة مشيرين إلى من هو أحق منهم بهداياي.
أي إنسان هذا ... إنساننا العراقيّ؟ كيف يقف حتّى هذه اللحظة، وسط هذا الفساد الخانق.
هناك من يرحّل فساد الدولة إلى الناس لأنه لم يرهم، لقد أتى العراق مشغولاً بصفقة أو مشروعٍ أو مساومةٍ لا شأن لي بها على الإطلاق.. لقد ذهبت حاملاً محبتي مانحاً لا آخذاً فاستقبلني الناس بالمحبة ذاتها، إن لم تكن بمحبةٍ تزيد.
أتساءل أحياناً : من لهذا الشعب المسكين، الأعزل؟ لا الدولة ولا الأحزاب ولا الاحتلال، فمن له إذن؟ الدولة بوزاراتها المخترقة؟ الأحزاب بحساباتها؟ الاحتلال المشغول بحماية نفسه؟ منْ لشعبنا العراقيّ؟ الذي يلهج باسمه الجميع؟
أ هو الشعر الذي تغنى بهذا الإنسان ما لم يتغن به شعر آخر؟
ولكن كيف يحمي الشعر، وهو الأعزل، شعباً أعزل؟
لعلّ الحسنة الوحيدة لخراب البصرة هو اندثار آثار ما يثير شجني؟
قبل رحيلي كنت أخشى رؤية الأماكن التي جمعتني وحبيبتي ـ أم أطفالي الراحلة ـ لئلا تتفتح جروحي ثانيةً، غير أنّ ما خشيته لم أجد له أثراً.
هل أقول لنفسي : ما أسعدك حظّاً حتّى في أحزانك يا نفسي؟
ولكن أحزاني تفاوتت فأصبح بعضها يعلو بعضاً.
لم يحزني منظرٌ في البصرة مثلما أحزنني شارع الوطني... بباراته ومقاهيه ومكتباته وسينماته التي رأيت فيها أجمل الأفلام، ونسائه اليافعات وهنّ يتنزهن في المساء بثيابهنّ القصيرة وخطواتهنّ المتئدة ومواعيد عشاقهن أمام أبواب سينماته الصيفية.
لا أنسى أيضاً ذلك الفتى الوسيم الذي يشبه ممثلا مشهورا من هوليوود وهو يرمي سترته على كتفه ويمشي بسيطاً ومزهوّاً في آن، بوسامته وسط الفتيات الجميلات وهنّ يسترقن إليه النظر دون أن تغادر وجوههنّ ابتسامة الرضى عنه وعن أنفسهنّ.
لقد رأيت هذا الشارع الجميل شارعي وهو مهجور تعلوه المزابل، و تطل عليه أبواب فاغرة كأفواه الكهوف، يلوح عبرها أثاث قديم مهترئ، وحطام مهجور :
أيها الشاعر الفتى
أيها الشارع الجميل
ثلاثون عاماً وأنا أمرّ
ذاهباً آيباً
لا أراك
حاضراً في غيابك الطويل
أيها الشارع الجميل
صالاتك موحشةٌ
تسكنها الأحجار
وشاشاتك
- تلك الفضية في الصيف
المفتوحة
كالساحات على الليل -
شواهد بيضاء
وحورياتك
أين ارتحلتْ حورياتك؟
أين؟
أيها الشاعر الفتى
أيها الشارع الجميل
أحزنتني أيضاً من بين أشياء كثيرة السينمات المهجورة... سينما الحمراء التي كتبت عن شارعها يوماً : حلمتُ مرّةً أنني نائم في شارع تظلله تعريشة أمام مقهى في سينما الحمراء في البصرة، يمرّ بي الناس ولا يحفلون
سأنام بذاك الحوش ضحىً
وأقول : سلاماً للقيلولة في الشارع
وأقول سلاماً للناس
يمرّون
سلاماً للمقهى عائمةً
للتعريشة نائمةً
لمساء البصرة
عند الجسر
يسيل مع الماء
لصيف العشار يثرثر في المذياع
فلا أسأل
بيتٌ أم شارع
مقهىً أم صالة أفراح؟
غيرأنّ الحمراء حين عدتُ إليها بعد ثلاثين سنة كانت حائلة بلا لون :
الحمراء
الحمراء
أين هي الحمراء؟
أين الصالةُ مظلمةً أقطعها كالطفل
وأدنو من شاشتها
كي أعبرَ بحّاراً
أو طيراً فوق عمود سفينٍ يبحر
أو قرصاناً
- إن شئتَ -
بعينٍ واحدةٍ
وأعود إلى الصالة بامرأةٍ
لن ترجع ثانية لمياه البحر
وأهوال البحر
امرأةٍ
برداءٍ تسحبه فوق الأرض
وقبعةٍ تعلوها الريشةُ
بيضاء
........
........
الحمراء
الحمراء
أين هي الحمراء؟
حتّى الجسر الذي كتبتُ عنه ذات يوم :
أيّها الجسر!
مرّت العربات
مرّت الريح بين الزوارق هاذيةً
وسياجك متكئ عند خصري
والذي مرّ من سنوات
عابراً..
يتلهّى بشمسك طافيةً
يرقب الماء متكئاً عند خصري
( الجسر ) من ديوان ( النقر على أبواب الطفولة )
لم يعد موجوداً. لقد امّحت معالمه تحت كتل الإسمنت وأصبح وكأنه امتداد لفوضى المكان لا علاقة له بالنهر وزوارقه التي اختفت إلى الأبد.
أما بصرتي القديمة.. بصرة طفولتي التي تبدأ باستدارة عند ساحةٍ لتلتقي باستقامة الطريق الذاهبة إلى العشار فلم أرها وما رأيت هو فوضى عرباتٍ يحتشد فوق أطعمتها الذباب الذي لا يثير اهتمام أحد.
في هذه الاستدارة كلّ تاريخ البصرة : مقاهيها، أسواقها، مركز شرطتها الكريه، دار بلديتها، سوقها القديمة، منازل مومساتها، مجالس عزاءاتها، مواقف باصاتها، وموبلياتها الجميلة التي تقف أمامها دوماً سيارات الأعراس حيث مقهى محمود الذي كنت أطلّ عليه فيما بعد فأستجمع المشهد وأتذكر طفولتي :
أركض حين يجئ الناس
محتشدين أمام الواجهة المفروشة بالقنفات
أركض مسحورا بين السيارات
أحمل كرسياً
ومصابيح ملونةً للزينة
لكنى أخشى لمسَ مخدّات الأعراسْ
وأخاف النسوة
أسأل أحياناً
هل يتزوّج هذي الأيام الناسْ؟
(أمام موبيليات العرائس) من ديوان ( النقر على أبواب الطفولة )
وأجمل من كلّ ذلك سوقها القريبة من المركز الذي يتصل بسوق العبايجية وسوق البزازين... سوق مفتوحة يتوسطها مقهىً شعبيّ جميل كأنه امتداد للشارع، بلا سقف ولا عتبات، وفي الصباحات تهبط المومسات بجولة تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه (حين تموت البذرة ) أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها.
كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهنّ، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد.
لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ :
في السوق رأيت النسوة يبكين
يحزمن شراشف وعباءات
ويودعن الآتين
في المقهى المردوم وراء البلديّه
يا عيني هل ترحل صبريّهْ
وتغيب الفتيات
لم أضحك حين سمعتُ سباب القوّادين
وسط الضحكات
( رحيل ) من ديوان ( النقر على أبواب الطفولة )
بعضهنّ سكنّ البيوت المجاورة للمبغى ودار البلدية، حيث تنعطف السيارات باتجاه الطريق العامة المستقيمة التي تحاذي النهر والشناشيل ذات الشبابيك التي تؤطر وجه فتاةٍ ما.. فتاة تحدّق في النهر والعابرين وتختفي كما تختفي اللوحة في إطارها.
لم ينج من هذا الخراب إلا تمثال السياب الذي ما زال منتصباً في زاويةٍ من شطّ العرب رغم كل الحروب التي شهدها، في حين لم ينج صاحبه من أبسط شرور الدنيا في حياته.
في الطريق إلى بغداد
دخلنا بغداد في المساء متجهين مباشرة إلى فندق بابل حيث الجوّ – على خلاف ما عهدناه في فندق المربد – يذكّرك بما شهدته في فنادق حللت بها في بلدان أخرى. ما استوقفني أيضاً في هذا الفندق هو حسن تنظيمه ودماثة عامليه.. أحدهم فاجأني بتنصته لسماع قصائدي في القاعة القريبة من الاستعلامات أثناء تأدية عمله، واعتذاره عن سؤال مغرض وجهه إليّ أحد الحاضرين.
لم أكن أتوقع أن تسهر بغداد حتى الثانية عشرة ليلاً ضاجة بالحركة، على الأقل في المنطقة المحيطة بالفندق أي الكرادة، كما أنني لم أتوقع أن يتنقّل الناس بهذا الاطمئنان وسط ألغام الرعب.
في صباح اليوم التالي من وصولنا توجهنا إلى قاعة افتتاح مؤتمر المثقفين العراقيين. كانت القاعة تكتظ بآلاف الناس. أطللت في الظلمة على المكان فلم أجد مقعداً شاغراً فاتخذت طريقي إلى الجهة الأخرى المقابلة مجتازا الفسحة أمام المقاعد الأولى دون أن أنتبه إلى وجود أصدقائي القدامى مفيد الجزائري وآخرين. اعتنقنا كأننا نلتقي في أحد مقاهينا القديمة في بغداد.
كم يصعب أن يحتفظ الناس ولا سيما المسؤولين ببساطتهم في جوّ احتفالي كهذا وسط جمهورٍ حاشدٍ يضج بمشاعرمختلطة لا تعرف لها قراراً أبداً.
بعدها توزعنا على أقسام سموها ورشاً لتقديم المقترحات ومناقشتها وكان اختياري هو أن أكون في ورشة الكتاب والنشر حيث قُدمت إسهامات جادة وإن ذهبتْ في تفاصيلها بعيداً عن واقع الكتاب والنشر في ما طرحَتْهُ من مقترحات غير قابلة للتنفيذ. من جانبي أسهمت في طرح بعض الآراء على ما قدم من مداخلات مؤكداً على ضرورة أن تكون المقترحات أقرب إلى الإمكان والتحقيق دون أن تجرنا الأوهام بعيداً.
لقد أريد للمؤتمر أن يكون منطلقاً لعمل ثقافي قادم يلتزم به الجميع بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه هذه الوزارة أو تلك في هذه الفترات الانتقالية التي لن تشهد استقراراً ربما لفترة طويلة ولاسيما في جانب هو أشد الجوانب تطلباً للاستقرار أعني به الجانب الثقافي.
ساد جو المناقشات طابع المسؤولية والاتزان إذ لم أسمع خطباً ولا إنشاء أو ولاءات وإنما أراء تصب في صلب العملية الثقافية.
وفي الجلسة الأخيرة للمؤتمر قُرئت خلاصات للوصايا والمقترحات التي قدمتها الورشات لم تخل من التكرار والذهاب بعيدا في أوهام التنفيذ. تقدمت الخلاصات أحياناً عبارات كسرت الملل الذي يسود أجواء كهذه مثل ( تهانيني ) بدلاً من ( تهانيّ ) التي تشدّ انتباه حتى النائمين في القاعة المزدحمة التي بدأ جمهورها يتسرب لاحتساء الشاي.
أدركت أن بقائي للاستماع للتقارير سيفوت عليّ فرصة كبيرة لرؤية بغداد التي لم أر منها إلا بضع مناطق، لا سيّما أنني سأغادرها غداً صباحاً.
عبّرت للشاعرين الصديقين سهيل نجم وعلي المطيري عن رغبتي في رؤية شارع الرشيد والمتنبي فلم يترددا في اصطحابي إلى هناك مبدين كرماً وسماحة مؤثرين حقّاً.
حين وصلنا إلى ما يقرب من نهاية شارع الجمهورية قريباً من شارع الكفاح آثرنا الترجل والسير على أقدامنا إلى شارع الرشيد حيث يقف شاعرنا العظيم الرصافي، الذي طالما أحببته كثيرا ورددت أشعاره في صباي مسحوراً بشجنه ( إليك إليك يا بغداد عني )، بقامته المديدة وهو يحدّق في الأفق وسط ركام النفايات وقد استحال لونه فضّياً تحت شمس بغداد اللاهبة... ولعلّه في وقفته الدائمة تلك، وطلعته البهية، وتطلعه البعيد ما يشي بحيرتنا نحن الواقفين أبداً نتطلع ونتطلع حتّى لو لم يكن ثمة أفق وسط نفايات الحاضر ومزابل الأمس.
كانت أرصفة الرشيد وحتّى أجزاء منه تكتظ في الظهيرة حين جئناه لا بالناس ولكن بسقط الأشياء : ثلاجات. طباخات، كراسيّ، أحزمة، لعب للأطفال، ملابس.. وكل ما يخطر في بالك من أشياء صالحة للاستعمال لسنة أو شهر وربما ليوم واحد، فآثرنا أن نسلك فرعاً لندخل شارع النهر.. الشارع الجميل الذي احسست ببهجته حتّى وأنا مشرّد حزين، أواخر السبعينات في بغداد. كنت أسلكه مرات ومرات أنا وحبيبتي مطمئناً، وإن لم أكن بمنجىً عما يعرضني للمخاطر. كان الشارع على الرغم مما آل إليه من هجران وإهمال يشي بجماله هنا وهناك في فسحة ظليلة، في عريشة ما زالت باقيةً، في شجرةٍ، في ماء سبيل، في بائع عصير، في محل صياغةٍ، أو في أرضٍ مرشوشةٍ بالماء.
ما زال ثمة حياة في جسد هذا الشارع. ما زال ثمة سكون، ورغبة في القيلولة أو الجلوس في مقاعده، أو الشرب من ماء سبيله، ولكنه سرعان ما ينفتح على الكتل الإسمنتية والشمس اللاهبة والناس المسرعين والمياه الآسنة في الشارع الفاصل بينه وبين سوق السراي حيث تتكدس الأوراق والكتب القديمة والكراريس لتتذكر أيّاماً غابرةً وزوايا أليفة لم تعد ماثلةً إلاّ في روحك، ولكن هاهو ما ضيك ما يزال حاضراً في أثرٍ لا يشغلك أبداً : بائع الكبة في الزاوية حيث يتقاطع سوق السراي والمتنبي.
قريباً منه ترى مقهى الشابندر فتتذكر الحصيري فوق مصطبته وهو يدخن نارجيلته بخديه المنتفخين، مقيما كأنه البارحة بوجهه الأبيض العريض ولحيته الخفيفة وابتسامته الطفولية التي يريد لها أن تكون وقاراً، وجلسته الملكية وكأن الدنيا طوع بنانه، بثيابه الرثة وحقيبته التي لم تفارقه قطّ وكأنه أودعها مخطوطات الدنيا.
لم نجد في المقهى إلاّ زبائن معدودين. لم أتوقّع أن أحداً منهم يمكن أن يعرفني ولكن فجأةً يطالعني أحدهم بمحبة كبيرة :
- أنا فاضل
ولم أتذكر كأنّ ذاكرتي التي احتشدت بالوجوه أغلقت أبوابها عليّ، فلم أجد وسيلة إلاّ أن أتسلل إليها وأحدّق في وجوهها لأرى صاحبي هناك في ظلّ بعيد أخاطبه ويخاطبني ونتذكر شيئا أو نوجده.
تناول من مجلسه بياناً وأعطاني إياه
إقرأ -
فقرأت : " جمهورية فاضل الديمقراطية العادلة "
ثمّ تناول بياناً آخر ليسلمني إياه بمانشيت عريض : " قالوا عن الاستاذ فاضل "
ومعها مانشيت آخر : " السيرة الذاتية "
بينما كان صديقي العزيز الشاعر علي المطيري يحدّق بي وابتسامة خفيفة تعلو وجهه.
وبعد قراءة بيانات صديقي الأستاذ فاضل نهض فاضل واتخذ مكانه في مواجهتي وحين رآني أغالب نعاساً داهمني إثر النزهة الطويلة تحت شمس بغداد وقراءة بياناته قال مغالباً حرجه وحرجي :
- شلونك
ثمّ رجع إلى مكانه وسط ابتسامة على المطيري التي لم تغادر وجهه الحبيب الطيب المتخابث، وابتسامة سهيل الرصينة.
بحثت عن كتاب الرصافي في السوق السوداء لأهديه إلى أصدقائي في البصرة ممن لم تتوفر لديهم
الوسيلة للإطلاع عليه، ثم عدت إلى الفندق ومعي سهيل، إذ غادرنا عليّ إلى مكان آخر.
لم أغادر الفندق، على غير عادتي، ذلك المساء الذي سبق عودتي إلى البصرة، والذي صادف الخميس، رغم إلحاح شقيقتي المتكرّر لزيارتها في المنطقة الخضراء، بعد أن ضقتُ ذرعاً بالإجراءات الأمنية الصعبة للوصول إليها في الليلتين السابقتين.
كنت محظوظاً في بقائي فقد شهدت أعراساً لم أكن أتوقعها، يفوق عددها العشرين عرساً ربّما...
كان الفندق غاصّاً بالمحتفلين نساءاً ورجالاً وأطفالاً من العرب والأكراد والأقليات الأخرى، بملابسهم المألوفة والغريبة، التقليدية والحديثة، ممّا أشاع جوّاً من البهجة والطمأنينة واستعادة شئ طالما فقدناه في أصوات الانفجارات التي لم تكن بعيدة عنّا حين انطلقنا قبل يومين في طريقنا إلى المسرح الوطني، بل إن آثار هذه الانفجارات لا تزال ماثلةً في الطابق الذي أسكنه حيث امتلأت بعض ممراته بنثار الزجاج المتهشهم جرّاء صدى الانفجارات.
العودة
بعد يومين أو ثلاثة من عودتي إلى البصرة التقيت بسفوان ثانية وقد رافقني إليها أحبائي : محمد خضير، ومحمود عبدالوهاب، وجميل الشبيبي، وجاسم العايف، وأخي سلمان الذي جاءني من أبوظبي ليراني بعد ثلاثين سنة من الغربة.
بدت سفوان وكأنها سوق وليست نقطة حدودية بأكشاكها - الدوائر المبعثرة وفوضى ناسها واختلاف طباع موظفيها.
كم وودت لو ان الانطباع الجميل الذي تولّد لديّ عن موظفيها لم يبدده موظف ذو سحنة مكفهرة .ازدادت سحنته اكفهراراً عندما اكتشف أنّ لديّ حقيبة ملأى بالكتب التي أهداها إليّ أصدقائي. ولم يخفّف من سحنته قطّ رؤية الأهداءات ولا صورة محمود عبدالوهاب الذي يرافقني على الصفحة الأولى من جريدة ( الأديب ) العراقية، بل أنبني تأنيب العارف الواثق من معرفته وثوقا مطلقاً :
- ألا تعرف أن قانون المطبوعات يحظر إخراج هذه الكتب معك؟
فسألته بدوري :
وهل هناك قانون للمطبوعات؟ -
لكن سرعان ما انقطع الحديث معه حين جاء مسؤول ليشير عليّ أن أحمل حقيبتي الملأى بالكتب مودّعا أصدقائي ومواصلاً طريقي إلى الكويت.
هامش لا ضرورة له
ماذا سأكتب عن العراق؟
هل أغنيه طفولةً وأحلاماً لأطفالٍ قادمين، ولكن أين هو الحاضر؟.. أين هو الحاضر؟ إيها المغني الحالم في واقع لم يعد واقعاً وحلمٍ لم يعد حلماً..... أين أنت؟ وأين هي القصيدة؟ :
عراق مكتوب للأطفال
للواقف بالشروال
وكفّاه على الخصر
أقول :
" ما أجملك "
للهابط بالأبقار
إلى السهل
وخلفه تلمع رابيتان
أقول:
" ما أرحبك "
((رجلاً كنتَ أم امرأةً)
للصائح في سوق ( الشورجة)
وسط رنين الطاسات
وأكواب الشاي
أقول:
" ما أبهاك "
وللخائض في الأهوار
وراء النجم
أقول..
أقول..
أقول
التعليقات