فوجئت كما فوجىء المثقفون المصريون والعرب، بطلب نجيب محفوظ، الغريب والشاذ، بأن توافق مؤسسة الأزهر الدينية، على مضمون روايته [ أولاد حارتنا ، قبل أن ينشرها هو في مصر، بعد حوالي 47 عاماً، من منع هذه المؤسسة ذاتها، لنشر الرواية، بحجة [ أنها تتعرض للذات الإلهية وللأنبياء، بشكل يُسيىء لهم ]. فوجئت بل وصُدمت، من طلب كهذا. وبالأخص حين علمت أن حامل نوبل الوحيد بين الأدباء العرب، هو مَن يشترط هذا الشرط، وليس الأزهر! أي هو مَن يستدعي رقابة المؤسسة عليه، لا هي، كما فعلتْ سابقاً أيام عبد الناصر! والأسوأ من ذلك أيضاً، طلب نجيب الثاني الأغرب، على ذمة يوسف القعيد، وهو: أن يكتب أحد المقربين من جماعة الإخوان المسلمين، مقدمةً للرواية! فإن لم يتحقق الشرطان أو الاشتراطان، فربما يعزف محفوظ عن النشر! إنها فعلاً حالة غريبة ونادرة في التاريخ الثقافي العربي والعالمي. فهي أول مرة نسمع فيها، أن مبدعاً، بغض النظر عن قيمته، يطلب من مؤسسة دينية ليست جهة اختصاص، أن توافق على نشر كتبه! فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بواحدٍ هو أكبر وأعظم الأدباء العرب المعاصرين؟ ومابالك إذا تعلّق الأمر، برجل، كلنا يعرف تاريخه الليبرالي، كوفدي قديم؟ إنني حقاً عاجزٌ عن فهم طلبات كهذه! بل عاجز ومذهول! فبدل أن يقف نجيب محفوظ، مع حرية الإبداع المطلقة، وحق المبدعين العرب، في قول وكتابة ما يشاؤون، نراه يستدعي الرقيب لنفسه ولنا من بعده! ربما نفاقاً لجماعة الإخوان، وربما خوفاً من تكرار الاعتداء عليه، وربما، وهذا هو الأغلب، ضماناً لسمعة إسمه، بعد وفاته، بأن لا يتعرّض له أحد بتهمة التكفير! وفي جميع الأحوال، نحن نرى أن لا مبرر للكاتب الأشهر. أياً كانت الأسباب والدوافع الخفية أو المعلنة، لسلوكه المهزوم والمتخاذل هذا. فهو باليقين، أكبر وأعلى، من أن يطاله الرجعيون، بأذى مادي أو معنوي أو أدبي. وهو باليقين، في غير حاجة لهم ولمقدامتهم. ثم إنهم هم الذين كفّروه وجرّموه، ولا أنسى في هذا المقام، كتاب عبد الحميد كشك البائس، وهو شيخ من رموز الإخوان، ومقدار ما فيه من غثاء رثيث عن الكاتب. فهل يريد محفوظ، أن يستجدي توبةً من مُكفّريه السابقين، فيرهن بذلك، الإبداع الحر، في أيدي هؤلاء المتخلفين الجهلة؟؟ ولماذا الآن؟ لماذا الآن، بعد أن حصد الإخوان خمس مقاعد مجلس الشعب المصري؟
لقد قرأت الرواية، قبل عقدين من الزمن، عن دار نشر في بيروت. وقيل لي إنها موجودة ومتوفرة بكثرة في كل العالم العربي، ومنه القاهرة. فما الذي جرى حتى تُنشر بهذه الطريقة الآن؟ لقد حيّرنا طويلاً كاتبنا العظيم، عبر مراحل حياته كلها. فهو لم يقف مرة في صف المضطهدين من الكُتاب. ولم يكن له مواقف رأي كبرى، بحجم قامته الإبداعية الكبرى أبداً. بل آثر الوسطية وأحياناً المواقف اليمينية، وبالذات تجاه السلطة وتجلياتها الرثة في العالم العربي. حتى بدا مُسالماً أكثر مما يجب، وعلى نحو لا يليق مطلقاً بكاتب عظيم أو متوسط! ولو تذكّرنا، في مسرد بسيط، مواقفه من أنور السادات، وعبد الناصر، ومبارك الآن، لعرفنا أنه كاتب غير معني سوى بالهدوء، ومجاملة السلطان، بعيداً عن أي شيء يكدّر علاقته بالسلطة السياسية والاجتماعية. لذلك، فنجيب محفوظ المبدع، أعظم ألف مرة، من نجيب محفوظ المثقف. ونجيب محفوظ رجل الحضور الإبداعي، أعظم ألف مرة، منه كرجل حضور سياسي واجتماعي ، له مواقف وآراء. وإني إلى الآن، لمندهش، مما كان يكتبه الرجل، في أوائل الثمانينات، في صحيفة الأهرام، من رأي. إذ كانت آراؤه باهتة وبلا لون أو طعم أو نكهة. بل هي كلمات كاتب، لا يمت بصلة، للمبدع العظيم المتألق نجيب محفوظ. لكن، كل هذا كوم، وموقفه الأخير الصادم، كوم آخر. فهو أول أديب في العالم، يطلب من جهة معادية للإبداع، أن تكون وصية على إبداعه! وماذا؟ متبرعاً هذه المرة. فالأزهر، لم يطلب منه ذلك شرطاً للنشر! إنها، كما قال بحق، الكاتب الكبير جمال الغيطاني، سابقة خطيرة. سابقة تعطي للأزهر الحقَ في الرقابة على الإبداع، بما يخالف موقف المثقفين المصرين، وبما يخالف أواليات البداهة والمنطق! لقد وقف نجيب، بهذا الموقف، ضد نفسه، وضد تاريخه، وضد بهاء المعنى، وفضاء الحرية، في عالم عربي يضيق بها يوماً عن يوم. فواأسفاه حقاً hellip;واأسفاه أن يكون لنا عظيم بقامته، ولا يدافع عن حقوقنا ككتاب فقط، بل لا يدافع عن حقوق التاريخ عليه، وحقوق نفسه على نفسه، قبل أن نتكلّم عن حقوق القرّاء!
التعليقات