وأسماء العلم

بقلم لوبومير دوليزيل
ترجمة: عادل الثامري

تركّز الشـعرية المعاصرة على دراسـة معنى النصوص الأدبية بوصفها منظومات سيمائية عالية التنظيم لإنتاج إبداعي و تخييلي للمعنى. لقد اكتشفت الشعرية علم دلالة العوالم الممكنة من خلال بحثها عن فهم نظري أعمق لهذه الفعالية السيمائية الإبداعية. وتستلهم هذه النظرية للدلالة الفلسفة الكلاسيكية وخصوصاً فكرة لايبنـز عن لا محدودية العوالم الممكنة. وتوفر هذه النظرية في أنموذجها الشكلي نماذج نظرية للتأويلات الدلالية للسياقات الشكلية و التكثيفية والقصدية.

يمكن وصف علم دلالة العلامات اللفظية (بضمنها النصوص الأدبية) على أنه الدراسة النظرية للعلاقات بين الكلمة و العالم، و يوفرُ علمَ دلالة للعوالم الممكنة وليس لعالم فعليّ واقعيّ واحدٍ فقط (1). بالنسبة للأدب التخيلي، يعدّ هذا المنظور ثنائي الأهمية: أولاً،إذا ما أشارت النصوص الأدبية فإنها بالتأكيد تشـير إلى العوالم الخيالية الممكنة بدلاً من العالم الواقعي. فمفهوم العالم الممكن هو الذي يشغل المكان في حقل المرجعية للنصوص التخييلية. ثانياً، يقودنا علم دلالة العوالم الممكنة فنشاء علاقة أكثر ديناميكية بين النصّ الأدبي و عالمه: فالعوالم التخييلية لا توجد قبل النصوص، لذا، ينبغي لكل نص أدبي أن يبني حقله المرجعي و عليه أن يوجد عالمه التخييلي. أساساً، لابد من النظر إلى النصوص الأدبية بوصفها آليات سيميائية لبناء عالم ما، و يظهر المرجع بوصفه جانباً ثانوياً من علم دلالة النصوص الأدبية(2)، إنّ قوة إنشاء العالم التي توسّع مدى و تنوع الكون السيميائي هي التمظهر الأعلى لقابليات إنتاج المعنى للأدب. إنّ قبول حقيقة العوالم التخييلية بوصفها جزءاً لا يتجزأ من كل ثقافة إنسانية هو اختبار جديّ لنجاح خيال إنشاء العالم.
توفّر الشعرية هذه حافزاً لفهم أفضل لكل أشكال السيميوزيس (Semiosis) الإبداعي. فضلاً عن ذلك، فإن علم دلالة أدبي سيساهم في فهم أفضل للمسائل الموضوعاتية لعلم الدلالة الفلسفي و المنطقي، و طالما أن موضوع علم الدلالة الأدبي الأغنى و الأكثر تنوع يكمن في العوالم الممكنة، فإنّ علم الدلالة الأدبي سيغني معرفتنا بأنماط و بنى الوجود و الاشتغال الحضاري للعوالم الممكنة.
إنّ السمة الأكثر جاذبية لعلم دلالة العوالم الممكنة هي مدى قوته التفسيرية إذ يمكن إعادة تنظيم كافة المسائل التقليدية للمعنى في الأدب بواسطة ميتالغة هذه النظرية، فضلاً عن ذلك، تكشف هذه المقارنة عن جوانب دلالية للأدب لم تلحظ لحد الآن أو لم تمنح الأهمية التي تستحقها (3). في هذه الورقة محاولة للبحث عن إمكانية فكرة العوالم الممكنة على إغناء فهمنا للوظائف الدلالية لأسماء العلم ذات المرجعية المفردة في الأدب.
لا يمكن أن يمنح علم دلالة عالم واحد معالجة أخرى لأسماء العلم الأدبية دون تجريدها من المرجع: فإسم مثل راسكولينكوف ينقصه المرجع لإنّ فرداً بهذا الإسم و بأوصاف دستوفسكي غير موجودة في العالم الفعلي مطلقاً. وكان الحل بعزل الأسماء الأدبية (التخييلية) عن أسماء الأشخاص الفعليين و الأماكن الفعلية hellip; الخ.
ينظر إلى الأسماء التخييلية في علم دلالة العوالم الممكنة بوصفها تشير إلى الأفراد الموجودين في العوالم التخيليية. إن راسكولينيكوف هو إسم شخصية روائية موجودة و تعمل في العـالم الروائي التي ينشـأه نص رواية دسـتوفسكي quot; الجريمة و العقاب quot;، ولابد من التأكيد على هذه المواجهة التهمة التي غالباً ما تتردد في أنّ علم دلالة العوالم الممكنة لا يفصل العوالم الروائية عن العوالم الفعلية. و في خطوة مشروعة تماماً للتأويل الدلالي، يمكن ربط العوالم الروائية بالعوالم الفعلية بواسطة التعالق والتشابه و التباين.. الخ. لذا يمكن القول أن راسكولينكوف يشبه مفكرين روس فعليين من أصول غير أرستقراطية و الذين خرجوا من صفوف الجماهير في روسيا حوالي أواسط القرن التاسع عشر. من العبث الإدعاء أن اسم العلم راسكولينكوف يشير إلى أحد هؤلاء الأفراد الموجودين فعلياً. أما مسألة أنه يمثل الموجودين فهي قضية أخرى.
وفّرت مقاربة العوالم الممكنة في علم الدلالة المنطقي الإطار النظري الضروري لتأويل دلالي أصيل لأسماء العلم. إن أسماء العلم هي مشيرات ثابتة ( لندعو شيئاً ما مشيراً ثابتاً إذا ما أشر في أي عالم ممكن نفس الشيء، و مشيراً غير ثابت إن لم تكن تلك هي الحالة) و لكونها مشيرات ثابتة، تتميز أسماء العلم بل تتباين عن التوصيفات المحدودة، و كذلك كل الأصناف الأخرى ذات المرجعية المفردة. في هذا الصدد، يمكن النظر إلى نظرية التأشير الثابت بوصفها صياغة واضحة لشك قديم عبّر عنه كل من فلاسفة اللغة و اللسانيين ndash; إنّ أسماء العلم تمثل منظومة فرعية داخل منظومة اللغة الطبيعية. لذلك، بيّن ياكوبسن، على سبيل المثال، بشكل واضح أنّ أسماء العلم quot; تحتل مكاناً خاصاً في شفرتنا اللغوية quot; (ياكوبسن 1971). كان علماء الإشارة السوفيت مثل لوتمان و أوسبنسكي أكثر راديكالية في نظرتهم لسمات أسماء العلم الخاصة: (في عدد من المواقف اللغوية، يخالف سلوك أسماء العلم كثيراً سلوك الأصناف اللغوية الأخرى حتى أنها توعز بفكرة وجود لغة أخرى أمامنا تنبني بشكل مختلف في داخل اللغة الطبيعية).(لوتمان واوسبنسكي 1977). وقبل ذلك إقترب (زيف) كثيراً من نظرية التأشير المحدد، ليس بالإدعاء (إن الاسم نقطة ثابتة في عالم متحول) بينما (تتغير التوصيفات) فحسب: بل بتعريف (طقوس التعميد) بوصفها الطريقة الضرورية و المحددة لتعيين أسماء علم للأفراد (زيف، 1960).
ينطوي مفهوم أسماء العلم بوصفها مشيرات ثابتة على نقطتين:
أ _ لا يعادل معنى إسم العلم وصف محدد أو مجموعة من الأوصاف المحددة و لا يمكن تبسيطه بهذه الصورة ؛ فلا يمكن التعبير عن معنى إسم العلم (نابليون) بأي أو بكل الأوصاف المحددة التي يمكن أن تقترن بالشخصية التاريخية (إمبراطور فرنسا المتوّج عام 1804، والذي نُفي إلى جزيرة ألبا hellip; الخ) نابليون سيبقى نابليون حتى و إن لم ينطبق أيّ من هذه الأوصاف، أي حتى إذا كان تاريخ حياته يتبع طريقاً مختلفاً تماماً .
ب_ إنّ أسماء العلم بوصفها مشيرات محددة تهدد الهوية العالمية للأفراد، ففي كل العوالم الممكنة التي عشنا فيها، أو ربما كنا قد عشنا فيها، أو نتخيل أنفسنا و نحن نعيش فيها، فإننا نعرف و سوف نعرف إن كنا نحمل علامة إسم العلم. و لأن إسم العلم يتبع الفرد في كل تواريخ حياته، فإنه حسب صياغة بارت (ملائم) إنّ المحافظة على الإسم العلم في التحركات عبر العوالم الممكنة لا يعني أن فرداً ما محدد بإسم علم واحد فقط، حيث يمكن أن يُعرف نفس الفرد بعدة أسماء و أسماء مستعارة و غيرها. فالهوية العالمية لفرد مثل هذا لا تمثل صعوبات طالما أن هنالك تأسيس لمكافئ تأشيري بين هذه الأسماء.
و يقدّم الأدب أمثلة مثيرة عن الهوية العالمية التي يؤمنها المشير الثابت لإسم العلم. ففي قصة أو هنري O. Henry القصيرة (طرق المصير) يفيد المؤلف من مخطط الحكاية الشعبية التقليدية (ثلاثة أبطال ينطلقون للسفر من تقاطع للطرق بإتجاهات ثلاثة مختلفة، و يواجهون ثلاثة مصائر مختلفة _ في تجربة تحدٍّ على نحو دلالي: تُعيّن تواريخ الحياة الثلاثة إلى نفس البطل _ شاعر مزارع يدعى ديفيد ماغنوت). إن الحيوات الثلاثة لهذا الشخص في العوالم الثلاثة البديلة تنتهي بموت البطل. و تتمظهر القوة الدلالية للمشير الثابت في إن هوية ماغنوت تبقى كما هي عبر العوالم التخييلية الثلاث لأن المرجع الثابت المعبّر عنه بواسطة إسم العلم يحكم بالإستحالة الطبيعية للحياة الثلاثية.
إنّ هوية ماغنوت لا تستند إلى إسمه فقط حيث يصف (أو هنري) الدور المساند الذي يمكن أن تلعبه الأوصاف المحددة في الهوية العالمية. أولاً و قبل كل شئ، يمتلك ديفيد ماغنوت (تأريخا قبلياً) تشترك فيه كل تواريخ حياته،وثانياً، ثمّة شخصيات أخرى، وخصوصاً خطيبة ديفيد والماركيز دي ديبوتي تُظهر حيوات ديفيد. إن غرض القصة يوفر الحضور المتواتر لأداة القتل: إنها دائماً مسدس الماركيز، الذي يطلقه مرة الماركيز و مرة رفيقُهُ و أخيراً يطلقهُ ديفيد نفسه. إنّ المسدس، رمز قيمته المصير، بانتظار ديفيد في نهاية كل طريق يسلك من التقاطع. لقد استطاع (أو هنري) أن يؤسس ثلاثة تواريخ بديلة لحياة فرد تخييلي واحد في نفس النص لأنه قد صفّر استحالة معينة: استئناف حياة ديفيد بعد الموت. و في حالة معروفة بشكل أكبر، تنشأ تواريخ الحياة البديلة لشخصيات تخييله بواسطة نصوص مختلفة تقدم إحدى السمات الدلالية الأكثر وضوحاً للتناص.
و خلافاً لواقعية (أو هنري) الفوطبيعية، تؤسس الرواية السايكولوجية الحديثة أفراداً يعيشون في عوالم بديلة متعددة دون خرق للإمكانيات الطبيعية: إنّ الفرد التخييلي هو تأليف من المراحل اللامطّردة الموسومة بتغيرات في معظم خصائصه. وبالنتيجة، فإنّ مجموعة أوصاف الفرد تكون فاعلة في إطار كل مرحلة لكن هويته عبر هذه المراحل (العوالم الممكنة) يؤمنها اسمه. لاحظ نيكول في تحليله لأسماء العلم في رواية بروست (البحث عن الزمن المفقود) أنّ أسماء العلم تقترن بشكل غير مألوف بأداة التعريف. وقد قام نيكول بتأويل هذا الاستعمال بوصفه تعبيراً عن التعددية. و يوضح نيكول أسلوب بروست بالإشارة إلى نظرية (يسبرسن) في أسماء العلم (كونها إيحائية أكثر مما هي تأشيرية) مع ذلك، فإن مفهوم التأشير الثابت يوفر تفسيراً بسيطاً و أكثر إقناعاً لعلم دلالة أعمال بروست.
يستعمل اسم العلم مع أداة التعريف للتعبير عن وجود فرد ما في عوالم بديلة ممكنة وعن وجود هويته العالمية. لقد استغلّ بروست كل الإمكانيات الدلالية للتأشير الثابت. إنّ المنظومات الدلالية عند بروست و أو هنري لا تخرق مبدأ الحيوية: عند الحركة من عالم إلى آخر، يحافظ أبطالهم على مجموعة من الخصائص الحيوية التي تفيد بوصفها موسِّمات إضافية للهوية العالمية. مع ذلك، لابد من وضع علم دلالة لا حيوي للأدب القصصي، فنحن بحاجة إلى إطار عوالم يستطيع الإنسان فيها من اكتساب الخلود حيث يمكن أن يتحول الأمير إلى ضفدع (وبالعكس).إن للخيال قدرة نقل الأفراد التخييليين إلى عوالم بديلة تتغير فيها خصائصهم جميـعاً و منها الخصائص الأكثر حيوية. و تستند الهوية العالمية إلى خيط دقيق من التأشير الثابت فقط و هو خيط قوي دلالياً لدرجة أنه يكفي لتتبع الفرد عبر تمظهراته الممكنة أو غير الممكنة.

الهوامش:
1) العالم الممكن هو حالة من نوع ما ndash; حالة أما أن تحصل، وهي واقعية، فعلية ؛ و إلاّ فإنها يمكن أن قد حصلت. ويمكن أن نضيف بأن الحالات التي يمكن أن تحصل أو ستحصل لابد و أن تضاف إلى هذا التعريف حيث أن الصياغة الأولى للتعريف تنطوي على أن العالم الفعلي هو عالم ممكن متحقق.
2) يوجد اختلاف أساسي بين العوالم الممكنة للمنطق الصوري و عوالم القص: الأولى كاملة (حسب مفهوم كارناب)، و الأخيرة غير كاملة دائماً ndash; و بسبب هذا الاختلاف، علينا أن نحذر عند نقل أصناف علم الدلالة المنطقي إلى علم الدلالة الأدبي.
3) إنّ مقارنة العوالم الممكنة في علم الدلالة الأدبي قد أبرز مفاهيم مثل (الوجود الروائي) و (الحقل السردي) و (المحددات الشكلية) و (فعل الكلام التخييلي) hellip; الخ .