إن الحديث عن الانتماء الذي يمثل أيمان الفرد بالأشياء (مادية كانت أم معنوية) والإخلاص لها والتضحية من اجلها -بكل مستوياتها- (الأرض، والعقائد، والأفكار، والثقافة) يحتاج إلى معاينة التأريخ السياسي الحديث للعراق الذي شهد انقلابات كثيرة وسلطات دكتاتورية ظالمة، أدخلت الفرد العراقي في دوامة الإحساس بالضياع، بحيث ما عاد الانتماء ذلك الموقف النبيل الذي يمكن أن يتزيّن به الفرد، ويبدو أن أخر الدكتاتوريات وانطلاقا من مقولتهِ quot;نكسب الشباب لنضمن المستقبلquot; وسيادة الحزب الواحد، استطاع أن يفرغ الفرد من كل انتماءاتهِ، لان مقولتًه quot;نكسب الشبابquot; تُؤشر محاولة زرع الإغراءات بالنسبة للأجيال الشابة من اجل عزلها عن كلِ توجهٍ فكري، وهذا العزل بالنتيجة سوف يضمن البقاء إلى مدة اكبر ويحقق لهُ المستقبل.
من ذلك على المثقف الواعي ان لا يستسلم إلى ما تقدمهُ المقولة، مقولة (نكسب الشباب لنضمن المستقبل) من دلالة سطحية تُؤشر كسبَهُم للشباب لضمان المستقبل (مستقبل البلد)، بل لا بد من فحص وقراءة ما وراء المقولة من بعد أجرائي وسلوكي يضع شباب العراق في خانة الفراغ الفكري الذي سيساعد الدكتاتور على تنفيذ برامجهِ السلطوية والبقاء في الحكم إلى ابعد مدة.
تأسيسا لهذا البرنامج القولي الذي يتمثل بإشاعة مثل هذه المقولات، سعى النظام السابق إلى تكريس وضرورة بناء ما يسمى بـ ((طلائع الشباب)) من اجل أن يشغلهم عن كل توجهات أخرى تعيق سلطة البقاء.
وقد أفضى هذا السلوك إلى انقسام الانتماء عند جيل ما بعد الحرب العراقية الإيرانية إلى شقين :
1- الشق الأول hellip; الانتماء للحزب الواحد hellip;
2- والشق الثاني hellip;اللجوء إلى المعتقد الديني hellip;
واقصد بالانتماء إلى الحزب الأوحد، محاولة النظام استدراج الأجيال الشابة من خلال برنامج الطلائع إلى أن يكون منذ بداياتهِ بعثيا في تفكيرهِ، أما دون ذلك..رفض الانصياع فسيكون أمام ذلك الشاب الذي يصعبُ عليه الانتماء إلى أي فكر اللجوء إلى المعتقد الديني، لان ما من فرد لا يخلو من انتماءات عقائدية وتوجهات فكرية، ولعل السبب الذي يمنعهُ من الانتماء إلى مؤسسات فكرية أخرى.. سلطة الخوف.
وعلى وفق هذا الاعتبار نجحت ما تغلفهُ المقولة السابقة للسيد المنهار ((نكسبُ الشباب لنضمن المستقبل)) في عزل الأجيال عن الانتماءات الفكرية، وذلك بأن لا يسمح لهم بممارسة الفكر بحرية تامة.
والسلوك الذي اتُبع مع أكثر من جيل أفضى إلى أن تكون صورة الأحزاب العراقية غائمة ومنقطعة عن الانتماءات الجديدة، وقد أثبتت النتيجة صدق ادعائِهِا من خلال رفض من هم في جيلي الانتماء إلى أي حزب، وان مارس تفكيرا يقترب من الأفكار التي يؤمن بها ذلك الحزب.
ثمة فرق حقيقي بين جيل يُولد تحت رقابة فكر معين والإملاء عليه بالانضمام إليه بالقوة، وبين جيلٍ يُولد وأمامهُ خيارات كثيرة وأفكار عدة يختار ما تناسبهُ.
ولعل الطرف الأول من الجيل الذي يُولد تحت ضغط الاندماج والانصهار في فكر شمولي، سوف يُولّد عند الفرد، قناعات غير ثابتة ومستقرة، واحسبُ أن جيلي ndash; الجيل التسعيني ndash; هو جيل مهزوزُ مضطربُ الأفكار غير مؤمن بفكرة الانتماء، واستطيع أن أؤكد ذلك من خلال رفض هذه الأجيال الانضواء تحت خيمة أي تنوع حزبي أو الانضمام إليه..، وقد نجد في بعض الأحيان ظاهر النفاق الثقافي، إذا تجد من مُثقفيِنِا من هو (ماركسي، إسلامي في نفس الوقت).
هذا السلوك يُسحبنا إلى نتيجة مهمة تتمثل في الابتعاد عند هذا الجيل ndash;إبداعيا- عن الإخلاص لأنموذج شعري واحد، لذلك باتوا يتخبطون بين قصيدة عمودية وتفعيلة ونثر، بل زاد بعضُهُم بالانتقال من حقل الشعر إلى فضاء الرواية.
من زاوية أخرى سأسمح لنفسي الانتقال إلى رؤية محاولات رفض هذه الأجيال التمسك بالوطن من خلال الأعمال الإبداعية عبر اتخاذ عنوانات لمجاميع قصصية مثل quot;نحيا ويموت الوطنquot; لقاص عراقي.
من هذه المواقف التي لابد أن نتحدث عنها، وجدنا من الضروري البحث عن انتماءات حقيقية، تبدأ من ضمان الفرد وشعورهِ بأن وطنا حقيقيا يحفظُ له ُ كل حقوقهِ، وتنتهي بحرية الفكر والمعتقد والممارسة الحياتية.
كل هذه الاعتبارات تحتاج إلى عمل متواصل من اجل زرع الثقة ndash; عند الأجيال ndash; بالانتماء الفكري والأيديولوجي القائم على الحوار الخلاّق لا الحوار المنقطع الذي يتخذ نهايات خالية من الحلول.
واحسبُ أن لجوء هذه الأجيال إلى الانتماء العقائدي نابعُ من إدراكِهِم بأن حقوقهََم سوف تتحقق من خلالهِ، لذلك وجدنا خنادق الانتماءات العقائدية واضحةً ومستعدةُ للعراك في أيمّا لحظة.
وأود أن أُشير إلى أن الانتماءات العقائدية والتمسك بها بحرارة سوف تنتهي قليلا بمجرد أن يحس ذلك الفرد بأن وضعَهُ الاقتصادي على ما يرام، فما عاد اللجوء إلى ذلك الانتماء بضروري.
الانتماءات الحقيقية تنبعُ من لحظة شعور الجيل بالأمان وعلى أصعدتِهِا كافة، وهو موقف نبيل ينسحب على الجيل الشعري الذي فقد كل مسؤولياتهِ الفكرية والإبداعية من اجل كسب رهان الإبداع.
التعليقات