مسيرة نص
بدايةً... طقس ثلجي أبله، مفعم بالمجهول الذي ينذر بالشر والدم والموت والخراب، ثم يمضي في ملحمة من الشكوك المكثفة، تتناهبه هواجس تتبادل ثقة معكوسة مع ظاهرها، يسري الموت في أوصاله دبيبا حانيا على ضحاياه باستعجال النتيجة، يركن الرعب في صميمه الخفي، معركة سرية قذرة لاستجلاء الأسرار وكشف ما يدور وما سيدور. الوقائع

ميل غبسون بدور هاملت
الأحداث تتداخل وتتقاطع كليا أو جزئيا في دوائر محكمة الإغلاق، فالتبس على كل شخصيات النص طريق الخلاص، الخلاص من هذا الجحيم الذي كان بحجم الكون كله.
كان الترقب هو الذي يطبع الفكر والهواجس، الترقب اليتيم الذي يمزق صاحبه على مشرحة الموت البارد،مشرحة التردد بين (نعم) و(لا)، دونما نتيجة،أو ضوء نتيجة محتملة، ولو على نحو الترجيح ا لمخدوع بخمر الأمل الكسيح.
ينتهي النص الهائل بمذبحة رهيبة، طالت كل ممكنات التاريخ التي لا يصلح أحدها شاهدا على ما جرى، سوى (هوارشيو) الذي استثناه النص ليروي على لسانه الصادق وصية (هاملت)، فهو استثناء اقتضته الضرورة الفنية وليس منطق المأساة بحد ذاته، المنطق الذي يقضي بأن هذا الراوي كان من الواجب أن يختار الردى طوعا، ليلحق برفيق عمره والمؤتمَن على سره، عن طيب خاطر رطب، بإرادة نبضها الإخلاص، ونفسها الوفاء، محققا للفضيلة انتصارها.
أليس هو القائل (لا تظن هذا، فإني روماني قديم أكثر مني دنماركيا! ما زال هنا بقية من الشراب ص 276)... فكيف تخلى عن ذلك التقليد الروماني العتيد؟
كان يجب أن ينتحر...
هنا يجب أن نفكر بدور الضرورة الفنية في تغيير حقائق التاريخ، وقلب الأفكار، وحرف التصورات التي كانت سائدة في زمن النص...
نص جنائزي...
جثة تتلوها جثة... شك يضاعفه شك... خوف يثيره خوف ... تردد يسبقه تردد ... خيانة تنسلُ خيانة ... هاجس يوازيه هاجس... وجع يمضيه وجع... عهر يتعهده عهر... شذوذ يباركه شذوذ...
لسنا أمام مأساة...
شكسبير يروي لنا السيرة الذاتية للمأساة...
نص مكبوت بطاقته المستمدة من ذاته وحسب، ذاته الخام، ذاته الصرفة . نص يدور حول نفسه، لا يتحرك إلى أمام أو خلف، يطحن روحه، يمسخ ضميره، يجرح نسيجه، يصرخ من الداخل، يستغيث من الصميم، يناجي حروفه، لا يدري ما يدور خارج مملكته المأساوية الرهيبة.
كان الواجب أن يسجل التاريخ لـ (هوارشيو) موقعه من جسد الخلود، فهو الذي روى لنا الفاجعة، كان (شكسبير) قد أعده سلفا لهذه المهمة الخطيرة، منذ البداية كان هو المؤتمن المأمول، كان ثمة تخطيط واضح، يعلو على كل لبس لإعلان أن (هوارشيو) هو السوي الوحيد في هذه الملحمة الكلية المرعبة، فهل كان لشكسبير مفهوم خاص بالتراجيديا، مفهوم يرتكز على ضرورة وجود نقطة ضوء ولو آخر النفق؟
كان هوارشيو ينتقل من الحس إلى العقل بحصافة الصابر، كان ذا علم على حد تعبير (مارسيلاس)، وهو يطلب منه أن يتحدث إلى الشبح ــ المشهد الأول من الفصل الأول ص 50 ــ كان ينتقل من الشك إلى الظن إلى اليقين وهو يعالج ذلك الشبح الذي تحول إلى لغز يهز العمل كله (أُشهد الله،ما كنتُ لأصدق هذا لو لم أره بعيني رأي اليقين ص 51)، هذه النزعة الحسية لدى الحارس المثقف المتدين في التعاطي مع الأشياء الخارجية كانت تقابلها نزعة فطرية شفافة، هناك تكمن بذرة خيرة، لقد جاست روحَهُ كلمةُ الله، واستقرت في أعماقها روعة الوفاء عن جدارة تؤهله لأن يكون الراوي الوحيد.
ــ ولأقص على الذين لا يعلمون خبر هذه الوقائع،ولسوف تسمعون بأفعال من الشهوة والدم والشذوذ والأحكام العاجلة والمذابح العارضة، والموت والسموم بالغدر والقهر، وغاية القول : نوايا الشر وقد انقلبت على رؤوس مدبريها... كل هذا استطيع أن أقصّه بالحق... ص 279)...
وكانت تلك وصيته هاملت لصديق عمره الوحيد!!
ــ هوراشيو، أي اسم مجرَّح سأخلِّف من ورائي لو بقيت الأمور مجهولة على هذا النحو! أن كنت قد أحللتني يوما موضعا من قلبك، فاحرم نفسك النعيم قليلا،وفي هذه الحياة القاسية تجرع أنفاسك في ألم لكي تروي قصتي) ص 277.

أذن لنستمع إلى الشاهد التاريخي كيف يروي تفاصيل الخيانة المضاعفة، تفاصيل الشكوك المتصلة، تفاصيل الشهوات العفنة، شهوات البطن والفخذين والسلطة والشهرة، فضائح البلاط، وما أدراك ما فضائع البلاطات في هذا العالم.

النص وهو يتأسَّسْ
(حدث / موقف)، تلك هي لحمة العمل ونواته الأولى، (الحدث) جاس، قار، ثابت، صامت، لا يجري على جدثه أي تحول أو تغيير، يملك سكون الإله الأبله البليد، فيما (الموقف...) دفق من جنون التحول المستمر، التحول الذي لا يحتكره جبروت الزمن، ولا يرتكن إلى حكمة الوقار الميت.
كان النص مشدودا من جهة إلى طرف ثابت... ملكوتي... طرف مسكون بذاته... مشبع بنصيبه الأوَّل من الحدوث...
أقصد الجريمة...
قتل الملك غيلة على يد أخيه...
جريمة القتل هذه لا تنتظر أي تفاعل داخل تضاعيفها، داخل هويتها، فهي حدث قد مضى، له زمنه الذي لا يعود مرة أخرى، نأت عن ضاغط الزمن...
ولكن من جهة أخرى، كان النص مشدودا إلى طرف متحرك، متدفق الاتساع، متوتر الزمن، يتفتق عن أحوال لا تجتمع على جامع، ولا تلتقي على نقطة من سلب أو إيجاب...
أقصد الموقف...
موقف بطل المسرحية كلها... شخصيتها الأولى ...(هملت هو ذاك...).
هاملت الشاب الهادي الجميل... هاملت الشاب القلق المتحفز... هاملت الواعظ المتدين المتأمل... هاملت الخامل المنكسر... هاملت الأخلاقي الملتزم... هاملت الذرائعي المتآمر... هاملت المتيقن... هاملت الشاك...
أنه الموقف الذي يشبه الكون الفاقد لنقطة ضبطه السرية، فأخذت فوضى القدر تميد به ذات الشمال وذات الجنوب، لا يمسك على لحظة من سكون، ولا لحظة من انتظار، فمارت فيه عقول الاكتشاف، وتماثلت فيه قوانين التفسير إلى فضاء العطب والتعطيل، ولكن في زحمة من ثراء الفكر والتصور، وتلك هي من معالم التراجيديا الرهيبة أيضا.
تنمو الأحداث وتكبر وتتضخم في تسخين نواة العمل الأولى بهيبة الحضور المستمر، فهناك جوهر مفارق، خارج حدود الزمن، وكل ما يتدفق من جديد الفكر، والخواطر، والهواجس، والصور، والآلام، والآمال، والحوادث، والأفكار، إنما في خدمة ها الجوهر الملكوتي، المهيمن، فأي حرف من حروف النص لا يمت بصلة إ لي هذا المركب اللعين (الحدث السرمدي / الموقف الزمني)؟ وأي صوت هو خارج فضاء هذا المركب المشحون بطاقة كونية مرعبة؟ وأي حدث لا ينبثق من داخله؟
كان النص بين ثابت عصي على كل تحول، فهناك جريمة قتل، وهناك جثة قد واراها التراب، وبين متغير عصي على كل ثبات... وكل من الطرفين يسعى أن يكون هو القوة الإلهية المستبدة بجسد العمل كله...
كان هناك صراع رهيب بين ذكرى الجريمة، بين قسوتها القارة، من جهة، وبين حيرة الموقف، سخونة الذات المتلظية بنار الجريمة، بعار الجريمة، بزفيرها الحارق.
صراع بين ثابت ومتغير...
صراع لا يقف، لا يفتر، لا يتراجع، وعلى الناقد أن يتنقل بين مستويين يتنازعان امتلاك موهبته، واستغلال حرارة الدفق النقدي، والاستحواذ على قدرته على التحليل والتفسير، وبالتالي، يأتي النقد وقد شُحِن بذات التوتر، وذات القلق، فيكون جزءا من لحمة المأساة، وجزءا من حرارتها وحيرتها...
تلك هي الجريمة...
وهاملت ذاك هو...
الجريمة واحدة عند كل ناقد، وهاملت ليس واحدا عند أي ناقد اكتشف استطالة المسافة أ و بالأحرى عمق الفجوة بين ثابت أزلي وبين متغير حتى في عرش الأزل....

إمَّا ـــ أو
إن أي محاولة لتفسير (هاملت) في سياق (أما ــ أو) تنطوي على نزعة أخلاقية أو بالأحرى على فكر أخلاقي شعبي، يؤكد أن هناك وحدة أخلاقية تنسحب على كل المواقف والحالات بدرجة متساوية من الانطباق والنفاذ، في كل زمان ومكان، فالشجاعة وحدة حقيقية بسيطة، لا تنثلم، تستدعي ذاتها من دون أي تردد لتأخذ موقعها الكامل من أي شي أو أي حدث أو أي ظاهرة، فليس هناك جزئية أخلاقية، بل هناك كلية، وهذا التصور فضلا عن كونه مقترباً تقليدياً شائعا، فإن هناك ما يدعمه فلسفيا لدى الكثير من المفكرين الأخلاقيين، فالمَلكَة الأخلاقية بسيطة، لا ينالها الفكر بالتجزئة والتحليل، ولا تتجلى في الواقع على شكل نتف أو أجزاء، ويستندون في ذلك إلى وحدة النفس الإنسانية وبساطتها، فالإنسان يتقاسمه موقفان، تنظمه معادلة (إما ــ أو)، فهاملت كغيره من البشر، أما شجاع أو جبان،إما خير أو شرير، أما أبيض أو أ سود...
ولكن ما الذي يمنع من تعدُّد الموقف الأخلاقي لفرد من البشر، تبعا لتنوع الظروف والممكنات، تبعا لتوالي الأحوال والأجواء،على درجات من التفاوت والتناقض، فهو شجاع في مواجهة عدو كاسر، جبان في قهر شهوة من شهواته؟
وهملت هكذا كان...
ليس هناك ما هو أخطر وأدهى من مقولة (الطبيعة الثابتة) على العلم والفلسفة بما في ذلك النقد الأدبي في سياق تحليله للشخصية،حيث يستهوي البعد الواحد جهود بعض النقاد ليغطي بهذا البعد كل حركاتها وسكناتها، غافلا عن أن الذات الإنسانية بحر عميق من القوى والأهواء والنزعات والدروب والأخاديد، وإن وعاء الزمن يتفاعل مع هذا المركب على أنحاء لا حد لها.
لقد كانت لفتة نقدية رائعة أن يفسر بعضهم هملت بأكثر من هملت...
هملت الفيلسوف : (إذن ـ الدانمارك والحديث لصديقيه ــ ليست سجنا بالنسبة إليكما، فليس هناك حسن أو قبح إلا وحسنه وقبحه من الفكر، أما بالنسبة إلي فإنها سجن) ص 117
في هذه أللفتة السريعة نلتقي مع أكبر معضلة فلسفية تتصل بموضوع التقييم، أي تقييم الأشياء والمواقف والأفعال والظواهر، هناك مدرستان، فإن قضية القبح والحسن خلقت وما زالت تخلق الكثير من الجدل المثير، فهل القبح والحسن ذاتيان، أي مطويان ضمنا، جزء تكويني من موضوع الحكم والتقييم أم هما لاحقان بحسب ثقافة وفكر الناظر؟
لا نجد صعوبة في اكتشاف حوارا فلسفيا تأمليا حول الحياة والموت بين هاملت وحفاري القبور، كذلك بينه وبين صديقه الوفي العزيز، هناك،حيث تتجلى بعض الصور العدمية للوجود في تصور هذا الشاب المتدين أصلا، ينشئها من معاينة الموجود البشري بعد أن يتحول إلى كومة عظام نخرة، ومن السهولة أن نكتشف مزاج هاملت في طرح رؤاه الفلسفية في هذا المضمار، فقد كان (التساؤل) المشفوع بالدهشة هو المدخل لحواراته الغنية، نعم، قد نجد لهذه الحوارات خلفية شعبية تقليدية عامة، فكثيرا ما يعرض الإنسان العادي دهشته من هذا التحول الرهيب من روح وفكر إلى عظم نخرة، وأتربة قد تزكم الأنوف وتبعث على القرف والخوف والهلع، ولكن هاملت يطرح تساؤله في ضوء قضية أعمق، تلك هي المعادلة بين ما كان قبل الموت وما صار بعد الموت، إذ يتساءل عن سر هذا المصير المتساوي للجميع رغم أن الواقع الذي كان قبل الموت يقوم ويتشكل على أساس التناقض والتباين والاختلاف في المواهب والممكنات والطاقات والقدرات! ومن هنا لم يكن استشهاده بالاسكندر صدفة أو تشهيا، بل عن عمق في فحص هذه المفارقة المدهشة حقا.
هملت المتأمل : (ما أحسن خلق الإنسان! ما أنبل عقله ومواهبه التي لا تحد! ما أدق جسده وحركته وما أعجبهما! في فعله يشبه الملائكة وفي فكره كم يشبه الإله! زينة الحياة وقمة الأحياء.
ومع ذلك فإنه عندي ليس إلا جوهر التراب، الإنسان لا يسرني... ولا الإنسانية أيضا...) ص 120.
هاملت هنا يجول في عالم الإنسان متأملا، جعل من جمال الإنسان موضوع سياحة فكرية، يكشف الوصف عن حس تأملي عميق، شاعري، منفعل، متأثر. تأمل هاملت هنا ليس ساذجا، ليس خياليا، بل ينطلق من تحديدات حسية مسماة، ليس تأملا وقتيا، ليس وليد لحظته، بل وليد خلوة، وربما خلوات صوفية متبصرة، ثم يستدرك ليتخذ موقفا قد ينقلب على المقدمة، وهو موقف يشي عن ارتباك فكري، وقلق روحي، فهاملت ليس واحدا.
ولم ينحصر تأمل هاملت في تضاعيف الخلق الإنساني، بل له كلام شعري رقيق شفاف يصف فيه السماء والأرض ومباهج الحياة، وصفا دقيقا، ينم عن ثقافة رائعة في معاني الجمال، وموحيات الوجود.
هملت الواعظ : (إذا كنت شريفة وجميلة ـ والكلام موجه لحبيبته أوفيليا ــ فإن شرفك ينبغي أن يصون جمالك من المخالطة... فأن سلطان الجمال يمسخ الشرف فيحيله داعرا، بأسرع مما تستطيع قوة الشرف أن تحول الجمال إلى شرف مثله).
ومن الطبيعي أن لا يكون الوعظ غريبا على هملت، فهو المتدين البروتستانتي الذي قرأ اللوثرية في أعرق جامعتها، فهو قد تشبع بعلوم الدين، وقد كان الهاجس الديني يتحرك في فكره وشعوره.
يعظ أمه الخائنة (... اعترفي أمام الله... أندمي على ما فات، وتجنبي ما هو آت، ولا تنثري الضغث على الأعشاب الوبيلة، فتغدوا أكثر وبالا) ص 189.
يستشف المتتبع لمقاطع هملت الوعظية حرارتها الدينية المتأججة في قلبه، كانت مواعظه كائنات روحية تتدفق على لسانه في لحظة استحقاقها من الظهور الجلي، فهي ليست مواعظ من فوق منابر، أو في مجالس عزاء، بل هي مواعظ بنت لحظتها الطبيعية، خالية من التصنع والتنطع، تنحدر بشراسة وعنفوان وقوة، تتواصل صورها واثقة من شرعيتها ودورها. يستمد مادتها من الواقع الملموس، وبذلك ينقذ الموعظة من سمائها الوهمية، ويدخلها في أرضها الواقعية.
هملت الناقد : (يا لي من حمار ـ ما أشجعني! أن أب عزيز قتيل، تحضني السماء والجحيم على الثار، ثم أُفرغ ما بقلبي في مجرد ألفاظ ك المومس، وآخذ في استنزال اللعنات كالعاهرة...
يا لي من خبيث! اللعنة ــ العار!
إلى العمل يا فكري...) ص 127
(... قُتل أبي، ولطخت بالعار أمي، وثار عقلي ودمي.. ثم أُسْلِم كل هذا إلى النوم) ص 208.
هاملت هنا ناقد، ينقد نفسه، يحاسبها، ولم يكن نقده جزافيا، بل يمارس النقد الموضوعي، النقد الذي يستند إلى قيم ومقارنة وتقيم. ولهملت قطع نقدية رائعة للدولة والملك والحكم والدانمارك والعاملين في سلك الدولة، نقد سياسي، حضاري، ثقافي، مما يعطينا صورة الطالب الجامعي المثقف، وصورة السياسي المسئول عن مملكته، وصورة المتابع لأحوال بلده ورعيته (الدانمارك سجن).
هملت القدري (فإن الطيش ــ كما لابد أن نعلم ــ كثيرا ما ينفعنا حين يخفق تدبيرنا المحكم، ومن هنا لابد أن ندرك أن هناك قوة سماوية تصوغ مصائرنا،مهما تخبطنا نحن في صوغها...) ص 255
(قدري يناديني، فيحيل كل عرق صغير في هذا الجسد عصب مفتول لأسد هصور، أنه ما زال يدعوني)!
فهاملت رجل قدري، يصر على أنه مصنوع الفعل، ومدفوع الإنجاز، لا يملك قدره بل قدره هو الذي يملك زمام حياته، مصيره، وجوده...
لم يكن هملت واحد، فأن الهوية لا تتأسس خارج الزمن، ولا هي نموذج أثيري ينزل من السماء تتلبس صاحبها المسكين رغما عنه، ورغما عن الواقع الذي يعيش فيه، بل الهوية صيرورة، تتأسس باستمرار، فلا هوية ثابتة على الإطلاق، هناك أكثر من هوية، وكل منا يعيش في داخله أكثر من شخصية من دون أن يعي أو يشعر، وهاملت ليس بدعا في مملكة الخلق البشري، بل هو واحد منا.
هملت المتشائم (... وقد ثقل على نفسي حتى لتبدو لي الأرض ـ ذلك الكيان البديع ــ بلقعا عقيما، وهذه الظلة الرائعة، هذه الهواء... أنظر!... هذه السماء المعلقة الراسخة،كل ذلك لا يبدو لي سوى ركام من الأبخرة القذرة العفنة...) ص 120.
كل جميل تحول إلى ضده، أنه ما يزال جميلا في حد ذاته، لا يمكن لهاملت أن ينكر جماله... سناءه... ثماره... حلوه... الأرض... السماء... وكل ما يحتضنه الوجود، ولكن رغم هذه الواقعية في الاعتراف، هناك شعور مواز، شعور بالقرف من كل هذا الجمال الذي يقره بكل وضوح، وهكذا بالنسبة للإنسان، فرغم عظمته وجماله وعجائب خلقه، ولكن هذا الإنسان لا يسره!
أي تناقض هذا؟
أي تصدع روحي يمزق البديهيات رغم حضورها في حيز الاعتراف بأنها بديهيات!!!
المسألة تتعلق بما في الداخل، هناك علاقة مضطربة بين الداخل والخارج، هاملت يسقط داخله هنا على كل هذا العالم، فبما أنه مرتبك، قلق، فما عسى أن يكون الوجود؟ وذلك مهما سطع بالوضوح والصراحة والجمال.
ولكن ما المانع هنا لو قلنا أن شكسبير يعبر في هذه المعادلة (الهاملتية) عن اختلاط مدمر في داخل الذات في لحظات معينة، حيث تتردد من أخذ قرارها في الحكم على الأشياء،ولكن ليس التردد الذي من شأنه يعدم الموقف، بل التردد الذي من شأنه إرغام الإنسان على اتخاذ المواقف المتباينة في نفس اللحظة؟!
هملت اليائس (آه لهذا الجسد الدنس، الدنس، لو ينحل ويذوب في قطرة من الندى، لو أن شريعة الإله السرمدي لا يحرم على المرء أن يقتل نفسه، ربَّاه، ربَّاه، كم تبدو مطامع الحياة مملة، آسنة، راكدة، لا غناء فيها، تعسا لها، آه تعسا لها من حديقة تركت أعشابها السَّامة حتى نضجت بذورها، لا يملكها إلا العفن وغلظة الطبع)!
الرغبة الجامحة في الانتحار تعبير نهائي عن التعاطي مع العالم بلغة الإنكار، إنكار الحكمة من الكون، ولكن أليس هناك تناقض فاضح بين هذه الرغبة وبين تعطيلها تحت ضاغط الإثم الميتافيزي؟ فليس هناك ما يبرر هذه الرغبة مع الإيمان، فهذه الرغبة تحمل في داخلها نزعة عدمية، ليس لها مكان مع إقرار النظرة الروحية للوجود، حتى على مستوى التخيل، على مستوى الخلاص النظري، على مستوى التصور الخام، لأن الروح تدفع كل رغبة بهذا المصير، تقلع جذور العدمية من الأساس، هكذا تقول فلسفة الروح، في حين هنا تكمن فوضى القضية برمتها، فأن هاملت كان نقطة تجاذب كل المفارقات، وبالتالي، لا سؤال عن أي فضيحة منطقية أو عقلية، بل الغريب أن تغيب مثل هذه الفضيحة.
إن معادلة (إما ــ أو) تلغي هملت بكل تاريخه، فقد كان طالبا جامعيا ناجحا، وكان سليل أسرة مالكة، وكان عاشقا صادقا، وكان فارسا متمكنا، وله أصدقاؤه الخاصون، وقد درس اللاهوت في جامعة كاثولكية، ورسولي متطهر، شابا حييا، وشارك في حملة عسكرية، وتزود بقيم الفروسية النبيلة، وتآمر بنجاح، وتسبب في قتل أكثر من واحد بل تسبب في قتل الجميع، وكان مترددا في سياق إرادة متحفزة، وكان يائسا، متصنتا على حديث الغير، خان الحب، جبن أكثر من مرة... كان كل ذلك ليس على طريقة التدرج والانقلاب من السلبي إلى الإيجابي،أو العكس، بل على طريقة التداخل في المفارقات، كان أكثر من هوية وهوية، ليس هناك هاملت الخالص في زمن محدد، بل هاملت الهجين دائما... دائما، فهو شخصية معقدة، ثرية، تتفوق على غيرها في تنوعه الداخلي، وبالتالي، يجب أن يكون النقد هو الآخر معقداً!!!
إن تحليل شخصية هملت طبق هذه المعادلة الضيقة المحصورة (إما ــ أو) تلغي إمكان الإبداع النقدي، فأن الطبيعة الثابتة لا تثري قلم النقاد، بل تقمع تخيلهم، وتحجم فرص الخلق والتنويع، وتخلص بهم إلى ما يشبه القواعد والقوانين، فيما النقد سياحة حرة، تحلل وتركب، تشك وتتيقن، تؤخر وتقدم، تضيف وتحذف، وهذا يحتاج إلى شخصية تضطرم بالطاقات، وتسخن من داخلها بسبب تصادم القوى والغرائز والدوافع، تشكلت عبر تأريخ في غاية التعقيد.
الناقد وهو يتفحص النص الهاملتي في زحمة هذه الشبكة من المفارقات والتنوعات، ينبغي أن يكون على مسافة فاعلة منفعلة من كل عناصرها، يتواصل معها في دائرة من الجنون الحي، فيتحول هو بالذات إلى هاملت الناقد، وليس إلى الناقد الموسوم بهويته المستقلة، أي يأتي نقده موسوما بالقلق الشديد والمفارقة المتوترة.
هل كان هامت مؤمنا؟
نعم... ولكن كان شاكا أيضا!
هل كان شجاعا؟
نعم... وكان جبانا كذلك!
هل كان مترددا؟
نعم... وكان مقداما هو الآخر!
هو كل شي، ولا شي!
والناقد على خطى هذا الفوضى الرهيبة...
غالب حسن الشابندر