أظهر السينمائيون على اختلاف توجهاتهم وأساليبهم اهتماما خاصا بمسرحيات شكسبير، فيما يتعلق بإمكانية تحويلها إلى الشاشة السينمائية، بشكل فاق في مساحته أعمال باقي المسرحيين في العالم. ومرد تلك الحيوية الشكسبيرية موكول إلى طبيعة أعماله وقيمتها الأدبية والفكرية وهي تتخطى – بمقادير عدة – حيز الشهرة الواسعة نحو الجدلية الفائقة فيها التي ما زالت تأويلاتها المتلاحقة تلهم مخيلة الفنانين والكتاب إلى يومنا هذا. درجت العادة على أن أعمال شكسبير – كغيره من الكتاب الكبار – تتفاوت في أهميتها ومكانتها من جيل إلى آخر بحسب مهيمنات الثقافة السائدة. إلا أن المصادفة، بحال من الأحوال، ليست سببا معقولا لبث الحياة مجددا في تلك التراجيديا العظيمة والشهيرة (هاملت) طالما أن صيرورتها الإبداعية تتحدى انساق التفسيرات المختلفة التي أرادت وجهات نظرها على انفراد أن تكون الحجة القسرية الأخيرة للفهم الملزم بعد النقاش والتأويل والحكم، وكلما سنحت الفرصة للتفريق بين علاقات أساسية مثل: الثأر والتردد، العقل والجنون، الحب والإيهام، الإنكار والتدين.
إن هاملت الروح والمضمون والشخصية يُعتبر تعديا على التفسير الأخير أياً كان، ويرى أن ثمة نقطة التقاء ممكنة تجمع بين كافة التناقضات المدركة في الفرد أو العالم، بوسعها أن تدفعنا للاعتراف الحكيم بان الوصول إلى حقيقة الأشياء ليس أمرا سهل المنال على الدوام. وبطرق درامية ذكية تحقق هاملت بنفسه من كينونة الأشياء عندما سار في فلك الكلمات محمولا على أجنحة الخيبة والنبل تحت سماء حزينة. يمكن لهاملت أن يرى ومعه شكسبير أيضا أن كل تفسير يحاول الذهاب ابعد من ذلك لن يبدو إلا رأيا آخر متباين في شدته، فيما يبقى المزاج الهاملتي جنوحا إبداعيا محلقا في سماءٍ متغايرة الخواص. لكننا كقراء نشارك النصوص حيواتها لا يسعنا سوى إخلاء المكان لتأويل آخر وزمن قادم، عبره فقط تصبح واحة الحياة خضراء فسيحة مع كل ارتحال جديد للنص داخل فضاء الثقافة.

ملصق اول انتاج سينمائي لمسرحية هاملت اخرجه ومثله لورنس اوليفييه

وبسبب الإغراء المتحقق فيها كانت مسرحية ( هاملت ) أول عمل شكسبيري ينتج للسينما، ومع مرور الوقت أصبحت المسرحية الأشهر التي اخرج عنها اكبر عدد من الأفلام بين كل مسرحيات شكسبير الأخرى. فما بين عام 1933 إلى عام 1978 أنتجت ( هاملت ) للسينما ثلاث عشرة مرة. بدأت بالفيلم الأمريكي ( هاملت ) للمخرج ( روبرت إدموند جو نز ومرجريت كارنيجتون ) لتنتهي بالنسخة المصرية التجارية ( وثالثهم الشيطان ) للمخرج كمال الشيخ، مثلما يذكر الناقد سمير فريد في كتابه ( مسرحيات شكسبير في السينما ). ويلاحظ إن هناك بين هذين التأريخين أفلاما متميزة حملت بعض التفسيرات المحتملة لشخصية ( هاملت ). منها على سبيل المثال نسخة ( لورانس اوليفيه ) عام 1944 التي اعتمدت التفسير الفرويدي للمسرحية، وعدت فتحا في عالم الشكسبيرات. والنسخة السوفيتية ( هاملت )
للمخرج ( جريجوري كوزنيتسيف ) التي قدمت التفسير المادي للعصر الاليزابيثي في محاولة لترجيح تصور حديث وأصيل لدراما شكسبير وذلك عام 1964. هذا بالإضافة إلى النسخ السينمائية الهندية والبريطانية والألمانية والدنماركية، وأكثرها إثارة للجدل النسخة الإيطالية ( هاملت ) للمخرج ( كارميلوبيني ) عام 1973 الذي فضل اعتماد المنحى السريالي في معالجة النص المسرحي. وبعد الأعمال السينمائية التي اشرها الناقد في كتابه آنف الذكر، تلاحقت القراءات المختلفة لنص ( هاملت ) الأكثر تطلباً إما بوصفه بنية مسرحية يجري إعدادها مجددا أو بالنظر إليه كقيمة جمالية وفلسفية متمركزة في شخص ( هاملت ) نفسه باعتباره مادة درامية فريدة ومحورية سواء في العمل المسرحي أو السينمائي. ففي أوائل التسعينات قدم الإيطالي ( فرانكو زيفريللي ) الذي سبق له أن اخرج للسينما غير عمل شكسبيري، نسخة أكاديمية متميزة أضافت إلى روح النص المسرحي براعة سينمائية جذابة، برز فيها الممثل ( ميل جيبسون ). أما في عام 1999 فقد اخرج السينمائي والمسرحي البريطاني ( كينيث براناه ) عملا ملحميا بكل المقاييس عن ( هاملت ) فاق كثير من الأعمال السابقة وادهش الأوساط الجماهيرية والسينمائية.

هاملت في المصيدة :
في احدث المعالجات السينمائية لتراجيديا شكسبير بدا لنا أن تردد هاملت في أن يكون أو لا يكون قد تلبس المخرج وكاتب السيناريو ( مايكل الميريدا ) وانتقل منه إلى مفاصل فيلمه السينمائي ( هاملت ) المنتج عام 2000. حيث إن النسخة الجديدة التي حاولت إلى حد ما التزام السيناريو المسرحي عبر جمل الحوار الشكسبيري أخلت بالمعادلة السينمائية عندما تصورت أن بوسع تفوهات هاملت الشعرية المقذعة إنشاء بؤرة تأثير لغوي وادائي مجرد يتنامى على خلفية تلاحق الأحداث الدرامية الرئيسية في المشهد السينمائي. الأهم من ذلك ان المخرج ( الميريدا ) لم يفلح في جذب المشاهد إلى منطقة التفاعل المفترض وجوده بين الحدث والشخصية، لانه ببساطة لم يكن هنالك تفاعلا محسوبا على الشاشة، فهاملت وحده تقريبا يتحرك في المشهد بينما كل ما عداه يبدو هامشيا. ومن حق المخرج – بالطبع – رسم المشهد السينمائي على طريقته الخاصة وفقا للرؤية التي يتبناها إذا كان متمكنا من أدواته ومدركا ما يريد بوضوح، خاصة في حال قرر أن يركب درب التحديث على صورة الأصل.
هل قدم ( الميريدا ) شكلا من أشكال التحديث في فيلمه هذا ؟
للوهلة الأولى أغرتنا أجواء الفيلم للبدء بمغامرة سينمائية تبث فيها روح المغايرة، لاسيما المعاصرة الشكلية للجانب المرئي عبر الديكور أو الملابس أو ملامح الشخصيات التي تقف جميعها على مسافة بعيدة عن سياق الزي التاريخي للمسرحية، وان جرى ذلك بتبديل محدود. وفي مجاورة المضي في هذا الاعتقاد أدركنا أن أحداث الفيلم تنتمي إلى العصر الحديث وتدور في مدينة نيويورك. حتى إن ذاك الإغراء سرعان ما تبدد بعد حين لدى التوغل في متابعة الفيلم والدخول إلى فضائه الذي كشف عن ضآلة التصورات الفكرية وعن الأسلوب الإخراجي المتواضع الذي تم التعامل به مع هاملت، ذلك النص الزاخر بعناصر الحداثة أبدا.
المخرج ( الميريدا ) لم يجد بدا من أجراء بعض التبديلات الطفيفة على فيلمه السينمائي لكي يفارق النسخ الأخرى التي سبقته، وكما هو واضح خرجت تلك الطموحات الفنية عن مسارها الدقيق لتطال مصداقية الأحداث والإقناع المتحقق بها، إضافة إلى عدم إبدائها عناية كافية ببعض المشاهد المسرحية الأصلية التي لها دورها المحسوب في تشكيل المكانة البنيوية للنص على أكثر من مستوى. وعوضا عن الحفاظ على عناصر الدراما السيكولوجية هذه كحد أدنى، جرى تشويش أو إهمال امتداد بعض العلاقات أو عمقها مثل ( هاملت – اوفيليا، هاملت – هوراشيو ) حتى أن ذلك لم يكن حادثا في الفيلم لان هاملت(سجين منظوره الخاص) بتعبير " جانيت ديلون " بل لان معظم الشخصيات حوله ساكنة وغير متفاعلة، فيما تربطه وإياها علاقات سطحية غير مؤثرة.
وبالتأكيد ليس كافيا للفيلم أن تكون ( اوفيليا ) فتاة زنجية للاعتقاد بأننا نخلخل بذلك التماثلات النمطية في النص الأصلي وربما ننزع عنه قداسته إذا ما جعلنا هاملت يتصرف كبرجوازي المدن الصناعية. فثمة أطر مرسومة كانت تضمن للشخصية أسباب جاذبيتها أو التعاطف معها عبر منظومة تخيلية، قدمت هنا بصفتها ملامح بسيطة ذات تأثير محدود في المتلقي. بينما الأجدر بالعرض السينمائي التمسك بمنظار درامي محدد، لاضير أن يكون واقعيا أو تجريبيا، سورياليا أو تاريخيا، المهم أن يتم توليف العناصر السينمائية والجمالية من خلاله مع قدرة المؤثرات الفنية الأخرى كافة التي تعبرعن رؤية المخرج المبثوثة في زمن العرض بشكل إبداعي منسجم يضمن للشريط السينمائي وحدة التأثير والتشويق والتفرد.
قد يُسر البعض رؤية ( هاملت ) غارقا في همومه الذاتية خلال مونولوجاته الطويلة مثلما اعتاد مشاهدته دائما بطلا كلاسيكيا معبرا عن صورة الحلم الأخلاقي في تبديل المعادلة الحياتية. لكن ماذا لو افترضنا أن هاملت يمكن أن يظهر منسجما مع عصره وعالمه!
هل سيقوم ابن نيويورك بالتخلي عن تراجيديته غير آسف على مقتل والده الذي ينافسه في نيل رضى أمه ( غرترود ) ؟ ليس غريبا أن يُقنع هاملت عمه بتقاسم نصيب الثروة من ارث الشركة ( الدانمارك ) لتناسي خلافات الماضي المأساوي. بمعنى آخر أن هاملت وكلوديوس ليسا كيانين منفصلين، ففيما يتوق الأول إلى الحياة والسلطة، يتحرر الثاني من عزلته ومخاوفه وجريمته، ليبدو صاحب الرذيلة اكثر قبولا وعادية. حينها تنعدم الأقدار الاليزابيثية لتراجيديا شكسبيرية تتحول بفعل ضيق حدود البطولات داخل المجتمع الحديث إلى كوميديا سوداء عصرية ملأى بالمفارقة والعزاء الصريح!
إنها أسئلة تشكك فحسب قد تمنحنا فرصة استرجاع هاملت بلا علامات تميزه عن أناس عصرنا.
انفقد حينها انطباعا بالحيوية الجمالية لنصوص أدبية خالدة تُبقي على وجودها بمنأى عن الفساد الذي يحيط بنا ؟ أم إننا نؤيد – في الخفاء – سيادة الأشكال الدرامية المألوفة عبر تواصلها غير المشروط بسياق اجتماعي ؟
إن هاملت مثلما صوره ( الميريدا ) قد ضاع بين تضاد الاتجاهات غير الممنهجة، فأفقدنا التمتع والاهتداء به، رغم أن المخرج اهتم به ظاهريا، حركاته وانفعالاته وهمومه، فما كان من الممثل الشاب ( ايثان هوك ) إلا الاستجابة لهذه الشخصية فقدم افضل قدراته في واحد من اجمل أدواره السينمائية.
أن الفن السينمائي وفي مراحل مختلفة مثل صدى لدعوات مجددة أطلقتها أوساط نقدية أو مدارس فكرية، كانت تتطلع إلى الإبداع بعين نافذة تعيد قراءة النصوص الكبيرة وتشجع على تأويلها واعادة إنتاجها بثياب جديدة تستوفي بنيتها العميقة وتحطم مظهرها الزائف. وهي إجمالا الميول التجريبية الأكثر شيوعا في ساحة الأعمال الفنية الجيدة التي اقتبست عن الأدب العالمي معتمدة خبرته الطويلة في إطار يذهب إلى أنه ليست هنالك أحكاما مطلقة لتفسير العمل الأدبي. من تلك الأعمال السينمائية التي كان نجاحها رهن خصوصية رؤيتها الإخراجية : ماكبث لبولانسكي ورتشارد الثالث لآل باشينو وتيتوس لجولي تايمر..
إن كثافة اللعب السينمائي على بنية المسرحيات في تلك الأفلام هو ما كان محدودا جدا في هاملت " الميريدا " الذي اكتفى إعداده السينمائي بتبديلات ظاهرية طفيفة : الأزياء، الديكور، طريقة الإلقاء، الموسيقى التصويرية، الملامح والانفعالات، في حين توارت الروح الشكسبيرية بعيدا عنه لتحل محلها صناعة سينمائية متواضعة تروي مصرع هاملت في نيويورك. كان الأجدر برجل السينما الانتباه إلى انه في الفيلم لا يكفي أن تكون لديك أحداثا هامة وشخصيات استثنائية، إنما المهم أن تهتدي إلى الكيفية التي تجعل بها من ذلك كله فيلما سينمائيا ناجحا بوسعه البقاء طويلا في ذاكرتنا.

[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف