ما فعلته المؤسسة النقدية القمعية إبّان عقود القهر والتخريب والإقصاء، بسلاح الترهيب والترغيب الأزلي، هو تحويل بعض الأسماء الأدبية (إعلاميا) إلى نجوم لامعة لا تضيء إلاّ في دهاليز وأروقة وزارة الثقافة والإعلام المقبورة، ومحاربة أكثر الرموز الإبداعية بالبطش والتشريد، في حين أهملت غالبية المبدعين ورمتهم في بحار الضيم والجوع

علي شبيب ورد
والتغييب، الذين راحوا يعانون ويبدعون في منافيهم الجميلة، تاركين لمخيّلاتهم التجوال في أكثر المناطق وعورة وغرابة، مطلقين العنان لمنجزهم الإبداعي كي يعدو ضد الريح، مرتديا أقنعته الجمالية (السحرية) التي تعمي أبصار عسس الطاغية، وتردع القذى عن عيون فراسته. حشدٌ من مبدعي (أدب الظل) تواصلوا في البوح أو إخفاء منجزهم في الأدراج أو في الذاكرة.. وها هم الآن يخرجون من منافيهم ليقولوا للعالم: ها نحن ننفض رماد احتراقنا، فلا تخطئوا الظنّ بنا، وعلينا تعقد الآمال، وعليكم أن تعرفوا (موقع الحقيقة من حركة الأشياء) إن ما دعانا إلى هذا الرأي، هو فداحة الآراء المطروحة من قبل بعض الموهومين، الذين يحاولون تمرير منجزهم الهش على الساحة الأدبية، وذلك بسحب البساط من المنجز الإبداعي في الداخل (بالنسف الكلّي) من خلال النظرة (التصفيرية) الجاهزة والمتسرعة.
إن مثل هذه النظرة هي واحدة من محاولات القمع السلطوي الفائت، بالتهميش للمنجز الذي اختار الظل منفى إبداعيا للخلود والتواصل، وهذا أوان الكشف عن مكونات هذا المنجز، الذي عانى من القمع المقبور، ويعاني من قمع جديد غير مسؤول. وتلك برأينا محاولات مخادعة ومفتعلة، فلا خانات ولا أبواب جاهزة للمنجز، فالداخل والخارج والصغير والكبير وغيرها هي أوهام يصنعها الإعلام المخادع. وما دعانا إلى رأينا هذا أيضا، هي النصوص التي أمامنا، والمنتجة خلال الأعوام (1997 ndash; 2002).
في قراءتنا لأول عنوان (أسنان الحصان: كم هي؟) نجد أنه تساؤل ndash; قديم جديد ndash; للبحث عن جوهر الحقيقة الكونية، وأنه بحث في موضوع أزلي.. فمن يعرف الحقيقة والحقيقة كروية؟!! وإذ نغور في متن النص، نتعرّف على ثلاثة أشخاص محتجزين في مكان ما (مفترض فنيا) غير أنه منفتح على أيّ مكان في الكون، أما الشخص الرابع فهو ممثل سلطة الاحتجاز والذي يملي عليهم تعاليم وشروط البقاء والفناء (الوجود والعدم) في هذا الكون غير المنطقي والمتعسّف وكما يرى الرجل 2 (يتسوّر حولنا عدمٌ عملاق، بعيون مبحلقة كبيرة وأسنان حادة وأظافر مغروزة في القلب) ورغم محاولة الرجل 3 في أن يكون توافقيّا في حلّهِ للمعضلة - السؤال حول عدد أسنان الحصان - غير أن ذلك لا يجدي نفعاً أمام ضراوة وشراهة ولا منطقية القمع، فيساق إلى المقصلة كما تساق الشاة وكأنّ شيئاً لم يكن. ويحدث ذلك أيضا مع الرجل 1 الذي يحاول الإيقاع بالآخرين، ويغامر بحلول أنانية أو انتهازية، لكنه يأخذ طريقه إلى المقصلة أيضا. ويظل الرجل 2 الذي يفكر بصوت بصوتٍ عالٍ ويتحسّب لخطواته ويحرّك الظروف والمتغيّرات لتفعل فعلها ويبحث في أكثر الوسائل نفعا في مواجهة الجبروت، لكي يستمر هو وفعله المؤثر ويتهاوى القهر. إن بنية المتن استبطنت عمقا فلسفيا موحيا ومنفتحا على ما قبله وما بعده (جوهر الوجود والعدم) وتدعو التلقي إلى البحث والتأمل والتفكير العميق في جوهر الأشياء، لمعرفة حقيقة وجوده وجدواه، وذلك عن طريق دراسة كل جوانب الحقيقة (بالمعرفة والتجريب والتقصي) لا أن ينظر إلى المعضلات التي تواجهه من جانب واحد والتعامل معها بسطحية وآنيّة. كما أن تجريد الموضوع والشخصيات والحدث والزمان والمكان، هو (قناع جمالي) مُجْدٍ، لتواصل النص مع المتلقي وعبر كل العصور، ويعدّ هذا نجاحا في تخليصه من متاريس التأويل المانعة للتواصل في البوح الإبداعي، وبالذات المؤسسة النقدية القمعية، ولأجل فتح فضاءات جديدة للقراءة وخلق نصوص تاويلية متواصلة التناسل بعد كل قراءة فطنة. وينطبق هذا الرأي على العنوان الثاني (وداعاً مؤقّتا) الذي يبحث في موضوعة الزمن في علاقته مع الإنسان،
فيكشف لنا المتن عن قدرة المخيّلة في الانفتاح على عوالم قصية تخترق الزمان وجبروته، وتتجاوز كل محاولات الزمن في طمس أحلام وتطلّعات الإنسان، وكذلك كل محاولات مصادرة حريته في التفكير وسلب إرادته ومحو ذاكرته وسحق كل ما هو إنساني ونبيل، وتحويله إلى مسخ يتلاعب بمشاعره وأحاسيسه الزمن وعاديات الدهر (لا أمل سوى وهم الأحلام يصخب بعيداً عنك، والعمر يزحف عليك، ستهرم قريبا، وتنظر إلى الخلف بحرقة ألف عام من الوحشة، ستندم بعمق وتبكي بحرقة، لأنك لم تعش الحياة ولم ترها) وأبشع تلك المحاولات هو منعه من الحب وعدم السماح له بالتفكير فيه، إنها فلسفة الشر الساعية لتدمير البشرية، وتحويل الإنسان إلى كائن (بلا ذاكرة) لا ماضي له ولا مستقبل، وما حاضره سوى وهم إنسان يعيش مع أشباح وحدته تحت نير سجّانه (الزمن) الذي (يتلذّذ بتيبّس غصن ويبتهج بتحطيم قلب ويغتبط بانهيار إنسان ويتمتع بتخريب الأشياء) كل ذلك من أجل أن يوصل الإنسان إلى إدراك، أن حياته بلا معنى لأنها (تسير لا إلى غاية بل تسير فحسب) ذم ينقلنا العنوان الثالث (مأساة روما) للتساؤل عن جدوى مثل هكذا عنوان؟ لقد حدد لنا العنوان مكان المأساة، غير أن المتن، يكشف لنا عن ملك ما من ملوك روما القديمة الذي توقع الناس أنه سيموت بسبب مرض خطير ألًمَّ به في أواخر أيامه، ويكشف لنا من خلال مشاهد (انبثاق الذاكرة) عن طفولته ومراحل حياته وطموحاته للهيمنة والتسلط، وفي الطرف الآخر نجد الشاب (رومانوس) وحبه الكبير لفتاة أحلامه (جوليتوس) ومن ثم إرساله مكرها للمشاركة في إحدى حروب الملك الدموية وعمدته منها (معاقا) بين أطفاله يعاني من زلل زوجته لتوفير قوتهم اليومي، لعد استطاعته توفيره، فيضطر للانتحار مع عائلته بالسم، ثم ينتهي المتن بلقطات عن شفاء الملك ثم شنقه والبحث عن قاتله. بعد الانتهاء، نكتشف الإجابة عن جدوى العنوان، فتقول جازمين إنه (قنا جمال) لتخليص النص من الرقيب، فمأساة روما هي مأساة العراق، فهو يتناول موضوع الطغيان ومرض النظام الدكتاتوري والذي تكمن قوته في إفساد المجتمع وذلك بتدمير قيمه ومبادئه ومفاهيمه الأخلاقية والإنسانية والثقافية، والإفادة من تداعيات الانهيار الاجتماعي لتثبيت دعائم السلطة. فالطغاة متشابهون في وسائل وأساليب قمع الشعوب. ورغم تحفّظنا على العنوان الرابع (هو الذي رأى كل شيء) والمأخوذ من مقدمة ملحمة كلكامش كوصف لقوته وعظمته، أي بمعنى إضفاء صفة الألوهية على كلكامش الطاغية، لأن الملحمة كتبت ألواحها بأمر منه وبأشراف كبير الكهنة (دودو) إلاّ أنه أراد أن يكشف عن مدى الوهم الخرافي الذي كان يعيش عليه الأب، بعودة ابنه الأكبر من غيابه الطويل وهو يحمل أفضل وأعظم الصفات التي يتمنّاها الأب لابنه، فالحكيم الأخضر ndash; الذي يمثل عالم الوهم والخرافة الغائر نهشا في جسد المجتمع بالتفسيرات غير العلمية ndash; يخدع الأب فيصف له ابنه قائلا (لكنه كافح، عرف الأسرار كلها، تكشّفت له الظلمات، ورأى نعم، هو الذي رأى كل شيء، وحفظ كل شيء، وله على كل شيء ٍ يدٌ أو سلطان) وتحفّظنا يكمن في أن العنوان بانزياحاته المثيولوجية، لا يتناسب وبنية النص الكتابية، وانزياحاتها الاجتماعية، فالمتن يكشف لنا عن شيخ يعاني من متاعب اقتصادية وصحية، خلقت لديه صعوبات اجتماعية مع ابنه الأصغر والجار والمؤجر والذين يعاملونه بخشونة ويصفونه بالمجنون، غير أنه في النهاية يصاب بالوهن، لدهشته لمرأى ابنه العائد بعكس ما كان يتصوّره، وينتهي المتن نهاية مفتوحة قابلة للتأويل.
في قراءة سريعة لآليات اشتغال النصوص، بوصفها حقيقة ماثلة ومستقلة عن أفكار منتجها، نخلص إلى ما يأتي:
- الشخصيات تعاني من أزمة وجود زمكاني بفعل ظروف ضاغطة متعددة المستويات.
- المكان منغلق (فنياً) غير أنه منفتح بشفراته على كل الأمكنة ولا يعرف الحدود لمرامي إنسانية.
- الزمان (غير محدد تاريخيا) ليكون صالحا لكل الأزمنة، كي يكتسب سمة التواصل والخلود.
- لغة النص رشيقة ومكثّفة ومنتقاة بعناية ومكتنزة غالباً باحتمالات متعددة للتأويل، عدا النص الأخير الذي نحى منحى لغة الحكاية البسيطة، أما النصوص الثلاثة الأخرى، فهي تمنحنا حريتنا في التفكير واكتشاف أكثر وأفضل المعاني، ومن ثَمَّ إعادة ترتيبها في نصوص قرائية متعددة، إنها لغة تمنحك القدرة على قراءة ما لم يقله المنتج، إضافة إلى اللغة الشعرية الجميلة لأغلب الحوارات.
- البناء الدرامي للنصوص ينتمي إلى (مونودراما المكان) باعتبار أن المكان أهم شخصية في النصوص، عدا (مأساة روما) فالحدث يتطور على مستوى الملك ومستوى رومانوس إضافة إلى مشاهد الناس.
- تعتمد النصوص على آليات الاشتغال البصري.
- تتوفر النصوص على حبكات رصينة وتدار الأحداث بقصدية ودراية.
- تعتمد على وصف مناخات المشاهد والتي تمنح حرية التأويل وتفتح آفاقا رحبة لإشتغال آليات العرض المسرحي، وتبعدها عن مناخات السرد القصصي التي تسود أغلب النصوص المسرحية.
- الإفصاح عن احتمالات استبطان النص لعدة نصوص، فهو نص مقترح وليس مفروضا على المتلقي، يظهر ذلك جليا في (مأساة روما) باستخدام حرف العطف (و) لتعدد الاحتمالات بعد (انبثاقات الذاكرة) و (اللقطات).
- الاشتغال (ثيميا) على كل ما هو حلمي وكوني وانساني نبيل، وبالذات الولوج في المخيلة والذاكرة الإنسانية، كما هو واضح في نص (وداعا مؤقتا) ومحاولات محو ذاكرة السجين وإقصائه عن أحلامه وأمانيه وكل ما يمت لإنسانيته بصلة.
خلاصة ما تقدم، لقد أبحرنا في مجموعة نصوص مسرحية حققت انفلاتها من القيود، لتنفتح على أنساقٍ متعددةٍ للبحث والاكتشاف، والبوح عن كل ما هو حلمي ومنساب في الذاكرة الإنسانية الهائلة عبر رحلتها الأزلية لتحقيق جدوى الوجود في هذا الكون الغرائبي والمثير للدهشة. واللافت للانتباه في هذه النصوص هو هيمنة (المكان) كرمز يمثّل وجوداً سلطويّا يفرض شروطه القسرية على الكاتب ndash; باعتباره واعياً لوجوده الزمكاني ndash; والذي لم يحدد ريازته (احترازياً) والتالي يكون وجودا مفترضا كقناع جمالي لوجود منغلق واقعيا، غير أنه لا يلبث أن ينفتح في وعي ولا وعي شخوصه، في اللازمان واللامكان، ويمكن لنا وصفها بـ (مونودرامات الأمكنة) لأنها تعتمد في بنائها الدرامي على خرق المكان إلى الفضاءات الأبعد واللانهائية، ولأن النصوص ترمي إلى تخطّي المكان الموجود (في الواقع) والمكان المفترض (في النص) فهي تبحث عن الحرية المفقودة في أي مكان مغلق في هذا الكون ndash; في مكان وجود الكاتب أو غيره ndash; وهي رحلة للإيغال في فضاءات متخيلة، طالما أن الوجود لا يحقق تطلعات وأماني النفس البشرية الهائمة والمجبولة على الطيران إلى ما وراء هذا الوجود. وهل يمكن للحواجز والحدود أن تقف أمام الأحلام؟! قد تقطع أو تعرقل حركتها لحين، ولكنها لا يمكن أن تمنع تدفقها في ذات الإنسان، أو تحدّ بحثها الأزلي في أسرار هذا الكون وما وراءه من صمت وعماء، وبالتالي لا يمكن لها أن تقف أمام سعي العقل البشري للبحث والاكتشاف لاكتساب المعرفة التي تفتح آفاقا جديدة للروح، للانطلاق نحو الأقاصي، والسماح لعوالمها الساحرة كي تفشي أسرارها، لتنداح على الدوام، كي تضع المتلقي أمام بوابات خيارات لا نهائية للقراءة وخلق احتمالات شتى للتأويل المتواصل والمجدي. إن مجموعة (مأساة روما) المسرحية للكاتب عباس منعثر، والصادرة عن منشورات اتحاد الكتاب العرب / دمشق 2003، جديرة بالقراءة، لأنها شاهدة مضيئة على مدى العسف والقهر الذي عاناه ويعانيه، لا الشعب العراقي وحسب، بل كل شعوب العالم التوّاقة للتحرر من عبوديّتها. وهي تمثل منطقة ابداعية واحدة من مناطق البحر الإبداعي العراقي إبان زمن منع الأحلام والتطلّعات الإنسانية، وبعيداً عن أدب السلطة المزيف.
إنها نموذج واحد من نماذج أدب المنافي (الداخل والخارج) أو أدب الظل (القسري والمختار) وهي واحدة من مناطق المنجز الإبداعي المسكوت عنه، والمؤجل (في الأدراج أو في الذاكرة) والمنجز ذي الأقنعة الجمالية (المنشور) والذي أهملته المافيات الثقافية سابقا. وأخيرا إنها مجموعة تقول لنا: عليكم أن تعدّوا أسنان الحصان لتعرفوا...كم هي؟! ولتتبيّنوا عن كثب، أن الإبداع والخلق يتواصل رغم كل شيء وفي أي زمان ومكان...
فالإبداع ليس حِكْراً على أحد.