"ملاحظة : القصيدة هذه، المفروض انها اغنية، رغم انها قصيدة نثر كتبتها، في ازمان واماكن ومدن عديدة، حتى انتهت صياغتها الاخيرة، قبل ايام، بايحاء من صديقتي العزيزة قمر، لذلك اهديتها لها بمناسبة عيد ميلادها : الاغنية- سلة الرحيق - يغنيها بطل مخطوطة روايتي المعنونة " صانع الأحلام "، التي تتحدث عن تجربتي في المنافي، التي عشت فيها مشردا، وانا اطارد وجه امرأة رأيته في منام - وهي واقعة حقيقية يعرفها خلان الصباح : خلصائي الحقيقيون - ومن المؤمل أن انشر مقاطع منها على احد المواقع الصديقة، بعد وضع اللمسات الاخيرة عليها.."
الى سلتي بكامل رحيق حضورها : قمر.

مرة اخرى، نتقابلُ أمام مرايا لاتعكس احدا.
كنتُ أظن أنكِ قد قـُتلتِ في الحربِ،
أو جُــنـنـتِ في المجاعةِ.
اعتقدتُ أن روحكِ قد تصاعدتْ، مع الدخان،
في الحرائق،
فأسميتُ الدخان سلّـة الرحيق.
تخيـّلتُ أن جسدكِ قد انصهر،
مع القصف، تحت الأرض، وذاب مع العناصر :
فتحوّل الى بقعة زيت،
ستبعث الدفء يوما، في قلب العالم البارد العواطف،
ومن اجلها، الآن، تتنافس الامم.
وها أنتِ ثانية، على قيد الشعر، مأهولة بالزرقة :
مكتظة بالقصب، والزوارق، وبط الشطوط.
مليئة بغبطة الجاز الشرقي،
بحـّة الناي، في حنجرة فيروز،
وبريق الدر في صوتها.

ها أنتِ مرة اخرى :
مجنونة بالسهر قريبا من شهقة البرق،
على سرير القصيدة.
تخلعين على الغيوم القاب مطرٍ،
مامر من تحته كائن ما، الا وهام باحثا عن قطرةٍ،
هي كثافة الدمع، واختصار الوطن،
عندما الغبار، على القدمين، هو الطابع الملصق على بريدكِ،
تتنقلين مثل رسالة الى لااحد معين،
بعد أن اتفق الملاك والشيطان، ان تكون ساحة حربهما حياتكِ،
حياتكِ لوحدها،
حياتكِ المفتوحة الابواب لكل قادم، سواك.
لكنكِ، اخلاصا للملح، والتصاقا بجمرة الجمال،
لم تأكلي من يد الوحش، حقا.
لم تراقصي الشيطان قط،
ولم تهزّي اليكِ شجرة الغروب،
الا ليتساقط، بين احضانكِ، بصيص الغسق.
لم أنسكِ يوما، طوال المنافي
التي
انطفأتُ مثل عود ثقاب، وتلاشيتُ وسط الزحام،
في ظلام ظلامها.
وجهكِ الذي رأيته، كما لو في منام،
كان دليلي نحو وجهك المرسوم على اغلفة المجلات،
في قسمات وجوه عاملات المطاعم،
في وجوه النساء العابرات،
في شوارع مفخخة بعبوات ناسفة،
والمخبوء، ابدا، في مناطق منسية،
من قصائد العابرين على مشهد الشعر، دون ان يقولوا.

وجهكِ لوحده،
وهو يفيض فوق كل السدود، كان زادي الدائم،
حين الجوع، تحت شمس الاخرين،
يدعوني الى وليمته الفاخرة، واقبل
لأن جوعا في عينيكِ اليّ، ينتظر ان امد جوعي اليه.
رغم انني كنت مكتفيا
لأن في الهواء نسمة ما من رئتيك، لابد وان تمر يوما،
فأشبع جوعي بجوعكِ لأن نعود معا الى البيت،
الذي تركناه خاليا،
يدخله اللصوص فلا يجدون فيه سوى قفص،
يبيعونه، في الصباح :
فيما انا وانتِ فيه، نتبادل القبل، ببراءة
وسط قساوة العالم، وبلاهته.

وجهكِ، وجهكِ.. آه
كان حريا بي أن أركض وراء حافلة،
في مدينة غريبة،
ألصق سائقها وجه ممثلة تشبهكِ على احد جوانبها،
لأنك، ساعتها، بكاملكِ، بكامل وجهكِ..
بكامل حبكِ، الناصع كريشة تطير في فضاء الخنادق،
بين حزمة من رصاص ومدافع،
تجليتِ، واضحة، وسط كثافة منفاي،
وتكاملتِ كـلّـكِ أمامي، برموشكِ
تضغط على سفوحي بأمطارها، دمعة بعد اخرى،
مثل
مجرّة تسقط من يديها النجوم.
لكن الحافلة ضاعت في زحام المنافي،
التي استقبلتْ هيامي فيكِ
بجرجرتي الى قيعانهاالمنخفضة،
من مدينة الى مدينة، ولم اتوقف، رغم ذلك،
عن البحث عن وجهكِ، بين الصور،
على جدران الحافلات،
حتى بعد ان توقف الوقت عن المشي في مدار الزمن،
فواصلتُ الطيران وحيدا:
وصلتُ مدنا تتسول تجاعيدها من المارة.
تعزف فيها، ليلا، فرق غامضة موسيقى حزينة،
تتسرب من الجدران،
الى شوارع تمشي بنفسها داخل نفسها،
مع جوقة من الاشباح،
وراقصات انام بينهن، مفترشا غيابي عني،
كمن نسيَ على اي حبل غسيل نشر جسده،
ولم يبق من ذكراه الا ثيابا ترتديه،
متسائلا على انغام موسيقى الفرق الغامضة،
وهي تمر امامي، في الصحو او في المنام :
مـَن الذي بقيتْ له كرامة الانسان :
أنا أم ثيابي،
التي بعتها، هي الاخرى، لأشترى صورتكِ اخيرا :
معروضة كانت على رصيف ما،
لم اعد اتذكر كم كان ثمن الموت فيه، ان لم أمر عاريا،
أمام ساسة، سيقودون عربة حياتي من دون جياد ؟

لم أنسكِ يوما،
يانجمتي، ياحبي،
وياشرفتي المكسوّة بالقبل، حتى آخر شفـّة :
تذكرتكِ في الحرب، وأنا اعصر، بين فخذيّ، خوذة ً

محاولا
أن أنتزع رأسي منها.
بكيتكِ، في المجاعات،
عندما خرجتْ، من فم احد امواتنا، سنبلة ٌ
تدفعها، من جوفه الى الخارج، نملة ٌ.

شربتُ عطشكِ وسكـرتُ
حتى عبرتُ الحد، وهناك شربتكِ ثانية،
لأن عطشك كان عطشا لايرقى اليه الا عطشك،
ولم اتوقف عن ذلك الا عندما انكشف الغطاء،
فرأيتكِ ولم أركِ بنفس الوقت،
لأن عطشكِ توقف عن الجريان - ربما منعا للتجول -
فصار حجابا،
حتى انني لبثتُ هناك، في غيابة الجب، سنينا،
ارسم وجهكِ على جدرانه،
واتسلقه خطا بعد آخر،

غير أن الأوان كان قد فات حين وصلت السطح،
فقد كنتُ احمل القعر في داخلي، من يوم ولدتُ.
دائما كنت احمل القعر،
ولم يفهم ذلك احد ألا أنتِ.
لم يحمله احد عني الا انتِ،
كما لوكان ذلك طفلكِ الذي تنتظرين أن يولد خفيفا،
يخرج من بين احشائك،
مثل قشة العشب :
تحتفظ دائما بروح العاصفة،
التي نقلتها من حقلها الاول، فتطير مع اول نسمة تمر بها.

لم أنسكِ لحظة.
لذلك ارتجفت، كثيرا، من كثافة حضوركِ في الاماكن.
ارتعشتُ أيضا من كثافة حضور الاماكن فيكِ.
وعندما، ذات يوم،
رفعتُ يدا مبتورة في حقل الغام،
وطارت، فجأة، من تحتها، فراشة،
رقصتُ، وهتفتُ : هوذا وجهكِ يتجلى اخيرا.
هو ذا القعر الذي لم يره احد يلمع في داخلي.
هوذا ربيعـكِ أيضا.
هوذا ينبتُ على الأسلاك، رغم سخام العالم.

مرة اخرى
نلتقي في مرايا لايعرف فيها احد احدا :
اذن، لازال الموت جادا بسعيه،
فإن كان لابد لنا أن نسقط.. فلنسقط.
لنسقط
لنسقط
لنسقط
لكن كالبرق، الذي عادة ما يشرق، قبل أن يسقط.


الناصرية - ميناء كراتشي - بغداد

finjan_2002@ hotmail.com