اتجه بعض من تجارب النقد النسوي في مقارباته للنصوص الأدبية، وبخاصة المكتوبة منها بأقلام مؤلفين رجال من عصور مختلفة، الى استكشاف صورة المرأة كما تظهر بشكل خفي أو علني في تلك النصوص الخاضعة للثقافة الذكورية المتأصلة في الوجدان، التي يسميها الغذامي بـ (الجبروت الرمزي). وقد توصلت هذه الجهود النقدية الى اكتشاف نماذج من القهر التاريخي والمعاصر، وأنماط من التهميش التي تعرضت وتتعرض لها المرأة. ومن الأسماء النقدية الغربية البارزة في هذا المجال: ماري إلمان، توريل موي، مونيك ويتنج، جوزفين دونوفان، إلين شوالتر، كيت ميللت، إلين كيس، وجوديث طوسون. وقد ركزت الأخيرة، متأثرة بمنهج ديريدا، علي تفكيك مجموعة نصوص كلاسيكية، من المسرحين الاغريقي والانكليزي في عصر النهضة، فخلصت الى أن كلا المسرحين يعطي أصواتاً قوية للشخصيات النسائية، لكنها أصوات تندرج، بطرق مختلفة، ضمن عالم الرجال. وفي كلتا المرحلتين كان ينظر الى النساء بعين الشك، لذا فإن ما يجري تقديمه علي المسرح هو، في الواقع، إخراس لصوت المرأة الحقيقي، أو في أفضل تقدير خضوعها الإرادي للمعايير الاجتماعية التي يضعها الرجال، فالدراما الاغريقية واضحة تماماً في هذا الشأن: إنها تكتب العالم بطريقة سلطوية تركز علي أقوى رابطة ممكنة بين quot; السببquot; وquot;النتيجةquot;، أما دراما عصر النهضة فهي تبدو أكثر اضطراباً وغموضاً، ولكنها لا تزال، في نهاية الأمر، تقوم ببناء شخصيات نسائية تتحدى سلطة الرجل، ومن ثم يجري عقابها، أو تخضع لتلك السلطة، وتصدق على ما تقوله.

من النصوص اليونانية التي تركز عليها طوسون ثلاثة هي: (هيبوليتن، أجاممنون، وأوريست) ليوربيدس، فتستوقفها في الأول شخصية (فيدرا) التي ترى الانتحار طريقاً وحيداً لحماية شرف أسرة زوجها (ومن ثم حفظ كرامتها وقيمها)، وذلك لأنها وقعت في غرام ابن زوجها. وليس المهم هنا، كما تقول طوسون، هو شخصية (فيدرا) في حد ذاتها، بل اختيار حبكة تجد فيها تشريعاً لخضوع النساء للقيم الأبوية (الذكورية)، ومن ثم فإن المسرحية لا تهتم، في نهايتها، سوى بالمصالحة بين الأب والابن. أما (فيدرا) فتُنسى وتنتهي المسرحية كما بدأت بحضور الإلهتين (أرتميس، وافروديت)- وكلتاهما امرأة- وهما تتنازعان على المفضلين لديهما من الذكور. وفي (أجاممنون) يتكرر الأمر مع شخصية (كليتمنسترا) إذ توضع في موقف يرتبط بالخيانة الزوجية والخراب لأنها اتخذت لها عشيقاً في أثناء غياب زوجها الملك لمحاربة الطرواديين من أجل شرف المدينة (أثينا) التي يحكمها، لكنه في الوقت ذاته ضحى بإبنته (افجينيا) وأسر (كاساندرا) واغتصبها في طريق عودته الى بلاده! أما (أوريست) فترى طوسون أن الحدث الدرامي فيها ينتهي الى تثبيت مبدأ أهمية حياة الرجل بالنسبة للمرأة، ويجري الوصول الي هذه النتيجة من خلال الحتمية التي تميز مسار الحبكة.

وتستنتج طوسون من خلال تلك النصوص الثلاثة أن الطاقة الجنسية للأنثي تعد خطراً، ليس على شرف الأسرة الأغريقية فحسب، بل على أمن الدولة والوجود الجماعي كله. ولذلك كان لابد من إخضاع هذه الطاقة وتنظيمها حتى تبدو جزءاً من نظام ذكوري طبيعي. وعل العكس من ذلك تُطرح الطاقة الجنسية للذكر بوصفها شيئاً ضرورياً وطبيعياً، ويمكن توظيفها توظيفاً مشروعاً لدعم شرف الرجل وكرامته، وخدمة مصالح الدولة. وعل هذا الأساس نشبت حرب طروادة في مجملها (كما صورتها الملاحم والمسرحيات الأغريقية) لاسترجاع زوجة رجل خطفها رجل غريب (ترى هل كانت ستنشب هذه الحرب لو أن باريس خطف زوجة رجل من عامة الشعب بدلاً من هيلين زوجة شقيق الملك؟).

ومن خلال قراءتها لنصوص عصر النهضة الإنكليزي، مثل: (المأساة الإسبانية، العاصفة، يا للأسف إنها عاهرة، الجني، ماكبث، العين بالعين، تاجر البندقية، حكاية الشتاء، وسيدة من المدينة)، وغيرها من نصوص مارلو، ميدلتون، وفورد، تذهب طوسون الي أن المسرح في ذلك العصر يبرز مفاهيم تتعلق بالهوية الجنسية تدور، في مجملها، حول ضرورة واضحة ومتزايدة لاستبعاد المرأة من الفرص والإمكانيات التي يوفرها نظام رأسمالي آخذ في التبلور. فالشخصيات النسائية التي يمكنها، بل هي عادةً ما ترمز الى الطهارة، تمثل عنصر الحفاظ على النظام الأبوي، لذا تجد طوسون أن الطهارة الأنثوية تقع علي رأس قائمة الموضوعات التي تتناولها مسرحيات ذلك العصر. وعلى الرغم من وجود شخصيات نسائية تؤدي أدواراً قويةً وفعالة في الحبكات الدرامية لتلك المسرحيات، فإن معظم هذه الشخصيات التي تحرز شيئاً ما تواجه نوعاً من فقدان الأنوثة، وتضرب مثالاً على ذلك بالسيدة (ماكبث) التي تبدو أقوى من زوجها، ولكنها تفقد أنوثتها. أما بطلات الكوميديات الشكسبيرية، اللائي يتميزن بذكاء ونشاط يفوق ذكاء عشاقهن ونشاطهم، فإنهن يكتسبن فعاليتهن فقط عندما يتخفين في زي الرجال. ويعد هذا التخفي (الذي هو علامة لتنازل المرأة عن أنوثتها) مقدمة تؤدي - يا للمفارقة- الى زواج هذه الشخصيات النسائية من الرجال الذين وقع عليهم اختيارهن. أما إذا كانت هذه الشخصيات quot; شريرة quot; فهي تمثل الميل الى الشهوة وعدم الصلاح والقتل، وفي النهاية quot; تدمير الذات quot;. ولا ترى طوسون أن هذه الشخصيات تجسد الطبيعة الإنسانية الجوهرية، بل تمثل جوانب معينة في علاقات السلطة، ومحاولات تقنين هذه العلاقات في صورة أدوار تتعلق بالهوية الجنسية في عالم اقتصادي يتغير بسرعة.

إن مقاربةً نقديةً مثل هذه المقاربة التشريحية، وغيرها من المقاربات التي تنهج المنهج ذاته، تدفعنا الى التساؤل عما إذا كان خطابنا النقدي المسرحي اليوم أحوج ما يكون أم لا الى أن يعيد قراءة الكم الوفير من النصوص المسرحية التي كتبها المؤلفون العرب خلال قرن من الزمن على وفق رؤية لا تكتفي بالوقوف على سطوح تلك النصوص، بل تستنطق كوامنها، وتفكك النسق الثقافي والأيديولوجي الذي يوجهها، بحثاً عن الصور النمطية التي أظهرت بها المرأة في إطار ثقافتنا الذكورية المهيمنة.