منذ أشهر وأنا "أسافر" بين بيت لحم والقدس، معظم أيام الأسبوع، نعم أسافر؛ فالمسافة النفسية بين المدينتين أصبحت كبيرة لدرجة أني استعمل كلمة "السفر" لوصف التنقل بين مكانين، لا تحتاج السيارة أكثر من عشرين دقيقة للوصول من مكان لآخر، لولا "الحواجز". ولكني رجل محظوظ كما كانت أمي تردد دائماً على مسمعي، فقد أسفرت الأقدار لي -دون بقية إخوتي- عن هوية زرقاء مقدسية، أخذتها قبل عشر سنوات تقريباً، تخولني مع "صفوة" قليلة من أهل القدس بحق الإقامة في القدس، وبالتالي التنقل والتجول في كل بلادنا التي صار أكثر من ثمانين بالمئة من مساحتها يسمّى " إسرائيل"، هكذا وبدون خجل! وبالطبع أيها السادة فأنا جدّ محظوظ بتجوالي في فلسطين التي صارت تسمّى "اسرائيل"، فأنا لا أحس بهواء فلسطين الحقيقي، إلا حينما اعبر "الحدود" من المناطق الفلسطينية المحاصرة الفقيرة المدمرة، إلى المناطق "الإسرائيلية" المفتوحة الغنية المزدهرة، وفي كل يوم أيها السادة أتنقل بين هذين العالمين المختلفين لجغرافية واحدة، شبيهاً بأندلسيٍ بقي في الأندلس، بعد قدوم إيزابيلا و زوجها المخدوع فريدنالد، وفرار أهله إلى "أغمات" بالمغرب، فأتذكر الملك المعتمد وبناته الأميرات اللواتي صرن يعتشنَ ويُعلن الملك من غزلهن وما يبعنه للمغاربة من أهل أغمات؛ لقد خلّد المعتمد ذلك في قصائد أبكتني بعد أكثر من سبعمائة سنة، وهذه فضيلة أن يكون الملك الخاسر شاعراً فلا يسقط بسقوط ملكه. أما بنات المعتمد الفلسطينيات فألمح أحياناً بعضهن في طريقي وهن يتنقلن بين بيوت الإسرائيليين حيث يعملن فيها خادمات، وشعارهن في ذلك " البلد التي لا يعرفك أحدٌ فيها شمّر و….. فيها" إذ يستحيل عليهن أن يخدمن في بيوت عربٍ يعرفون عائلاتهم، إذ انه العار بعينه!

اليوم وبعد أن مررت في شوارع بيت لحم التي تذكر المرء بشوارع المكسيك، في طريقي وعلى بعد مئة متر من الحاجز الرئيسي، عند شجرات الخروب التي تصطفّ على جانب الطريق مثل حرس قديم متهالك، كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على الجدار الإسمنتي الرهيب الذي يفصل بيت لحم -إلى الأبد- عن القدس. اضطررت للانتظار قليلاً في الشارع الموصل إلى الحاجز، ريثما تخلي الشارع الجرّافات والآليات التي تشتغل بهمة، وسائقوها يتبادلون الأحاديث العادية كأنما هم يبنون ملعباً أو حتّى مدرسة للأيتام! لقد كان مشهداً مرعباً من الناحية الإنسانية والوجودية، لولا أنني اعتدت الرعب حتى صار أمراً عادياً، أراقبه كما يراقب رجل في مكان آخر من الدنيا، افتتاح سوبر ماركت أو أزمةً مروريةً في نهاية الأسبوع.
لمحت أيضاً باعة العلكة الصغار وبعض السائقين ينتظرون سائحاً يقذفه الحاجز نحو انتظارهم اليائس، يلفّهم غبار الحفريات في ذلك القيظ.
عند الحاجز كان هناك جنديان أحدهما روسي والآخر إثيوبي يتحدثان بعبرية مكسَّرة؛ سمح لي الإثيوبي بالعبور دون أن ابرز هويتي أو أن أنزل من السيارة، نحن في بداية النهار ومزاج الإثيوبي معتدل!

بعد الحاجز بمئة متر، عند أول إشارة ضوئية، شاهدت "نهى": الضريرة التي كانت معي في دورة للغة العبرية قبل سنة ولم أنسها ولم أنس اسمها، تلبس نظارات ملونة كنظارات الأطفال رغم كونها في منتصف العقد الرابع من عمرها على أقل تقدير. تنظر إلى السماء بابتسامة فيها عرفان أراه غير مبررٍ على الإطلاق، ماذا قدّمت لك السماء لتمنحيها كل هذا العرفان؟!
أوقفتُ السيارة وناديتها باسمها، قلت لها لقد كنا معاً في "دورة العبري"، فصعدت وهي تعجن الشكر بابتسامتها الممتنة.
-"عبرتُ الحاجز... اليوم سمحوا لي بالمرور. هناك بنت أمسكت بيدي وساعدتني في الصعود إلى سيارة الفورد، سألنا السائق عن هوياتنا، هي قالت: "قدس"، وأنا قلتُ "ضفّه"، لم أحب أن اكذب عليه؛ فطلب مني السائق أن أنزل، قال إن سائقي التكسيات لا يُركّبون أمهاتهم إذا كنّ مثلي مخالفات... نزلتُ، لكن ما أحسنَ بختي، الله أرسل لي ملاكاً!"
فأعجبتني على التو، فكرةُ أن أكون ملاكاً لهذه الملاكة الضريرة، التي تجوس هذا الخراب بعصاها السوداء ونظاراتها الملونة وقلبها الأبيض، تعبر حواجز الاحتلال كما عبرت حاجز النظر.
كنتِ أشطر واحدة في دورة العبري- قلتُ لها.
-" أعرف أربع لغات وأقرأها وأكتبها، طبعاً بلغة برلّ" ونطقت اسم برللل بغبطة..
سيأتي يوم نقرأ فيه "بلادنا" بلغة "برل" العظيم (فكّرت بذلك دون أقوله لنهى، لا أريد أن اخدش بهاء هذا الصباح بسوداويتي الأصيلة.)
-"كل أسبوع أذهب إلى القدس، أحياناً أمرّ وأحياناً لا يسمحون لي فأعود" تعجبني لثغة صدق تخرج من أعماقها ولا يسمعها إلا قلةٌ من الناس، مخارج حروفها جميلة، كأنما تنظر من خلال كلماتها.... مفرداتها مبصرة.
تحدثتُ معها في تلك الدقائق الثمانية التي استغرقتها الطريق، منذ متى لم أتحدث مع كائن تتدفق إنسانيته بهذه الكثافة، بحيث شعرت أني أحادث الحياة نفسها!
-" أريد أن انزل عند مفرق الثوري، لقد غلّبتك معي، أنا بختي حلو اليوم"
"أريد أن أذهب إلى جبل المكبّر"
كانت سعيدة، وأنا أيضاً كنتُ أكثر منها سعادةً، أنزلتها تماماً عند موقف باص رقم 8، قبل أن تنزل من السيارة مدّت يدها بعفوية وضغطت على يدي بصداقة وامتنان، وهي تتمنى لي صباحاً جميلاً، فتمنيت لها صباحاً أجمل، وأدرت سيارتي في وسط الشارع مخالفاً قانون السير، محروساً ببصيرتها التي لا أشك بشأنها عند الخالق، غير مكترثِ باحتمالية مخالفتي من قبل الشرطة، ومضيت إلى نهاري... السيارة تحولت إلى قارورة وردٍ اندلقت عند تلة "الثوري"، وسالت نحو "جورة العنّاب" ثم انعطفتْ صعوداً باتجاه "باب الخليل"... في تلك اللحظة كان الناس على جانبي الطريق، مكفوفي البصر وسعداء.

القدس، 1 تموز 2004.