من صندوق قديم ذي زخارف ورسوم يخرج الملك قناعه وملابسه ويقف أمام المرآة ليتنكر، يضيف بعض الخطوط حول عينيه ويلصق لحية بيضاء فوق ذقنه ويحدث أثرا لجرح قديم على جبهته ثم يحمل صولجانه وتاجه ويذهب باتجاه الكرسي الوحيد في القاعة، يستقر هناك لدقائق، يتأمل رؤوس الحيوانات المحنطة فوق الجدران والسيوف المهجورة ذات المقابض الذهبية التي علقت بخيوط من حرير تليها صور السلالة الجسدية التي ورث المجد عنها ثم خزائن المال والجواهر والمخطوطات التي يغطيها الغبار وحين يطمئن إلى اكتمال الصورة التي يعرف تفاصيلها جيدا ويتأكد من الاتحاد اللانهائي للأشياء مع ظلالها، يخرج من طيات طيلسانه مرآة سحرية يتطلع من خلالها إلى غرف القصر وأروقته وممراته ويراقب بلذة وشجن أشباح العابرين المتكررة وخطى السائرين في نومهم وأجساد للنساء الحوامل التي أنهكها الطواف المستمر في غرف القصر والتي تطفو في تيار متلاحق يبدأ وينتهي في النقطة ذاتها. وقبل أن يعيد المرآة إلى مكانها يلتفت فيرى الباب الكبير في القاعة وهو يفتح ثم يرى في شعاع الضوء المتسرب من الخارج تجسد صورته القديمة التي لم تعد تراوده حتى في أحلامه على هيئة مهرج، إن الآخر يبدو في تلك اللحظة واضحا ومكتملا وقادرا على التماهي معه.
يقترب المهرج أولا من بوم محنط ويمد يده ليلمس عينيه الفارغتين ثم يرفع كتابا موضوعا على المائدة ويتصفحه ويعيده بسرعة ثم يقلب عددا من الاسطوانات ويرتب في نسق جديد تماثيل صغيرة تمثل وجوها وأجسادا أنثوية وطيورا ومسوخاً ثم يزيح ستارة سوداء في إحدى الزوايا فتظهر على الحائط لوحة مستطيلة تمثل ورقة لعب كبيرة، الرأس الأعلى فيها لمهرج أما الأسفل فيصور ملكا. يغلق الستارة كأنه فوجئ بما تخفيه وبعد لحظات يزيحها ثانية فتبدو اللوحة بشكل مقلوب إذ يكون رأس الملك في الأعلى ويكون المهرج أسفله. يكرر المهرج لعبته ويراقب أثناء ذلك انفعالات شبيهه وحركة يده التي تحمل المرآة، يضحك الملك بشدة مرة ثم يبتسم ثم يصمت ثم يكشر وأخيرا يتثاءب فيدرك المهرج إن لعبته لم تعد مثيرة فينهيها، ينحني ويمضي بخطوات حذرة ليختفي خلف الكرسي الوحيد في القاعة، بعد اقل من دقيقة يمد يده من خلف الكرسي بكأس نبيذ مترع طالبا من مليكه أن يشرب نخب أيامه السعيدة فيتجرع الكأس ببطء وعلى مضض ثم يسقيه كأسا آخر نخب أيامه الحزينة لكي لا يعيشها ثانية ومع الكأس الثالث يرجوه أن لا يفكر في المستقبل و أن لا ينشغل برعاياه ولا بمصائرهم ومع كل كأس من الكؤوس التي يستمر في تقديمها إليه يطلب منه أن يتذكر شيئا أو يتخيل مشهدا أو يفكر في أمنية لم تتحقق.
حين يشعر الملك باختلاط الأوقات والأفكار والذكريات والصور وحين يتخم بالصياغات المبتذلة التي يعيد المهرج ترديدها ثم حين يحاول أن يقول كفى فلا يستطيع، يعطيه المهرج ثمالة زجاجة النبيذ ثم يتركه لينام فوق عرشه.
تخفت الأضواء بعد ذلك في الصالة ويبدأ الملك برواية أحلامه الجسدية، يتوقف عند اللحظات الحاسمة، يتابع المؤثرات الخفية، يتذكر وجوه إناثه وأسرتهن وشمعداناتهن الفضية، وجوه حاشيته واتباعه، وجوه جلاديه، وجوه قتلاه ويتكرر مع أطيافه أنين المعذبين في أقبية القصر وتتكرر شكواهم واستغاثاتهم، أما المهرج فبعد أن يضجر من ألعابه ومن مراقبة وجهه في المرآة السحرية، يعيد الأشياء التي عبث بها إلى مواضعها ثم يذهب لينام في سرير الملك.
تمر الساعات التالية ببطء وتبدو الأشياء تحت النور الخافت اكثر هرما واشد سكونا ولا يقطع الصمت سوى صيحات متفرقة تأتي من غرف بعيدة ووقع أقدام تتلاحق وزئير وحوش طليقة في أروقة القصر وممراته. حين يستيقظ الملك في أخريات النهار يخلع ملابسه ولحيته المزيفة ويغسل وجهه ويضع تاجه وصولجانه على مائدة قرب سرير المهرج وينسحب من القاعة وهو يتثاءب متجردا من هموم المرآة السحرية ومن نظرات الأسلاف المتجددين في صورهم المعلقة على الجدران ومن وطأة المراسيم والأعراف والقواعد والقوانين ومن الرائحة الكئيبة التي ظلت تطارده لسنوات تاركا كل شيء للملك الجديد الذي يشبهه في صورته والذي يراه الآن للمرة الأخيرة، يراه وهو يشخر ويتقلب في سريره، لن يستيقظ الملك الجديد إلا بعد أيام، انه متعب وحزين ومعذب بهموم رعيته ومكائد أعدائه ولكنه لن يتخلى عن ما تعوده أسلافه، سيبدأ بسرد أحلامه لكي يسمعه كل من في القصر مبتدئا بحكاية موجزة عن المرآة السحرية.

مقطع من نص روائي طويل ينشر قريبا
[email protected]