في حيّ شعبي، من الأحياء العتيقة، كانت أُذن صاحب المقهى على المذياع وعَيْنه على الزقاق الغاصّ بالجماهير المكدّسة أمام نظراته المكتظّة بالزبناء، وكان المذياع ينقل خطاب حاكم عربيّ من المحيط إلى الخليج : أيّها الإخوة الصامدون في كل مكان، أعرف أنّكم في أسوإ حال، وأنّني لست في أحسن حال إلاّ لأسهر على تحسين أوضاع صمودكم ؛ وإذا كنتم مرضى بالحاجة -أعلم ذلك -فيكفيكم فخراً أنّني في غاية الصحّة من هذه الناحية، لذا عليكم أن تعمَلُوا بما نصحتُكم به دائماً، وأن تشدّوا الحزام كما ينبغي، فهو وقاية لمعدتكم من الجوع، وهو حماية لمصارينكم من الانتفاخ الذي هو شأن من شؤون أرصدتي الخاصّة ؛ أنا أريدكم، والله يشهد، أحراراً -من وسخ الدنيا -لكن منقادين، واحمدوا الله أنّني لم أقل مقيّدين، ولا تنسوا أن تستعينوا ببعض الخوف فهو دواء لكم من كلّ داء ؛ نعم ! تنقصكم ثقافة الخوف، يجب أن تعترفوا بهذا النقص، وتنتبهوا له، وتقرؤوا تاريخ الانهيارات في برلين والاتّحاد السوفياتي سابقاً والدرهم الأبيض الذي لم يعد ينفع في اليوم الأسود... إلخ إلخ ؛ لكن لا يهم إن كان الانهيار هو مرض العصر، ما دام أنّ موقفي صحيح ويسير حيث أريده أن يسير، حتّى وإن كنتم تعيشون أزمة مع السير على صراطي المستقيم؛ وعلى كلّ حال أريدكم أن تعلموا أنّني كنت من السبّاقين إلى الانخراط استراتيجيا في عملية الحزام، لذا فالحزام .. الحزام ! ولا تصدّقوا من يوصيكم بغير ما سمعتم.
- وماذا يفعل من لا يملك الحزام؟! ( قال رجل كان يتابع الخطاب)
بلغ السؤال إلى الخطيب، فأجاب صاحبه (أيْ السؤال) كأنّه كان أقرب إليه من حبل الوريد:
-وليطمئن من لا يملك الحزام، فنحن سنأخذ بيده!
-كيف سيأخذ بيدي وهو لا يعرفني؟! (علّق صاحب السؤال هامساً في أذن رَجُل بجانبه لاذ بالصمت)
-افهم راسْك ! يا غبي الزمان وكلّ الأزمنة. (ردّ عليه الخطيب كأنّه كان يسمعه وواصل خطبته)
وأرجو أن لا تتهيّبوا من استراتيجية الحزام فهي مثل استراتيجية الحرام التي جمعتنا دائماً ؛ إيييه كم كنتم كرماء معي ! يجب أن أعترف بهذه النعمة، لقد ضربتم أرقاماً قياسية في هذا الباب، ولو أنّ استراتيجية الحرام تحتاج، وكما تعلمون، إلى النافذة لا إلى الباب ؛ وبخصوص الأرقام القياسيّة -احتدّ صوت الخطيب ورانت عليه رنّة النرفزة -أنا حقيقة لا أفهم كيف أنّنا حطّمنا أرقاماً قياسية عالمية في عدّة مجالات ومع ذلك لم نحصل على أيّة جائزة عالمية تكافئ ما حقّقناه من مكاسب حين رفعنا نسبة الجهل والمرض والبطالة والمديونية والحرمان والرشوة... إلخ ؛ وهذه المكاسب، التي يعترف لنا بها البعيد قبل القريب، لم تخلق، بطبيعة الحال، من فراغ، بل هي ثمرة اجتهادي الدؤوب لكي تبقى رغباتكم في منأى عن متاع الدنيا الفانية ؛ لذا لا أريدكم أن ترفعوا رؤوسكم ابتهاجاً بهذه المكاسب الطائلة، لكي لا تثيروا حسد الحسّاد، وطأطئوا رؤوسكم ما استطعتم لتضليل الأعداء، وحاصروهم في عقولكم، لأنّهم إن غادروها واجهوكم في واضحة النهار، بعدما كانوا في السابق لا يتجرّؤون على ذلك إلاّ في ظلمات الليل، مع رجاء آخر هو أن تتركوا الليل في حاله لأنّه لي ولا سيما بعد سقوط الحزام.
رفع بعض المتابعين للخطاب قبضتهم وصاروا يهتفون :
-يسقط الحزام ! يسقط الحزام !
-ما هذه الضوضاء، اخرسوا أيها الجهلة فأنتم لم تفهموا كلمة واحدة من كلام الخطيب !! (قالت العصا مهدّدة وهي تطوف على الرؤوس)
أيّها الإخوة -قال الخطيب مواصلاً خطابه -إنّني أعلم أنّكم تواجهون عدالة بكفّة واحدة وطرقات وعرة وأمراضاً بلا مستشفيات وجهلاً بلا مدارس وجوعاً بلا طعام ورغبات أساسية بلا تلبية، ومع ذلك أَعِدكم...
تنحنح البعض، وهزّوا أجسادهم، وقد أحسّوا بمراوغة الخطيب لمشاعرهم المتميّزة (من الغيظ)، فختم الخطيب خطابه :
أيّها الإخوة الصامدون في صمتهم ! سأكتفي بهذا القدر لكي تنتشروا في الأرض وتمشوا في مناكبها، شاكراً، كالعادة، العصا على حسن اعتنائها بكم في كلّ وقت وحين !
العصا : لا شُكر على واجب.

روائي من المغرب

[email protected]