المدينة تسترخي بكسل ولامبالاة، الشوارع تخلو من السيارات أو تكاد، عمّان مستيقظة تراقب لكنها لا تلقي بالا لحزني، عشاق صغار يمرون يتضاحكون وعمّان تتسامح، متسولون يخدشون رهافة شوارعها وتحتضنهم، تمر في بالي صورة مذيع التلفاز وهو يكذب منفرا المواطنين من دفع قروش ضئيلة للمسنين الطاعنين في العجز على إشارات المرور، قال هم من فئة تمتهن التسول وتحتسب قدرات الشاب التسولية ضمن مؤهلاته في سيرته الذاتية التي يقدمها لأهل عروسه، المذيع كان يعرف أنه يكذب وكان يبتلع كذبه بشرب الكثير من الماء، زجاجة الماء الصحي فرغت عن آخرها وغص هو بكذبه، أما المشاهدون فلم يكن يعنيهم أن يصدق أو يكذب بقدر لهفتهم على الظهور أمام الكاميرا، فئة من المجتمع ولم يجرؤ أن يقول الغجر، خشي على الوحدة الوطنية من التصدع وريما خشي الغجر، لكن المتسولين كثر، والأيدي الصغيرة على الإشارات تنبت من كل اتجاه.
عمّان تحتفي بالوافدين وتهش في وجوههم أكثر من أبنائها، تمشط شعرهم بنسائم يفتقدها أبناء الصحراء، ترطب صدورهم بالفرح والحرية، وقفت على حافة الصراط بين جنة التقدم وجحيم النظر إلى خلف خشية الجمود كتمثال، الليالي فيها تزدهر سوداء كليل الفقراء، بلا نهاية كليل العاشقين، وحمراء كليل النسوة اللاتي ضيعن بوصلة المهن وعدن إلى أقدمها بدافع الحاجة أو الضياع، تزدحم صباحا بأقدام القادمين بحثا عن رغيف خبز، وتلفظهم مساء إلى الكراجات بحثا عن أي وسيلة نقل ممكنة، دور السينما في ازدياد، والمطاعم مزدهرة بما يوحي أنه الرخاء العظيم، الأفواه أيضا في ازدياد بما يكفي لإطلاق حملات تنظيم النسل كحل سحري مفترض لمشاكل الفقر، المدينة تتزين للقادمين وتتعرى إغواء لهم كاشفة عن مفاتن تعيدهم إليها مرات ومرات، وصفها شاعر عاشق بالفتاة ذات الجدائل لكنه الآن يستسلم ويقول هي ليست فتاتي، المدن كالنساء تشيخ! وتفقد شيئا من صباها كلما لجأت للجراحات التجميلية.
عمّان تقسم أبناءها شرقيين وغربيين، اشكناز وسفارديم، هل أغالي؟!، عمّان تحترف تحديد الاتجاهات، ولذا تصب فيها الاتجاهات، تجمع أبناء بابل وكنعان في شوارعها الضيقة، تاركة للتيه أن يلد التيه، يدورون في مدارات مغلقة بحثا عن نقطة الخروج من الجدار، ممزقة الخاصرتين لكنها برغم الجدب عفية، تزيد أقساط البنزين وتترهل كروش حيتانها لكنها تزداد جمالا على جمال وسحرا على سحرا، وبالجمال تقاوم.
تميز نفسها بأنها مدينة الأمن والأمان، فيلادلفيا التي عادت من قلب التاريخ وسكنت كتف الجبال، فاتحة قلبها للجميع تطعمهم حنطة الروح وماء الندى، فيلادلفيا هي سقف السيل ووسط البلد وساحة العبدلي التي لا تصدق منظرها إن مررت بها يوم جمعة، هي ضجيج الحياة ومعجزتها!
اليوم أدقق في ملامحها كما لم أفعل منذ زمن، صوت نجاة يتهادى بانسيابية وهي لا زالت تؤكد أن عمّان أرخت جدائلها فوق الكتفين، أنا عاشقة أبدية لها، خطر في بالي أن أتمشى في شوارعها متسكعة، أن أجلس في مقهى أرقب حركة المرور، المقاهي الراقية لا تشفي غليلي لأنها ليست إلا شرفة من خارج المدينة، أريد مقهى بسيطا حيا ضاجا بالحياة في قلب القلب من مدينتي الأثيرة، أفكر بمثالية رغم أنني أدرك ككل امرأة أخرى في بلادنا الموبوءة بجعجعة الذكر، أن ارتكاب الأنوثة في الطريق العام خطأ فادح، لست بحاجة لكثير ذكاء لتعرف ذلك، كما أنك لست بحاجة لان تلقي أكثر من نظرة لتتلقى آلاف الدعوات لدخول المحال المنتشرة على جانبي الشارع، مظاهر ترحاب ودودة لكنها مزعجة على الأقل لمن لا يود لحظتها الشراء.
الحزن يتملكني من أخمص القدمين حتى أعلى رأسي، تركت البيت دون أن أعلم زوجي هذا الصباح، أردت ببساطة شيئا من العزلة، محاولة لإعادة ترتيب الأمور و فوضى عمّان في عيني لأنشغل عن ضيقي، حفنة من العزلة والتفكير الصافي هو كل ما بغيت بعد عراك الأمس معه، علق شهادته الجامعية على الحائط وعلق رأسه هو في الأوهام، لم أتوقع قوله لي بأنه سيرافق صديقا ويغيب ليلتين بحثا عن الذهب؟!
المخدة التي طوحت بها على رأسه ممازحة لم تفلح في مؤازرتي، انتظرت أن يهاجمني متحفزا بالقبل كعادتنا في كل مزاح نؤرخه في مساءاتنا حبا عاصفا يزلزل سكون الليل وتتداخل فيه الأنفاس، لكنه لم يفعل، اكتفى بطبع قبلة سريعة على شفتي بحركة آلية، لم يزعجني ابتسار القبلة بقدر ما هالني مجرد التفكير في أنه جاد!
-حسنا، أنت تمزح، أليس كذلك ؟
- أنا بكامل جديتي!
- ومن أين نبتت هذه الأوهام في رأسك؟
- من نجاح صديقي في الحصول على شيء ما بتتبعه لبعض الخرائط التركية القديمة.. والأهم..
- ما هو ذاك الأهم؟
- ليس هناك ما أخسره من المحاولة!
لم نتمازح وكسرنا تقاليد السهر ليلة الخميس على الجمعة، اختصرت الحوار لأن الصدمة كانت فوق احتمالي، شيطان نبت من لا شيء ودون الحاجة إلى رحم ، كنت بين مصدق ومكذب أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا الصباح استيقظت أبكر منه كالمعتاد، منحته قبلة خفيفة على جبينه، وتأملت ملامحه الوادعة وهو نائم، حاولت أن أسترجع الحوار وأن أجد فيه فسحة واحدة من الأمل تقول أنه كان يمزح أو يستدرجني للانفعال أو يجس نبضي أو أي شيء إلا أن يكون جادا، لكني فشلت!
قضينا الليلة متلاصقين ككل ليلة ولكن حاجزا لا مرئيا حال بيني وبينه، كنا زوجين من الأغراب بعد أن تشاغلت بفيلم السهرة وتشاغل هو في الاتصالات الهاتفية مع ذاك الصديق، نمت قبله عندما أعلن الفيلم النهاية المعتادة.
لاحقا، تأملته في نومه، فاتنا كان، مشبعا بالرجولة وسيما لولا بعض شعرات بيض تسللن إلى رأسه في غفلة عني، لم ألاحظ أيها منها في احتضاني الأخير لرأسه وخلخلتي لشعر رأسه بأصابعي وشفتي، أحبه وشكلت معه زوجين مثاليين على مدى عامين، ولا سيرة تحلو للمعارف بقدر الحديث عن قوة علاقتنا، قالوا أنها الأقوى في عمّان، لكن من أين تسلل حجر الفلاسفة إلى رأسه؟ وكيف تسلل في غفلة مني؟
طرقات عمّان إما واسعة تطاردك بها السيارات أو ضيقة يتولى المارة فيها المهمة، امرأة في الشارع مع رجل شيء أقل من مثير للاهتمام أما وحيدة فتلك جريمة تستحق المطاردة لأجلها دون نقاش، شددت غطاء الرأس على عنقي جيدا كامرأة متزوجة وقور، ولكني سفرت عن وجه روحي المتعبة، خلعت خمار التجمل وبكيت في الشارع، عانقت روحي الأعمدة الرومانية، توسلتها الوصول للغمام، وحقيقة ما يحصل لزوجي. البكاء بين الناس له تأثير السحر، أن تبكي ماشيا في الزحام دون أن تضطر لإجابة أي استفسار أو سؤال، الشارع محض تجمع لغرباء، قد يحدقون ببلاهة وفضول لكن أيا منهم لن يجرؤ على السؤال!
الزحام والتنوع سر عمّان وروحي مثلها، غارقة في الحنان ورغبة عناق الآخر، المتعب المرهق الذي توصد في وجهه الأبواب، وجه زوجي في الزحام وأنا أطرق بعيني أهرب من مئات العيون المحدقة، كنت لأبكي على صدره لو أني كنت أفهم، كنت لأبكي ولكني بعد لا أصدق، سيخمنون أسبابا كثيرة لدموعي الحارقة ليس من ضمنها أن زوجي أصيب بوهم حجر الفلاسفة دون مقدمات، الذي حتى وإن كان حقيقة فهو ليس لنا، تسلل إليه المرض بمعزل عني، واختطفته حمى المعجزات، خفتت صوت نشيجي لان الشارع على ضجيجه يضيق ببكاء هامس، وتسليت بمراقبة اللوحات الإعلانية التي غزت المدينة وتكاثرت كالفطر، معظمها يروج لجوائز يانصيب أو توفير وبعضها يروج حتى للسجائر التي يفترض بها تلبست ثوب التحذير من مرض السرطان والسل وسائر أمراض الرئة دون جدوى!
من بين دموعي، و للمرة الأولى لحظت كم تتردد ال"لاشيء نخسره" في الدعايات على الطريق، معظمها بأصوات نسائية ناطقة بأجساد لغتها العري والفتنة، "جرب وما رح تخسر"، وصلت رغدان وركبت في حافلة معقولة الازدحام لم أدقق كثيرا في اتجاهها ذاك أن الاتجاهات آخر ما تعنيني في مشوار التيه هذا، اليوم جمعة ولا يوجد ازدحام على المواصلات رغم امتلاء الطرقات والأرصفة بالبشر!
نزلت بعد محطتين تحت مسامير نظرات شاب ثقيل الظل جلس بجانبي وظل يلوح بورقة عليها رقم تليفون مع اسم لم أتبين ملامحه جيدا رغم أنه كتب من مقطع واضح وبخط كبير وإنما رديء كذوق الشاب في ملابسه، كان صوت المؤذن يعلن النداء لصلاة الجمعة والشاب لا ينفك يمرر الورقة، "جربي.. لن تخسري"، بمنتهى الصفاقة كان ولا أدري إن كان ميز أني متزوجة أم أن الأمر لا يعنيه، لم يحاول الاقتراب بجسده أكثر مما يجب، وكان يكفي أن أشيح بوجهي عنه إلى صنوبر الطريق المهرول عبر زجاج النافذة، لأنسى وجوده دون الحاجة إلى فضائح يتدخل بها جمهور الحافلة، لكني وقد ضقت ذرعا بالابتذال المسكوب في "جربي"، نزلت، استقللت تاكسي هذه المرة، ذهبت إلى صندوق البريد، مفتاحه معي أغلب الأحيان، لكن ليس اليوم، على أية حال هو مسجل باسمي وستساعدني الموظفة في جلب بريدي، عدت بحزمة من الفواتير لا تستحق عناء التاكسي ناهيك عن طلب المفتاح من الموظفة وتبرير نسيان المفتاح، لكن على أية حال ذلك أفضل من الخواء التام.
رجعت بتاكسي آخر، كان السائق مهذبا جدا ولم يسأل عن أي شيء عدا الاتجاه الذي حددته بالبيت بسهولة، ذاك أني كنت تعبت وما عادت تجربة التجوال تغريني، لم تمض دقائق معدودة حتى انزلقت من تحت كرسي السائق مجلة خلاعية بينما السيارة تتجه صعودا، فكرت بأن أتناولها وأعطيه إياها ولكني وجدت أن ما من داع لفقأ كرة الصمت، التجاهل أفضل في هذه الحالة فآخر ما أتمنى أن أخوض حوارا عن المجلات البورنو مع غريب.
وصلت ونقدته أجرته متعمدة أن لا أبدي أي نوع من اللطف معه، ودخلت الشقة لأجد زوجي وقد ترك لي ورقة على الباب واضحة تفيد بأنه ذاهب للتجربة وبأنه عائد لي خلال يومين بشوق!
أدركت بأن احتجاجي الصامت لم يصل وأنه لم يكن أكثر من زوبعة في فنجان سكبته على طرقات عمّان الجميلة بتنوعها، سقيت عمّان من قهوة نبضي ولم أفلح في أن أسقيها لتوأم روحي الذي أصيب بمس اللون الأصفر، فطنت إلى أني منذ فترة أتحدث كثيرا عن أحلام الثراء، عن ضيق مساحة البيت، عن ضيقي بعمّان ذاتها، لكن كل هذه الترهات اعتدنا أخذها على سبيل المسلمات في أحاديثنا اليومية، التذمر وانتظار شيء لا يجيء سمة للكثيرين هنا، المقارنة بدول مجاورة، بالجيران، بالأقارب، بالتلفزيون، كل تلك الأمور غدت أمورا معتادة كعادة الانجليزي في الحديث عن الطقس، لكننا بخير، مثلما طقسهم سيء دوما، أقسم بالله بخير، نتذمر لنخفف عن أنفسنا ونريح صدورنا التي لا تحتمل الحصار، أين أنت لأقسم لك أني راضية بخير وأحبك.. ولكن ليس وخطوط العنكبوت تعشش في مخك!
نحن رهائن اللحظة في تعابيرنا، وحتى عمان بكل فتنتها لم تسلم من هجاء شاعر الأردن وهو يعلن أن السلط سخط والعمى عمان في نوبة من تمرد على المدنية لصالح الطبيعة وعشاقها، ذات الغجر الذين أدانهم المذيع التلفزيوني بتهمة تشويه المدينة بالأيدي الممدودة المستجدية، وأنكر كل فاقة أخرى. لم أطق البقاء في البيت أكثر من نصف ساعة غسلت فيها وجهي وبلعت فيها الكثير من الماء الذي لم يفلح في تهدئة عطش روحي أو تذويب كثافة حزني، عدت إلى الشارع ولكني اتجهت لمنطقة أرقى هذه المرة، فلا طاقة لي بالمعاكسات والزحام أو الحافلات، قليل من الصخب أو حتى الحياة يغني عن كثيرها، حاجتي هي للفضاء قبل أي شيء آخر، توجهت إلى منطقة الصويفية، جلست على أحد المقاعد على مفترق طرق مأهولة بالعشاق عادة أحدق بلا هدف في قطار السيارات الملون، اقترب مني شخص ضئيل الحجم لم أتبين للوهلة الأولى أنه قارئ كف، كان يهذي بما يشبه القصيدة عن قلة حظي مع الرجال رغم أن مخي جوهرة لا يستطيع التغلب عليها بحسب ما قال خمسون من الرجال، خمسون وأنا يقتلني واحد أحبه، واحد يختطفه مني الوهم والسراب، حاولت صرفه بكل ما أمكنني لكنه كان بكامل إصراره على أن يقرأ كفي لفك "العمل"، مغربي، هكذا أوحى لي تجعد شعره وأسنانه الذهبية ولهجته الغريبة أو لعله غجري، لا أدري ولا يهم، صرفته مرة إثر أخرى ولكنها الظهيرة ولا يوجد الكثير من الزبائن، تمسك بي وبالحزن في عيني، مد يده وأمسك بكفي وأنا ساهمة، لم أنزعها ولكني عزفت على الوتر الحساس: "لن أدفع"
-"لا تدفعي لقراءة الطالع ولكن عليك أن تدفعي لفك العمل ودفع سوء الطالع بعيدا عنك، وحيث أن القراءة مجانية، مدي يدك ولن تخسري شيئا".
قاصة أردنية
التعليقات