حين ولجنا المقهى وجدنا التلفزيون مطفأ، وحين سألنا عن السبب، أخبرنا غلام المقهى بأن هذا التلفزيون قد أصيب بعطب مفاجئ. عطب خارج عن الإرادة. انتحينا جانبا وجلسنا في مكاننا المعتاد. تحدثنا في مواضيع شتى، وحين تعبنا من ذلك. قررنا أن ننشئ قصة جماعية. ستكون القصة إن تحققت كتابتها غاية في التجريب الإبداعي. اتفق الجميع حين الانتهاء منها على منحها لواحد منا كي تنشر باسمه في الملحق الثقافي الذي على البال. في مقابل ذلك عليه أن يطعمنا حلالا في أرفع مطاعم الدارالبيضاء. اقترح الجميع على أن أبدأ أنا بالكلام، لأني معروف بكتابة القصص. قلت مدعيا عدم الاكتراث، لكن قلبي كان يخفق من الخوف في الوقوع في العي. طاوعتني السليقة، فجاء كلامي منسابا على الشكل التالي: (أنظر إلى البحر، يأخذني البحر بعيدا اتجاه اللا نهائي. نحو سماء أخرى. نحو يابسة جديدة لم يسبق لقدمي وطأتها من قبل. كنت قد قررت بعد مجهود فكري وعضلي عميقين، أن أترك المقهى. مقهاي المفضلة، التي عاشرتها زمن التهييء للبحث العلمي، وأذهب إلى البحر. كانت رؤية الغواني تستهويني، لا سيما إذا كن جميلات جدا مثل صديقتي القديمة هيلين، تلك الفرنسية الباهرة الجمال. كان البحر يعانق أجسادهن واحدة تلو الأخرى، وكنت من خلاله أعانقهن على مستوى التأمل الإنساني دفعة واحدة. وكان البحر يضحك مني، ويقول لي في سره: أنت ابني، أنت فلدة من كبدي، أنت واحد من سلالتي، و كنت أقول له أنت أبي تارة وأنت أمي تارة أخرى. حسب اللغة التي تحضرني لحظة مخاطبته. وكانت إحدى البنات ترقبني من بعيد. كانت نظراتها تخترق جسدي المعشوشب. لعلها تريد أن تقول لي شيئا. تريد أن تسر لي بحديث ما عن نفسها أو عن سواها. وكنت غير قادر على الحديث معها أو حتى الاستماع إليها. شيء غامض في داخلي كان يدعوني للحذر منها والابتعاد عنها. ألأني كنت قد قررت حين ذهبت إلى البحر وحيدا ألا أكلم أحدا أو لأنني كنت أخشى من سطوة عينيها الفاتنتين ذاتي النظرة المتوحشة على مقاومتي؟ لست أدري. لكن ما كنت متيقنا منه هو أنني كنت أطيل النظر إلى وجهها البري أو الذي كان يأخذ شكل البراءة كلما نظرت إليه،أو حدقت فيه. وكان لهذه النظرات المتبادلة بيننا وقع السحر غليّ، وربما عليها هي الأخرى، إذ كثيرا ما تعقبتني من أجل الحديث معي. لكنني كنت أتظاهر بعدم رؤيتها وأعوض النظر إلى وجهها البريء بالنظر إلى البحر. فأنا طفله المدلل، ولا يمكن لطفل البحر أن يقع في حب طفلة أرضية، لا تحدق إلى المياه المتدفقة إلا لماما، ولا تسبح في البحر إلا قليلا، ولا تفارق جسد الأرض إلا من حين لحين. ولعل هذا هو سبب فراقنا قبل حتى أ ن نلتقي. لكنني ما زلت لحد الساعة استحضر ضحكاتها الرنانة، وتموجات جسدها الفاتنة، وأنظر من خلال هذا الاستحضار إلى تدفقات أنفاسها العذبة، ورقصات رموش عينيها الناعستين. )
حين وصلت إلى هنا شعرت بكل العيون تتابعني بلهفة. لقد نجحت في الحكي. وتبعا لذلك علي أن أقف، حتى يظل وقع كلماتي عميقا. التفت إلى الذي كان يجلس بالقرب مني و قلت له ضاحكا، لقد حان دورك أيها القصاص هيا إلى لعبة الحكي يا بوعزة. خذ خيط الحكاية مني. شعرت بيده الخفية تأخذ الخيط الوهمي، وبدأت أسمع صوته صحبة أصدقائي يتدفق في سهولة ويسر. هكذا تابع الحكاية بقوله:
( تنظر هي أيضا إلى البحر، تغوص في أعماقه. لا تلتفت إلى سواه. قد أحبته بعمق داخلي. لكنها مع ذلك،تفضل تراب الأرض العميقة على تموجات أمواجه العاتية. إنها من الأرض قد انبثقت و إليها ستعود حتما، فلم يريدها أن تحب سواها؟. إنها تشعر في أعماق نفسها بأنها بنت للأرض. تشعر بحنين جارف لأن تحتضن تراب هذه الأرض عارية تماما، كإحدى الوثنيات القديمات. و في عمق انغمارها العاطفي المتوهج هذا. تجلى هو، صديقها البحري، ذلك السندباد الذي طاف كل البحار ليأتي إليها باسما. في عينيه تدفق شبقي هائل. كانت تنظر إليه تطوق صدره المزروع حبا في غابة من الشعر الأسود المائل نحو اللون الذهبي من أثر شمس أغسطس تذيب شوقها إليه بالانغماس في أحضانه توهما. كانت تعرف أنه هو الآخر مغرم بها، وأن نظراته المتقدة تدعوها للذهاب خلفه، والمشي معه فوق أديم أمواج البحر. وكانت تتردد طويلا في اتخاذ قرارها. حقيقة إنها تحبه،ولكنها تحب تراب الأرض أكثر منه. تحب هذه الأرض التي تتكلم لغة عربية فصيحة، في حين أن البحر الذي جاء هو منه، متعدد اللغات، لذا كانت تفضل أن تنتظر، أن تظل مرتبطة بأرضها عساه يتخلى هو عن بحره. وطال انتظارها. لم تكن تعرف أن تعرف أن تلعب الكرة فوق بساط الرمال الممتدة على القرب من البحر، المنتمية غصبا عنه إلى الأرض. وتعلمت فعل ذلك، بل وداومت عليه صباح مساء، وأنساها اللعب بالكرة بعضا من القلق الذي تعانيه. لكن الحبيب البحري مع كل ذلك، لم يأت إليها، ولا وجدت هي الجرأة لتذهب إليه. وظلت هي تلعب الكرة وحيدة تارة، وصحبة البنات تارة أخرى. وظل هو بعيدا عنها، إلا أن نظراته ظلت بالقرب منها، تتابعها يمينا وتتابعها يسارا. ظلت تغازلها، تدعوها للارتماء في البحر، والسباحة فيه معه. وكلما ازدادت نظراته قوة كلما ازداد تشبثها بالأرض التي انبثقت منها والتي إليها ستعود في يوم ما، الأرض التي تتكلم بالعربي الفصيح..).
حين وصل بوعزة إلى هنا، التفت نحونا مزهوا. لقد شعر بقوة حكيه وبقدرته على شد انتباهنا إليه طيلة هذه المدة. قال موجها كلامه إلينا في تحد سافر، هل يتابع أحد منكم الحكي، أم قد أعطيتم حماركم؟، بادر قدور إلى نزع خيط الحكي منه، ثم التفت صوبنا قائلا:
(استمعت الفتاة التي كانت تجلس بالقرب مني إلى قراءتي المتأنية لهذه القصة، وطالبتني بإرسالها إلى صحيفة- الحب- التي كنت مراسلا لها، مبدية إعجابها الشديد بها، وبالحمولات الفكرية والعقائدية المتضمنة فيها، وألحت علي كثيرا في أن أستبدل عنوانها الرمزي بعنوان رومانسي مثير، يجذب القارئ نحوها ويدعوه لقراءتها. واقترحت ndash; لعبة الحب- بديلا للعنوان السابق. ولما كنت مغرما بها،وأحرص كثيرا على إرضائها،فقد خضعت لرأيها دون إبداء أي اعتراض. ثم سرعان ما جرنا الحديث بعيدا عن أجواء هذه القصة وأولجنا في لعبة الحب، كنت البادئ، في حين كانت هي الملبية للدعوة. ولم ندر إلا والأهل يباغتوننا في ذلك الوضع. انسحبت في هدوء، بينما ظلت أمها تقذفني بوابل من الكلمات المحرقة. تنزل علي نارا. لم أرد أن ألتفت ولا رغبت في ذلك، فما زالت نار هذه الكلمات تحرقني إلى الآن. توجهت صوب البحر، تذكرت فجأة بطل قصتي ndash;لعبة الحب-على حد التسمية الأخيرة لها. حسدته في نفسي كثيرا،إذ إنه لم ينصع لدعوات حبيبته - بنت الأرض-، وقرر أن يسبح بعيدا عناه. لكني حين ارتميت أنا في البحر، بل في أعماق البحر، وجدت أن حبيبتي قد سبقتني إليه. قالت والغضب ينطلق من عينيها الفاتنتين مثل صاروخ، آه لقد حسبتك رجلا، فإذا بك تفر في أول امتحان لحبك لي. لقد تخليت عني، وتركتني وحدي أواجه غضب أمي وأبي وبقية أهلي. قلت لها، وما تريدينني أن أفعل؟، قالت، أن تقف وقفة رجل حقيقي، وتعلن أنك تحبني، وأنك مستعد لخطبتي فورا، وينتهي الأمر. قلت، لقد كنت بالفعل جبانا. )
حين وصل قدور إلى هذا المقطع من القصة التي كان يحكيها، شعرنا بأنه كان يبذل جهدا كبيرا في محاولة لمّ باقي خيوطها. لكأنه كان يحكي قصته هو شخصيا. التفت صوبه، آمرا بالتوقف الفوري عن متابعة الحكي، ومخلصا إياه من الوقوع في ورطته. قلت، كفى هذا يكفي. إن قصتك رائعة. ثم التفت إلى نجيب قائلا له، هيّ يا نجيب، لقد حان دورك. دورك محفوظ يا نجيب. أتمم القصة،واجعل خاتمتها مسكا. ابتسم نجيب متشجعا، خصوصا حين ألمحت ضمنيا في حديثي إلى نجيب محفوظ، الروائي العالمي لمن لا يعرفه، ثم بدأ في حكيه قائلا: ( الآن، في هذه اللحظة، التي أكتب فيها هذه المذكرات الشخصية، أعلن بملء صوتي، أنني لم أكن جبانا. لقد كنت رجلا حقيقيا، وأنني قد تزوجت من الفتاة التي كانت تسبح معي، وأنني قد أنجبت منها، أو على الأصح، قد أنجبت مني أربعة أطفال و طفلة، خمسة في عين العدو، وأنها قد أسعدتني كثيرا. فهي في هذه اللحظة، تقف بالقرب مني، وتقرأ معي هذه المذكرات, بالخصوص ما أكتبه عنها فيها، في حين أن بطل قصتي - لعبة الحب- كما تفضلت زوجتي العزيزة بتسميتها، كان بطلا من ورق، على حد تعبير رولان بارت، الناقد السيميولوجي الشهير، لمن لا يعرفه، لم يكن، أي البطل، في مستوى تحمل المسؤولية. أليس كذلك أيها القارئ المنافق الذي يشبهني أنا الكاتب، بتعبير الشاعر الفرنسي شارل بودلير، للذي يعرفه. ذلك الصديق العزيز الذي غادرنا في وقت نحن في أشد الحاجة إلى أمثاله. انتظرني أيها القارئ، انتظريني أيتها القارئة، سأعود إليكما بعد أن تنام هذه العفريتة. آه لقد نسيت أن أقول لكما بأنها لم تقرأ هذا الوصف الأخير لها،و إلا لكنت في عداد المفقودين الآن،ولما قرأتما قصتي الرائعة هاته. إنها ذهبت لتوها إلى الهاتف. وأكاد أسمع صوتها بوضوح، فهي ذات صوت جهوري، يخترق جدران البيت، ويستقر في الأذن رغما عنها. لعلها تحدث الآن إحدى صديقاتها الحميمات. أعتقد أنها خديجة أو على الأصح خدوج، فهي دائما تهاتفنا،في الصباح أو في المساء،في الزوال أو في الظهيرة،بل وحتى في الليل، ساعة النوم. أتصور الحديث بينهما يكاد يأخذ الشكل التالي: - تقول الأولى أي زوجتي: آلو؟ من؟ تقول الأخرى، أي خدوج: أنا خديجة. ألم تعرفي صوتي. تبادرها زوجتي بالقول: أهلا وسهلا ومرحبا. أين طالت غيبتك؟،تقول الأخرى في الدنيا مشاكلها. آه يا أختي كم أنت محظوظة، حين تزوجت بالسي نجي (أي أنا). وعند هذا الحد، أقطع حبل اتصالي الذهني بيني وبين زوجتي. إنني أريد أن أعتقد أن زوجتي سعيدة معي، على عكس صديقتها خدوج مع زوجها، وأيضا وهذا هو المهم، على عكس بنت الأرض مع ذلك الطفل الأوقيانوسي الذي سبق، أنت تحدث عنه في قصتي ndash; لعبة الحب -)
حين وصل نجيب إلى هنا، أبدينا الإعجاب به. هو سارد ممتاز للقصص التجريبية،يخلط الجد بالهزل فيها،كما يمزج في ثناياها الواقع بالخيال. قال لنا متسائلا: لقد ربحت لعبة الحكي. اعترفوا بذلك. أشرنا برؤوسنا مؤمنين على كلامه، فنهض مسرورا، وأدى ثمن المشروبات التي شربناها في المقهى، دون أن يطلب أحد منه ذلك، وذهب مسرعا إلى بيته، ليعيد كتابة القصة من جديد و ينشرها في الملحق الثقافي للجريدة التي يشتغل فيها. لكن إلى الآن لم يدعونا إلى الغذاء أو العشاء في أي مطعم من المطاعم الراقية في الدار البيضاء، رغم أن القصة نشرت وحققت نجاحا باهرا.