خرج صباحاً، توجّه إلى مقهى (صلاح)، تسعة عشر عاماً وهو ملاذُه الوحيد للبوح بالكلام / قتل الفراغ. وفي الوقت نفسه إحياء الزمن! مستمتعاً بإراحة الجسد المرهق والمُنكّأ بشظايا الحروب، بين همس الروّاد المُفعم بقوّة الحب، معظمهم : أدباء / متقاعدون / بحّارة / مفلسون...
اخترق عشرات الشوارع والأزقة الضيقة الغارقة بوحل المجاري وعتمة الغبار، ماضغاً عفونة القمامة المكوّمة بمحاذاة الجدران والمتناثرة حول البراميل الصدئة المتشققة، المركونة جنب أعمدة النور. يذرع بخطاه الدرابين تحت غطاء من سحب الذباب والبعوض، يلتهم بعينيه شرفات المنازل ذات الشناشيل الخشب، رانياً إلى الغسيل المنشور حديثاً على الحبال المثبّتة بين زاوية وأخرى، أو الذي تدلّى جهة الزقاق. يحدّق في النوافذ والزوايا، متمنياً أن يلمح وجه فتاة مشرق، أو جسد امرأة مكتنزة ترقب الطريق. ثم ينظر حيث تجمعت النساء الثرثارات بعباءاتهن الكالحة أمام عتبات أبواب المنازل، وينتبه خلال ذلك وهو يغذ الخطى للأطفال الصاخبين وهم يلعبون الكرة في ثياب رتقت بقطع قماش متعددة الألوان، وقد لوّحت الشمس شعورهم ووجوههم الشاردة. وإلى آخرين ينبشون في براميل القمامة، تتقدمهم بطون منتفخة تحدّها أضلاع ناتئة إلى الجانبين، لا يرتدون غير سراويل قصيرة بلون الطين، لطخت من الخلف ببراز ودهان. طالعهم لفترة من الزمن ثم مضى في سبيله يتمتم ويقارن الصور المتداخلة التي شاهدها في طريقة، مع التي احتفظت بها ذاكرته لسنين طويلة ماضية. وينظر للجدران الشاهقة المعوجّة المنتفخة في بعض جوانبها وقد تساقط الجبس عنها، وشوّهتها ثغور الجرذان وزخارف مستعمرات حشرات الأرضة التاريخية، ولطخات أصباغ البوية المتناثرة : كتابات ممحوّة وشعارات جافّة.... وأسماء دكاكين حرفيين وإعلانات قديمة قشرتها أشعة الشمس، جميعها متداخلة بضربات مموّهة كتبت بخط رديء على عجَل. حاول أن يتخيّل الأيدي التي ساهمت في فعل ذلك، لكنه فجأة ابتعد عن مخيّلته وذلك بتحاشيه لعربة يقودها حمار مْثقل بخزان نفط، انسلخت جلدة مؤخرتهِ بفعل ضربات التحفيز. تنحّى جانباً ليمر الحمار المتعب الذليل تحت رحمة سوط البائع. ثم عاد ليتابع خطاه من جديد في الأزقة المكتظّة بحشود الأطفال والباعة الجوّالين، يبادل التحيّة مع أحد المارّة ويسأل آخر عن صديق لم يره منذ انتهاء الحرب... والدروب تستمر في إنعطافاتها الحادة، آخذة إيّاه إلى جحور مغلقة خانقة برائحة البول والبراز. وأخرى مفتوحة تضجّ بأصوات عمال وصرير آلات ومكائن مخفيّة وراء جدران بيوت آيلة للسقوط. ومتى ما أكمل جولته المعتادة يكون قد وصل إلى المخرج المنحدر ذاته الذي ينتهي بسلّم حجري ذي ثلاث درجات متآكلة، يؤدي إلى شارع (الكويت)، فيأخذ بالنزول ببطيء وهو يراقب على مبعدة أمتار، مجاميع الرجال الصاخبين يلعبون (الدومينو) وآخرين غارقين في صمت يدخّنون السجائر الرخيصة، يجلسون على صفّي أرائك من خشب، في شبه عزلة تامة عن شاشة التلفاز الضاجّ بالأغاني والأناشيد، ماسحاً بأنظاره وجوههم الصفراء الشاحبة وقد انعكست صورها على الواجهة الزجاجية لمقهى (القاهرة). متخطياً بمشيته المشوّهة معرض الرصيف الدائم لبيع الكتب. وقبل أن يجتاز الشارع إلى الجهة الأخرى يتوقف لينظر من بعيد إلى عشرات الكتب والمجلات المعروضة.... وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، فيما بدت على تقاسيم وجهه علامات من حزن وأسى. عَبَرَ الشارع بعد أن تأكّد من خلوّه من السيارات. وقبل أن يرتقي السلّم الكونكريتي العريض المؤدي إلى مقهى (صلاح)، عرَج ليشتري لفافات تبغ من المرأة البدينة ذاتها، والتي اعتاد الاستلاف منها في حالات الإفلاس التام. وحين أخذ بالصعود بتؤدة وحذر، حاول أن يوازن جسده النحيف، فتمسّك بأسياخ الحديد النابتة إلى جانب، والتي نسي العمال قطعها وإزالتها بعد الإنتهاء من العمل. في تلك اللحظة شعر بحاجته للطعام والراحة، وتذكّر إنه لم يغتسل منذ أسبوع.
تهالك بجسده على أول أريكة صادفته، غارقاً في الغبار الخفيف المتصاعد مع حركة المارّة. كانت تبدو عليه علامات الرجل الأعزب. مرر يده على خصلات شعره المتباعدة، ثم مسّد على ذقنه الكثّة، ظاناً إن أحدهم يراقبه، ملتفتاً يميناً ويساراً، متفحّصاً وجوه الجالسين الذين بدوا له غرباء، ببنطلوناتهم الكالحة ذوات الحمالات وفروات رؤوسهم التي تكشف عن صلع دائم. كان يتابع ذلك كل يوم بتكرار ممل، لكن الآن، أو ربما قبل ذلك، رآهم يشيخون رغم دقة ذاكراتهم أثناء الحديث : (يخترقون خلال ساعات عوالم مضبّبة غابرة موغلة في القِدم، فتراهم كمحاربين قدماء، ابيضّت لحاهم وتجعدت جباههم، لكنهم يحملون النظرة الموحية ذاتها التي تنمّ عن قلق دائم وحذر!! يواصلون بحثهم تحت ركام غبار رفوف المكتبات وأروقة المتاحف. يغترفون ما تصادف أعينهم، كأنهم موسوعات متنقلة جوالة، جادة في تثبيت الزمن الملغى من تاريخ مدينتهم. وكل مساء حين يغادرون يغدون أبهى جمالاً وهم يستندون على بعضهم البعض وبينهم حديث عامر، غير مبالين بمن يحاول صدّ رغباتهم ويشكّك بقدراتهم، يتشبّثون في الضوء والظلام بحكايات الرغبة الأولى.... يتماوجون كقطرات زئبق فوق المصاطب الخشب، وإذا نهضوا تركوا البصمات الدبقة ذاتها الملطخة بالشاي ورماد التبغ. يتفرّقون في الدروب كرسوم زيتية تتلاشى عند سطوع أول ضوء حاد، تجرفهم أزقة (العشّار) المتخمة بعبق البن المطحون وبقايا رائحة الأسلاف....).
بصق ما بداخله من هموم ونهض. اتجه إلى كورنيش شط العرب. وعلى صفحة المياه اللامعة تحت ضوء النجوم الخفيف، تذكر إنه رأى شبح (عبد الله) بابتسامته المعهودة، متلهفاً يتابع بوجه متوهّج أغلفة الكتب المرصوفة بعناية على بلاطات الرصيف. وقد ارتدى حُلةً من تراب. وأيضا بجانبه (وحيد) صديقه الحميم، الذي بدا بشعرهِ الباهت وبطنهِ المستدير كمنقّب آثار يحوم بحثاً عن لُقيته. قصير القامة سمح الوجه يقلّب صفحات كتاب ويرمق البائع بنظرة مكتئبة / محمومة / تعيسة / ذات مغزى. بالطبع لم يكن بمقدورهِ أن يخمّن ما كان يقرأ. لكنه تذكّر إنه ظل يتأملهما فترة من الزمن. وبأسرع من لحظة تفكير، لمحهما يتمشيان، لم يجد الوقت ليفكر بطريقة تجبرهما على التوقف، لكن وفي لحظة يأس وعلى نحو غير مرئي رآهما يتداخلان، الكتف لصق الكتف والأيدي متشابكة!! محال.. محال.. ردّد مع نفسه وقد صعقه ما رآه. المشهد أمامهُ يتكرر، فهاهما الإثنان وقد امتزجا في بنية جسد واحد.شعر وكأنه في حلم. قال مع نفسه وموجة خيال تداعب تفكيره : (يالها من رفقة لا تعود). خيّل إليه وهو يتذكر إن شبح (عبد الله) بدا طافياً أو سابحاً فوق تيار شفيف عبر مساحة من الضوء لايحدّها شيْ، بشكل هلامي في الفضاء الرحب، مرتفعاً خفاقاً، كقطعة نسيج، بينما تباعد عنه ظل الآخر بحركة آلية خلف الجسد المبروم الذي تهدّى بمشيتهِ ثقيلاً داكناً رغم وضوح الرؤية، ضائعاً بين تدفّق المارة.
اجتاحه شعور بالحنين يمزّق الروح. عَبَر به إلى الضفة الثانية من الشط، حيث بساتين النخيل وشاخات الماء المطحلب، حلّق به في فضاءات أزمنة غابرة لأسلافٍ عظام، ما زال صدى لهاثهم يُسمع على أرض الطين. ملتمساً وبفرح طفولي إشعاعات أمانٍ صغيرة تلقي بظلالها المتماوجة على زغب المزروعات، بومضات خفيّة ساحرة تزيد من الرغبة في التعرّي والتمرّغ في الوحل، وبطفح الأشنات. الرغبة في دفن الرأس الضاجّة في صدر المرضعة الأولى وهي تئنّ بأقاصيص وحكايات (السعلوّة) و (عبد الشط) وهجرات الجراد....
وفيما كان يراقب ضفة النهر مستسلماً لهبّات النسيم، سارحاً ينفث دخان سيجارته. كان الخوف شاغلهُ الأكبر، بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والوهم، بين الماضي الخليع والمستقبل المجهول الذي سيصبح ماضياً لجيل ما. غمغم بكلمات راحت تغفو بعيداً عنه، خلف عتمة صف تماثيل الحروب، حيث قشور بذور عبّاد الشمس وعلب البيرة الفارغة والمحارم الملطخة بأحمر الشفاه ومني الرجال.. مسترجعاً أنين الوجع الحارق لشظايا الحرب : (لم تكن الصحراء قاحلة إذ ارتوت بالدماء. هكذا أخبر الطبيب تحت لعنة حقنة المخدر الفاضحة). ثم وبينما الأفكار تجول في خاطره، انتبه فجأة للشارع الذي خَلا تماماً من كل شيء.. سدّد ضربة قويّة للفراغ. ثم استلقى إلى جانب شجرة كالبتوس، مستروحاً رائحة النهر ورأسه ساخنة. كان في داخله إحساس غريب وشديد، استولى عليه بعنف، إحساس من تاه في ساحة حرب. فبدا مضطرباً تشوبه زرقة كامدة واحتقان. تحسس رقبته بأنامل مرتجفة، ثم استند إلى جذع الشجرة الضخم، متنهداً بألم ومغمغماً بصوت متقطع : (لا.. لا. لا أعتقد.. يقولون الحرب لعنة.. مدافع.. دبابات.. قتلى.. لكن لا.. لا أعتقد.. بعضهم يقول.. بعضهم)، أخذ يهذي ويصيح وقد تغيرت نبرة صوته، فيما عيناه اغرورقتا بالدموع، عض على شفته السفلى وهو يرتجف ويفرك وجهه براحتي كفّيه، ويسبّ ويشتم ملتفتاً حواليه، مستغرباً الأنوار الكاشفة التي سلّطت عليه فجأة وخلفها رجال ذوو أجساد ضخمة مدجّجين بالبنادق الرشاشة والهراوات..

البصرة
[email protected]