فصل من رواية

شارع طويل منسّق مشجّر. على جانبيه ما يقرب من ثلاثمائة بيت. الارقام الزوجية على جهة اليسار والفردية على الجهة المقابلة. المساكن مـنـتظمة صنعها مهندسون طبقا لتصاميم وموافقة البلدية المحلية لتتتقارب بالوانها وشبابيكها وحدائقها والمساحة. إلا أن مَنْ يسكن هذه البيوت أناس مختلفون في البشرة والعادات والأديان. بينهم االسكان الاصليون البيض من الجزر البريطانية ومعظمهم من اصحاب الشعور الشقر والعيون الملونة، وقربهم الباكستانيون، الكوريون، الإيرانيون، الافغان، الهنود، الجزائريون، ومن بنغلاديش وجامايكا وغيرهم، مختلفون في رائحة ونوع أطعمتهم، سمرتهم، سوادهم واصفرار وجوههم وعيونهم الداكنة. جاء هؤلاء من مواقع مضطربة متقاتلة في بلدانهم. يحميهم القانون البريطاني الآن، يجعلهم أكثر وعيا بمخاطرالاعتداء على الغير. يصبحون عبرة لمن اعتبر في حسن السلوك واتباع النظام، مؤكدا ضرورة التحمل والتساهل في فروق البشر، ليصبح الاختلاف الظاهر في الشارع شيئاً طبيعياً بامتياز. التنوع محبب، كاختلاف المناخ والتضاريس والفواكه وبقية المحاصيل الزراعية على الكرة الارضية. قسم من هؤلاء الناس ولدوا ببريطانيا، جاؤوا منذ الخمسينات من القرن العشرين للحاجة لهم كأيدي عاملة بعد انهماك أوربا في تخريب مدنها وقتل سكانها في الحرب العالمية الثانية، مدركة قيمة التعقل والحكمة بعدها، متحاشية الحروب على أراضيها ما أمكن. اضطرت، أثناء ذلك، إلى جلب أجداد هؤلاء من مستعمراتها لاستخدامهم في المؤسسات الخدمية العامة لنقص الايدي العاملة بسبب ما جرى. القسم الآخر تدفق على الدول الغربية بكثافة مؤخرا، وبضمنهم بريطانيا، التي استعمرتهم سابقا واشتكوا منها وحاربوها بشتى الطرق للخلاص منها. لكنهم عادوا اليها، بخفي حنين، بمحض رغبتهم متـناسين الأمر، غير مهتمين بتذكر الماضي.
بهذا الشارع اللندني طالعت لمياء الرسالة المرسلة على عنوانها الالكتروني في غرفتها المنعزلة بمزيج من الاستنكار واليأس اللذين يصيبان عادة مَنْ يكتشف، كمفارقة مؤلمة، أن الخلاص من شرّ الاستعمار ورذائله، و من ثَمّ نشوء دول مستقلة، كما هيئ للبعض، ليس كافيا. الواقع لا يرحم. يثبت دائما، أن البشر في دواخل نفوسهم متشابهون وعيوبهم واحدة، سواء أكانوا من المستعمرين أو من أبناء البلد بالذات، وما قيل من أن كل نفس أمارة بالسوء صحيح. تشكوالمرسلة الأفريقية المجهولة على شاشة الكومبيوتر ما جرى لها في بلدها بطريقة مؤسية:

من الآنسة أيما أحمد كيكو
Ema 76 Ahmed @ Yahoo.com

تليفون: +
071357218812

أعزائي

من فضلكم لا ترتبكوا أو تشعروا بالإساءة حين يكتب لكم إنسان غريب. في هذه اللحظة من حياتنا، لم يبق لدينا سوى حل البحث عن مساعدة. على أية حال، أقدم تلخيصا لمحنتنا الحالية: أنا الآنسة أيما أحمد كيكو. عزباء، ابنة المتوفى د. أحمد كيكو، التاجر بالماس والذهب في عاصمة ليبيريا , مورافيا، الذي اغتيل أثناء الهجوم عليه قبل شهرين، في مقر عمله من قبل زمرة مسلحين واحتلالهم لمنزلنا مباشرة. بعد ذلك، اضطررنا للخروج أنا وأخي إلى ساحل العاج، حيث نسكن حاليا. قبل وفاة والدي كان يحتفظ برصيد ضخم في صندوق ادخار في شركة مالية خاصة يقدر 00. 000 156. مليون دولارٍ. نحن نعرف أن الرصيد مودع باسم عائلتنا كميزانية ثمينة دون ذكر الرقم أو نوع الوديعة. معناه أن هذه الشركة المالية لا تعرف شيئا عن محتوى هذا الصندوق ما عدا كونه وديعة خاصة بنا لاسباب أمنية.
الآن، يا أيها المحسنون، نتوسل اليكم أن ترأفوا بنا لمساعدتنا للمطالبة بتحويل المبلغ إلى بلدكم، حيث الاستقرار السياسي من أجل أن يكون الاستثمار حكيما من أجل مستقبلنا. نحن لا نستطيع العودة إلى وطننا بسبب الحرب المستمرة بين مجاميع من أفراد الشعب ورؤسائهم. نناشدكم أن تساعدونا من أجل عمل مربح لكلينا. من جانبنا سنكون مستعدين للالتزام بأية قسمة نزيهة وعادلة فيما بيننا. نرجوكم أن تردّوا على رسالتنا اليكم أو الاتصال بنا هاتفيا على الرقم أعلاه من أجل معلومات أكثر حول طريقة تحويل المبلغ اليكم. كما أرغب في معرفة عنوانكم المصرفي ورقم حسابكم بالاضافة إلى رقم هاتفكم كي نتمكن من الاتصال بكم بين فترة وأخرى من أجل التأكد من الوضع وسير عملية تحويل النقود.
شكرا لإصغائكم، يحفظكم الله أثناء قراءة هذه الرسالة، ونحن في الانتظار.

المخلصة

أيما أحمد كيكو

لا يكفي هياج الفضائيات العريبة ووسائل الإعلام العالمية المختلفة المتنافسة على نقل صراع العالم الأزلي، موزعة الاتهامات هنا وهناك لتعرفها لمياء وغيرها بشكلها المرعب المفضوح، بل وصلت أهوال ما يجري في مورافيا إلىغرفتها الهادئة، المنعزلة. ما علاقتها؟ ما عادت قادرة على السيطرة على إيقاف من سيدخل بيتها عنوة. بيتها مقفل، لا يدخل إليه إلا بالاستئدان، لكن هناك من يدخل غصبا بسبب الآت عصرية حديثة، إما عن طريق الكومبيوتر أو الشاشة التلفزيونية أو الهاتف وغيرها. أين أخبار المقهى وسمار الليل الوديعين مقارنة بها. تذكرت قصص من تأتيهم مكالمات هاتفية تهددهم وتخيفهم. أخرى تعلن على الشاشة استعدادها لبيع حبوب الجنس أمثال (الفياجارا)، أو تظهر أجساد نساء عارية رائجة. استفزازت، مبالغات، تشجيع وتعليقات وصور كاريكاتورية تزيد من هياج المتطرفين والمحرومين جنسيا والغوغاء لتعم الفوضى في العالم كله وكأنه، كما يقال اليوم صار فعلا قرية صغيرة، لكنها بعيدة عن هدوء الريف وسلامه.
ستخبر زوجها عماد، حين يعود مساء، أثناء حديثهما العابر، وقبل أن يجلسا لمراقبة التلفزيون، كجزء من الروتين، ما جرى لها ذلك النهار، ستذكر عرضا، ما جرى لـ د. أحمد كيكو في مورافيا (عاصمة جمهورية ليبيريا، يقال إنها كانت من اوائل الدول المستقلة الافريقية، في الاربعينات، إذا تتذكر). كيف اغتيل من قبل مسلحين في مكان عمله. لقد وصلت أخباره اليها عن طريق رسالة ابنته الألكترونية ودعوتها لتقاسم ملايينه المدّ خرة. تتوقع أنهما سيمران على الموضوع مرورا سريعا هازئا. إضافة، لم تعد تستوقف البعض الأخبارالمرعبة منذ فترة. الاعتياد على تكرارها في وسائل الإعلام، المرئي والمسموع، ساهم كي يجعلها شربة ماء دون غصة. لم يسبق أن تبلدت المشاعر في عدم الاكتراث لما يحصل من رعب بعيد كما يحصل حاليا. لم تعد تفزعهم قسوة في رؤية جثث مدماة، أو همجية سيارات مفخخة في الأسواق والشوارع العامة بين الأبرياء. أحيانا يدمدم البعض يائسا متذكرا تأريخ الغيرة والتنازع على المال والسلطة في البشرية منذ القدم مختصرا العلة برمتها، مبرئا ذمته، بسوء طويةالإنسان. ضغطت على آلة الطابعة لتخرج رسالة الكومبيوتر على الورق ببساطة نقل تفاصيل طبخة طعام معينة. تأخذها لأختها (نهى) في شقتها القريبة. الفضول لا أكثر كان يحثها على الذهاب. استرجعت في الطريق ما مرّ بها يوما، مصممة على رمي الرسالة الجديدة في سلة المهملات في أقرب فرصة كما رمت الرسالة من قبلها.
باكرا، كان ساعي البريد يقرع باب البيت بالحاح. هرعت لتفتح له. أراد توقيعها بالذات. الرسالة مسجلة وقادمة من ديار أخرى. أمر في غاية الأهمية. من دون تفكير أوتردد احنت رأسها على دفتره لتوقع. أخذت الموضوع جديا، مبرهنة على حسن النوايا ليطمئن ويتأكد من وصول الرسالة لأصحابها وكون العنوان صحيحا. بمجرد انتهاء الأمر وإغلاق الباب، بدأ الخفقان في قلبها. شرعت نظراتها تتقافز على المظروف الكبير نسبيا. لا شك ذهب الخيال بعيدا، إلى أسوأ الاحتمالات. إلى مصائب العراق. من مات من أهلها ليخبروها. استوقفها حجم المظروف، المزين من خارجه بالخرائط الملونة والتضاريس للكرة الأرضية التي نعرفها. على مهلك، أجلسي، هذا موضوع آخر. وجدت مقعدا قريبا منها فقعد ت. ابتدات قراءة ما بداخله بعد أن فضته بسرعة. لم تفهم شيئا في البداية. عبارات ترطن مكتوبة بلغات مختلفة تجهلها. فتشت عن العربية أو الإنكليزية فوجدت الأخيرة من ضمنها. غفلت ببراءة عن عالم الساعة المملوء بالرعب والإيذاء والضغينة والدجل. لم تطل حيرتها، قفزت من بين الكلمات كلمة لها رنين جذاب في إذنها: (يانصيب) بالعربية، Lottery بالانكليزية، وبالاسبانية Loteria. مكتوبة، بمقدار حدسها، أكثر من مرة بكل اللغات الموجودة على الورقة بالوانها المتـنوعة. طيب، استمرت في البحث الدؤوب بين الكلمات كما ينقب الطامعون في مناجم الذهب عن المعدن الثمين. لم يخبْ أملها. تسارع نبضها بعد أن تبين أن الرسالة من مكتب المدير العام لمؤسسة اليانصيب العالمي.(فرحة). كانت مبعوثة لاصحاب الجوائز المعلنة مؤخرا. (ودي عايزة كلام) إفتح يا سمسم، تقول لها. انبسطت اساريرها:
quot; في يوم 5 ابريل 2003، وبعد فرز عملية سحب اليانصيب بمدريد، ظهرت النتائج أن البطاقة الآولى الفائزة هي المرقمة 121-55-673-12 العائدة لاسمها وقد فازت بالحظ السعيد المقدر بجائزة مقدارها 715.810.61 (أي سبعمائة وخمسة عشر مليون وثمانمائة وعشرة الآف وستين يورو) لا غير، بالتمام والكمال، رددت لمياء في سرها، متفهمة عملية دقة الحساب عندهم. أكملت قراءة الورقة بشوق والرسالة تقول إن المبلغ المذكور محفوظ لها وهو في ذمتهم الآن في شركة تأمين للحفاظ عليه. (حسنا تفعلون خوفاً من عصابات سراق البنوك). تطلب منها الإسراع للمطالبة به باسرع وقت ممكن، أقصاه لا يتعدى تأريخ 20 من حزيران القادم سنة2003، ليتم تحويله لها على رقم حسابها بالبنك الذي يطلبون منها ن تبعثه لهم بسرعة. (كل شئ سريع، سريع)
كي تبدئي المطالبة بالمبلغ (يرشدونها) عليك الاتصال بوكيل الطلبات ريكاردو كارلوس على تليفون
(0034) 611.193. 862
وفي حالة عدم المطالبة به سيسقط حقك بالجائزة وتذهب النقود إلى المؤسسة المذكورة. بمعنى آخرستذهب هباء منثورا بالنسبة لها. هناك بعض التوصيات المقبولة والمعقولة في نظرها انتبهت لها، فقد طلبوا منها ألا تفشي سّر أمر هذه الجائزة الثمينة حتى يتم التحويل لحسابها (نعم). انتهت الرسالة ذاكرين أن جميع الفائزين اختيروا عن طريق نظام الكومبيوتر من بين 25 الف اسم من آسيا واستراليا واوربا وشمال أميركا وجنوبها في برنامج عالمي يقام كل عام عندهم. (لافض فوكم، حقا أشراف).
قرأت الرسالة أكثر من مرة، وفي كل قراءة تطمئن على سير الأمور عندهم، أما عندها فقد توقفت قدماها عن السير، صارت أجنحة. ماذا تستطيع أن تفعل بعد امتلاكها كل هذه الأموال الطائلة. كيف ستتصرف بها ولمن ستوزعها؟! تستعيد ما ذكر عن (حصة) في ناحية الزبير بمدينة البصرة بالعراق فرثت لحالها. كانت تغبط امرأة أخرى اسمها (كماشة)، تعدد البذخ والثراء لديها من شدة الغيرة منها، قائلة للجالسين حولها من شدة الحسد: quot;كماشة، ببخت وتخت، جالسة على الكرويت (التخت) تقسم البطاطيخ (البطيخ) على اللي تبغيquot;. في الأربعينات، مسكينة، كان البطيخ هو الفاكهة الوحيدة التي تنمو في تلك المنطقة الصحراوية الجافة، قبل أن يكتشف الغربيون النفط فيها. ما علينا!

لسبب أو لغير سبب كانت لمياء تغني في مطبخها أما الآن فقد اشتد الغرام بها. لم يبق سوى سويعات ويأتي عماد لتخبره بالمسألة المتعلقة بملايينها المكدسة المنتظرة، ستتعلق بعنقه مكثرة من القبلات، تحثه أن يفكر بترك التدريس فورا، يتخلص من زميله اللجوج المكثر من الاهتمام والمنافسة معه على معرفة قواعد اللغة العربية. أي لغة، أي بطيخ! تضحك في سرها.

التنظيف ستمارسه لآخر مرة في بيتها، لا حاجة للتعب، غداً ستجد عنوان الوكالة للخدمة بالبيوت فتتصل بها. الطبخ، ما رأيها به؟ هل ستجلب طباخا أم تفضل امرأة طباخة؟ كلاهما واحد في موقفها منهما الآن، لا داعي للتمييز بين الجنسين، المشكلة أن كليهما لا تثق بنظافتهما، تصوروا المأزق!
أكل المطاعم لا يستهويها أيضا، كيف ستتصرف إذن؟ الأثرياء مغرمون بها. مشاكل ستحلها بالتدريج لاريب. لا داعي للقلق. المهم، عليها الاسراع باخبار أختها نهى بالرسالة المدوية. اختها ناوية على كتابة رواية مهمة عن حياتها ومعاناتها بالعراق وبلندن، مهمومة دائما، تفتش، كما تقول، عن مطلع لها. ليتها تتمكن من كتابة روايتها بالنقود، وهي الآن صارت متوفرة.
فكرت لمياء بكل ذلك لكنها أهملت سؤالا مهما. كيف عرفت دائرة اليانصيب بمدريد باسمها وعثرت على عنوانها. لم تفكر بالأمر مطلقا، بل لم تنتبه له. ألقته سريعا وراءها. هل اشترت بطاقة يانصيب عندما زارت صديقتها (جمانة) الساكنة بمدريد العام الماضي؟ موضوع لا يكوّن مشكلة، يكفي أنها رأت باعة اليانصيب المتجولين في العاصمة الأسبانية، يحثون المارة وهم يتصايحون من أجل إغرائهم: quot; هلموا لتجربة حظوظكم، اشتروا بطاقة منا، فيها الحظ السعيد quot;. لا تتذكر بالضبط ما جرى آنذاك، هل ضعفت أمامهم واشترت بطاقة؟ على أية حال لن تتوقف طويلا هنا، مجرد التفكير بالموضوع يسبب صداعا. النقاش مع زوجها مساء سيحسم كل شيء. ستتصل بصديقتها بمدريد تخبرها بفوزها بالجائزة الأولى، من يدري ربما ستعطيها هدية مناسبة من المبلغ على شكل حفنة نقود محترمة, كل شيء يأتي في وقته، صار شعارها، ما دامت الملايين موجودة بانتظارها. لم العجلة حول أمور شكلية سطحية.
خرجت من باب البيت مسرعة بسبب المطر اللندني الذي لا يعرف حرمة، غير عابيء بالغني أو الفقير، كلهم سواء عنده، يتساقط على مدار السنة على رؤؤس الناس. كفكفته بيدها، متذمرة، قبل أن تدخل سيارتها القديمة الواقفة طراز فورد الزرقاء. أوه، أنتِ مرة أخرى، سأبدلك قريبا، تحلفتْ بها. هيا على الفور، متجهة إلى غايتها.
لحسن الحظ كان بيدها مفتاح احتياطي لشقة نهى. أخذتا الحيطة منذ مدة لمثل هذه الحالات، فلطالما جاءت الواحدة للأخرى لتجد الباب موصدا ولا من مجيب في الداخل لغيابها. فتحت باب الشقة التي اعطيت لاختها من قبل البلدية كلاجئة لاسباب انسانية. استقبلها زمهرير غرف يميل أصحابها للاقتصاد في استخدام التدفئة بالغاز أو الكهرباء. انكمشت وحدها على كنبة ملحاء قبل أن تتحرك هنا وهناك بانحاء المكان. تطلعت إلى المنضدة المملؤة بالدفاتر والاقلام. تنتشر فيها قصاصات فيها تعليقات نهى، أخرى مقالات أغلبها من الصحف اليومية، مقصوصة بعناية مع بعض رسائل قديمة من أمها وأخيها ببغداد. خطر فجاة ببالها أن تشتري شقة لاختها أفضل من هذه في أقرب فرصة. تتخلص من كونها لاجئة تتصدق عليها الحكومة البريطانية بالإعانات الإجتماعية. ستسألها عن رأيها فيما إذا أحبت أن تسكن في أية منطقة ثانية أو حتى دولة راقية كسويسرا مثلا كما يفعل الآثرياء على سبيل المثال.
ارتاحت لمثل هذه الأفكار. كيف ستقضي وقتها حتى عودة نهى من الخارج. أين ذهبتْ؟ تفتش عن عمل؟! ذكرت لها مرة أن السلطات البريطانية تلح على اللاجئين في هذه الأيام كي يعملوا بدلا من أن تدفع لهم مخصصات مجانية. هذه مسألة ستحسم فورا أيضا. النقود ليست مشكلة من الآن فصاعدا. بدأت بمطالعة الرسائل القديمة بروح أخرى تختلف عن نفسيتها السابقة. كان امها واخوها يبعثان الرسائل لهما بيد أصدقاء، خوفا من أن تقع بيد رقيب البريد الرسمي أثناء نظام صدام حسين. يشتكيان فيها، كل مرة، أنهما بصدد بيع البقرة، والجميع يعرف أنهما يقصدان بيع بيتهما ودفع المبلغ لأحد الذين يبيعون الجوازات الأجنبية بالعراق سراً من أجل الهجرة والسفر ألى بلد آخر، كانت الرسائل تقول إن أية بقرة ثانية نشتريها ستكون أفضل من البقرة الموجودة عندنا، كونها ناشفة الحليب، كثيرة الأكل، أوساخها جمّة في المكان، لا تكف عن الخوار. تضحك لمياء ونهى، غصبا عنهما، من اسلوب حيلة وصف العراق في تلك الرسائل. يفسران الكلمات بدقة. ناشفة الحليب معناها الفقر، كثيرة الأكل يقصدان الفساد والرشوة. أوساخها جمة يقصدان تصاويرالحاكم والصحف المنافقة له في كل مكان، أما موضوع الخوار فهو لا شك الخطب الرسمية الرنانة. أية اساليب يبتكرها المرء، أحيانا، للنجاة بنفسه. لا بأس ستحقق لهما رغبتهما من دون الحاجة للبيع والشراء، ها قد خصصت أكثر من ثلاثة ملايين دولار لهما، كأول دفعة.
أثناء هذا كله نسيت أخبارالإذاعات والفضائيات المتكررة التي تعدد كل يوم ضحايا قتلى سقوط نظام صدام بفترة. معقول يأتي يوم لاتسمع فيه شيئا عن أخبارالعراق. يصبح دولة عادية مستورة دون عراك أو ضوضاء مثل البيوت المحترمة في المحلة. وكما يقال هنا: (لا أخبار معناه أخبار سارة). بدلا من: انفجرت قنبلة بالباب الشرقي ببغداد. هاجم مسلحون جنازة شيعية فقتل ثلاثون من المشيعين. انتحاري يفجر نفسه في سوق شعبية. سيارة مفخخة قرب مسجد للسنة، قنبلة سقطت على كنائس المسيحيين البارحة. على أية حال، الحزن له حدود، خصوصا في مثل حالتها بعد أن ربحت اليانصيب، شكرا.
أمسكت سماعة الهاتف نافذة الصبر لا تتحمل الوضع وحدها، لقد تأخر عماد اليوم، أولادها أنهوا العشاء، انشغلوا في شؤونهم. لم يبق إلا التفكير بأمرها. ستصبح ثرية فجأة. شيء يسرها ويقلقها، لا تدري ما ستفعل كعادة الملياردية، كما تسمع نتفاً عنهم من الآخرين. حسمت الموضوع حين ُرفعت السماعة من الجانب الآخر. اختلفت اللهجة. مدريد حيث تسكن صديقتها(جمانة) صارت بالنسبة لها مكاناً محبوباً دافئاً. عليها إيصال اخبارها الأخيرة إليها بالتدريج، لكن بسرعة. لا تعرف كيف سيكون وقع الخبر عليها. كعادتها، (جمانة)، تريد معرفة آخر ما جرى بالعراق مؤخرا. تسحب البساط عنها متوجهة للأخبار المؤلمة المحزنة، تذكرها بجرائم لا يعرف من يقوم بها كونهم غامضين ملثمين أو بوضع قنابل على جانبي الطريق للإيقاع برجال الأمن والمارة. ناسية طعم الأخبار السارة منذ زمن طويل، بعد اختيارها حياة المنفى قبل ربع قرن. إنتبهت لمياء للفخ، كانت تريد أجوبة وليست أسئلة حائرة، تريد أفراحا تقشع غيوم الكدر. أنتقلت بشكل حيادي وهدوء متكلف لموضوعها المفضل اليوم. حاذرت اندهاشها المباغت، ممثلة الوقارالمتصنع، تعلمها عن تسلم رسالة بالبريد اليوم من مدريد. صمتت (جمانة) تصغي لها، تريد المزيد، منتظرة. استأنفت لمياء الكلام ذاكرة أن المرسلين يطلبون منها ضرورة الاتصال بهم بسرعة. تبين أنها فازت بجائزة يانصيب كبرى. الأولى، تصوري! صارت تصرخ وتقفز محتضنة سماعة الهاتف كطفلة تحتضن لعبتها. نسيت التمثيل كلية.
صعدت حرارة الكلام بين الجانبين، كلتاهما بين شد وجذب. الرغبة المفهومة الآن بين الاثنتين هي في معرفة تذكر متى اشتريت البطاقة، لا بأس بالتخمين، لكن الطامة الكبرى حين ذكرت لمياء رقم الهاتف الموجو د في الرسالة من أجل الاتصال بالمرسلين في اسرع فرصة لإعطاء رقم حسابها في المصرف من أجل تحويل النقود إليها، فاجأتها (جمانة) بالتحذير من الجانب الآخر بحدة مدراء المدارس الحازمين مع تلميذ مهمل:
ـــ إحذري، إحذري، الرقم يبتديء بعدد 6 لا يستخدم هنا إلا في الهواتف النــقا لة، لا يعرف مكان اصحابه. هذه تكنولوجية حديثة. إحذري التورط.
ــــ أنت تضحكين معي.
ــــ أنا أبكي، هؤلاء أناس محتالون، دجالون منتشرون في جميع أنحاء العالم الآن بسبب سهولة وسائل الإتصال بالتقنية العصرية، يشترون العناوين من شركات متخصصة. يريدون معرفة رقم حسابك بالبنك من أجل أغراضهم، استخدامه من أجل ما يسمى بـ (غسيل الأموال)، جاءت معظمها نقداً من بيع المخدرات، أو سرقة ساسة فاسدين لأموال شعوبها، معظمهم من شعوب العالم الثالث، تجار سلاح يؤججون بؤر التوتر في العالم باساليب شتى، كما نرى ونسمع. لقد فضحتهم الصحف هنا قبل اسابيع. إحذري. لا تبعثي رقم حسابك أبداً لهؤلاء.
ــــ ومن هم هؤلاء؟ ألم يقبض عليهم؟
ــــ لا بل وجدوا قسما من العصابة، بعضهم من أميركا اللاتينية واميركا الشمالية، آخرون من شمال أفريقيا وجميع أنحائها، من مناطق الشرق الاوسط، بضمنهم اسرائيل، قسم من شرق آسيا ووسطها.
ــــ تقصدين من جميع أنحاء العالم؟
ــــ بالضبط، يتفاهمون بسرعة فيما بينهم. النقود لا تحتاج لغة. إنها اللغة العالمية الوحيدة الباقية لبني البشر أينما كانوا. يقتلون من أجلها ويتقاتلون.
أتهزل أم تكون جادة بعد ما حصل؟ انقذتها سخريتها في اللحظة الأخيرة. قالت كمَنْ يغيّر موضوعا طارئا بالمزاح العابر:
ـــ بالمناسبة، لمِ نستغرب، إذن، من الذين يلطمون على صدورهم.
بدت معاتبة متضاحكة. لحسن الحظ، لم تكتشف صديقتها ما جرى من اضطراب في اعماق روحها الهائجة في الامتحان. كيف تعاملت مع النقود الرابحة. مقدارأنانيتها في التفكيربنفسها وأهلها وأصدقائها فقط. أغلقت الهاتف مطمئنة كون التكنولوجيا الحديثة حتى اللحظة، لم تكتشف وسيلة لفضح احلام اليقظة أو المنام. ارتاحت، رغم غيظها وانزعاجها، كونها تستطيع الاحتفاظ بأسرارها الخاصة. عادت لحالتها السابقة مع شعور غريب مفاجيء بالاطمئنان. رجعت، على الأقل، لطبيعتها من دون ربح أو خسارة.