رسالة الابن الى ابيه

ابي العزيز،
تحية ذكرى وشوق،
رغم موتك منذ اعوام طويلة، اعرف انك قادر على سماعي وقراءة رسالتي هذه. اتتذكرني.. انا ولدك الطيب المشاكس. اود فقط يا ابي ان ابشرك، بأني بدأت اسامحك. ها انا في اعوام النضوج، بدأت ادرك سر قسوتك معي. كل ما كنت تكيله لي من عذابات، كانت في الحقيقة بعضا مما تلقيته انت من عذابات الاهل والزمان. كنت فيما مضى، عندما انظر لاثار ركلاتك وصفعاتك وحروقك وشتائمك ومذلاتك، في نفسي وبدني، كنت ابكي يا ابي، ابكي حزنا على نفسي. الآن انا ايضا ابكي، لكن ليس من اجلي انا بل من اجلك انت، لأني عرفت انك عندما كنت تعذبني كنت بالحقيقة تعذب نفسك التي لم تعرف غير الحقد والاذلال. اعرف انك كنت تحبني، وكنت تبكي الما بعد كل حفلة عذاب واذلال تعرضني لها. اعرف يا ابي اني كنت احب ابنائك لك، ولهذا كنت اكثرهم تعرضا لعذابك.
لقد اخبرني اهلي، انك في آخر لحظات احتظارك على فراش الموت، كنت تردد اسمي شوقا واسفا لان مجاهل المنفى قد سرقتني منك، ولم يتح لك الموت ان تعتذر مني وتشرح لي سر عذاباتاك.
الآن ادرك يا ابي، ان تعذيبك لي نابع من عذابك انت. نحن سلالة حقد يا ابي، اليس كذلك؟ اتذكر، رغم طفولتي، كنت ادرك انك كنت تنزف سيولا من العتاب المر لابيك الذي كان مثلما انت معي، لم يرحمك، وهو بدوره لم يتلقى رحمة من ابيه. كنت، بعد ان يهدأ غضبك، تناديني، تعتذر لي، وتغسلني وتداوي ندباتي وتقدم لي الطعام، ثم تنشج بغناء جنوبي حزين يجعل الدموع تترقرق في عينينك.
نعم يا ابي، كنت بحقدي عليك، مخلصا لك، بحقدك انت على ابيك، الذي كان هو ايضا مخلصا بحقده على ابيه. نحن كما ترى يا ابي، سلالة وفية لحقد وعذاب واذلال..
عرفت يا ابي، ان جدي الخامس، في القرن الثامن عشر، هو اول من اول اسس سلالتنا اللعينة: كان شابا متمردا يعيش في البصرة، وقد قتل ابيه خطأ، في لحظة غضب، بعد ان رفض ان يساعده على الزواج بحبيبته التي تزوجت غيره. اصيب بلوثة من الغضب على الحياة ومشاعر اثم ضد الذات وضد كل ماهو عزيز. هرب الى اهوار العمارة، وهناك دخل في خدمة الشيوخ وعاونهم في اضطهاد الفلاحين، حتىاصبح (ملا) و(تاجر حبوب) وتزوج العديد من النساء،وخلف عشيرة من الابناء والاحفاد.. لكن حقده على ذاته، كان يجعله يحقد على ابناءه، وخصوصا على اقرب ابناءه له. هكذا تكونت سلالتنا..
هذه هي سنة الحياة، احفاد يتوارثون الحقد عن اسلاف عاشو الحقد.. كما هناك على الارض، ثمة احفاد يتوارثون الحب عن اسلاف عاشوا الحب..
امضيت السنوات وكان اشد ما كان يرعبني يا ابي ان اكون شبيهك، وريثك في الحقد على الذات والحياة. انت هجرت اهوار الجنوب وعشت في بغداد، وكان حقدك على ابيك هو محركك في الحياة. اصبحت عسكريا وامضيت عمرك متنقلا من حرب الى حرب. وعندما هدك العمر، افتحت حانوتا بائسا ورحت تمارس حربك على ابناءك، وقد اختارتني الظروف ان اكون خصمك الاول وصار بدني وروحي محط حقدك واذلالك.
اما انا يا ابي، فمثلك، هجرت مستنقعات الوطن، متاهات بغداد ومأوى حبي الابدي، ورحلت الى اوربا. وامضيت العمر وانا اكافح كي لا اكون مثلك. لكن ذلك الحقد الذي ورثته عنك، كان هنا في كياني، مشتعلا في كل خلية من روحي وبدني، وفي كل ذرة من وجودي.. حقد دام مجنون منفلت بلا حدود، مستحوذ علي مثل عفريت عملاق يخنقني بكفيه بلا رحمة.. نيران الحقد المكبوت هذه، كانت تحرق بي انا، كانت تعذبني.. آه يا ابي، لو تعرف،هنا في اوربا، بعيدا عن اهوار عذابك وبغداد خيبتك، كم جاهدت واستزفت وذرفت الدموع لكي اترك حقدي في داخلي. كانت اخبار الوطن، كوارث الحروب واحتضارات الحصار، نفطا يصب على نيران حقدي. كنت اصرخ واصرخ واصرخ متمرغا في الارض لكي امنعه من ان ينفجر ضد اعزائي. كان الليل عندما يحل، تحل معه اشباح ماضي وذكريات آلامي معك، فكنت اخاف من نفسي على نفسي، ومن دون تفكير، كنت اهرب، اهجر الاهل والاصحاب، اثمل واتسكع وحيدا حزينا في الحانات، وعندما احس بالحقد يتصاعد الى حدوده القصوى، كنت ارقص وارقص. لقد خضت جميع حروب اسلافي، قاتلت غزاة تاريخي، خنقت بيداي هذه اعظم الطغاة والجبابرة، نزفت تحت انظاري حشود لا تحصى من الضحايا، وعلى صدري الحزين ذرفت دموعها حشود من العشيقات والاحبة.. كل هذا كنت اعيشه في باحات الرقص، وحيدا مع حقدي، بعيدا عن اصدقائي واحبتي، لكي اجنبهم حرقة نيراني.

* * *
ولكن يا ابي، بعد تجارب العمر هذه، اود ان خبرك بالم وخجل، اني قررت ان اخونك، اخون سلالتي، سلالة الحقد تلك..
قررت ان اتمرد عليكم.. ان اخلق سلالتي الجديدة، انا وحدي بعيدا عن حقد الاسلاف وعذاباتهم واذلالهم. قررت ان اخلق حب مستقبلي من حقد ماضي.. ان انبت شجرة حبي لاحفادي، في ارض حقد اسلافي..نعم يا ابي، اقسم لك بحقدي الاصيل ضدك، بأني منذ الآن فصاعدا سوف اخلق سلالتي حبي الازلية.
اعلم يا ابي، ان هذا القرار لم يأتني هكذا فجأة، بل توصلت اليه بعد معانات وحشية كادت ان تؤدي بحياتي. هنا في منفاي في اوربا، قد امضيت اعوام التسعينات جميعها، في متاهات من الجنون المكتوم. حتى بلغت العذابات ذروتها حين بدأ ذلك المرض الخطير يجتاح كياني ويتركز في حنجرتي. كم هي مسكينة حنجرتي، كم تحملت من حرقة صرخاتي، حشرجة غضبي، حمحمة حسراتي، عذابات انفصامي بين نفسي المتمردة وعقلي المؤدب. بقيت سنوات وانا اواري بحة حنجرتي واعلل الامر بأنه علة عابرة.. حتى اتي اليوم الذي اضطررت فيه مواجهة تلك الحقيقة المرعبة: ( سرطان الحنجرة)!!
حينها فقط، ادركت الحقيقة التي امضيت السنون الطوال وانا اهرب منها:
ـ اما ان اواجه حقدي واتقبله وادجنه مثل حيوان متوحش.. اما ان اتركه هكذا يجول ويصول في دواخلي حيث تمكن من القبض بمخالبه على حنجرتي بهيئة سرطان لا يرحم.. وهذا يعني لا محالة موتي المحتم..
لم يكن امامي غير ان استعين بتلك الطاقة الجبارة التي كنت استصغرها بسبب اختباصي بحقدي:( طاقة الحب..).. كما نستعين بالمياه لاطفاء النيران، قررت ان استعين بالحب لا طفاء الحقد. وإن نجحت ان اطفأ نيران الحقد يقينا حينها ستنطفئ معها نيران السرطان المتأججة في كل بدني ومتمركزة في حنجرتي.
عرفت ان مشكلتي، اني كنت افكر فقط بمحبتي للآخرين.. اما انا نفسي ذاتي، فكنت اتركها ضحية لحقدي.. كنت اعتقد ان توجيه نيران حقدي ضد ذاتي هو السبيل الوحيد لتجنب احبائي هذه النيران. لكني بعد اكتشاف المصيبة فقط ادركت ان هذا كان نصف حل، وها انا اواجه نتائجة المميتة. ان الحل الحقيقي، يكمن بمواجهة الحقد كله، بطاقة الحب كله، وخصوصا حبي لذاتي وحبي للحياة بأكلمها. فمن دون حب الذات لا يمكننا ابدا ان نحب الحياة ومعها احبتنا وناسنا. ان التضحية بالذات، لا بد ان تنتهي بالتضحية بالحياة ومعها ناسنا واحبتنا. فما معني محبتي لاهلي وناسي، إن كنت سافقد حياتي؟! ان محبتي لناسي تقتضي حبي لذاتي، كما حبي لذاتي هو مدخل حبي للناس وللحياة.
بالتدريج قادتني هذه الحقيقة، الى حقيقة خفية كانت من شدة الوضوح اني لم انتبه لها: ان حقدي كان موجها ضد ذاتي، ليس فقط بدافع اخلاقي حبا بأحبائي، بل لأني في اعماقي، كنت اعتقد بأني مجرم آثم، وأن كل عذاباتك يا ابي التي كنت تصبها على كياني، كانت بسببي أنا.. أنا الجلاد ، انا حمال الخطيئة الاولى ومسبب عذاباتك يا ابي، واني كنت استحق عقابك واكثر.. نعم يا ابي، ان جريمتك الكبرى ضدي، لم تكن فقط لتعذيبك لي، بل لأنك نجحت بصورة باهرة ان تقنعني، وانا الطفل الطيب البريء، بأنك تتعذب بسببي انا، بسببنا نحن ابنائك.. لا زالت حتى الآن صرخاتك تصدح في اعماقي وانت تشكو الى الناس والى الله بأننا نحن ابنائك نسل كفر وعار لأننا نتنكر لتضحياتك من اجلنا، وانت الرجل الفقير المسن، تكد ليل نهار من اجل اشباعنا، ونحن لا نكف عن خيانتك.. طبعا كل هذه الافكار كانت محظ خيال من قبلك، فنحن بالحقيقة كنا ضحيتك، لأنك انت نفسك كنت ضحية لنفسك ولسلالة الحقد التي نسلتك.
اذن بالتدريج، وقبل ان اغفر لك يا ابي، بدأت اغفر لنفسي واقنعها بأني ابدا لم اكن آثما ضدك. هكذا مع الايام تمكنت من التصالح مع ذاتي، ثم التصالح معك يا ابي، ثم مع الحياة جمعاء. مع ادراكي لهذه الحقيقة، بدأ احساسي بذاتي وبالحياة تختلف بالتدريج. حينها فقط، بدأ يسري في كياني نوع من الشعور بالسلام، كأني لأول مرة في حياتي اشرع بتوقيع اولى معاهدات الهدنة لوقف حروبي ضد ذاتي وضد الكون بأجمعه.
مع الايام، ومع استتاب الآمان في روحي ومع العلاجات الطبية والروحية العديدة التي اتبعتها، بدأ السرطان يختفي من بدني، مع اختفاء نيران الحقد من روحي. منذ اكتشاف المرض، هجرت الخمرة والدخان وعلب الليل واصدقاء السوء، ورحت بين حين وآخر، اعثر على أية خلوة في غابة او عند شاطئ البحيرة، لكي اطلق عنان غضبي الموروث على شكل رقص معتوه وصرخات عاوية كذئب جريح، او اذرف دموع الحزن وانشج في نحيب مر كطفل مهجور، وصورتك يا ابي لم تفارقني ابدا، لكنها هذا المرة لم تكن مغلفة بالحقد وحده، بل راحت تأتيني مصحوبة بعطف وغفران.
هذه هي حكايتي معك يا ابي، ومع نفسي المعذبة. الآن بعد ان تخلصت تماما من السرطان ومن حقدي الموروث، اشعر بأني فعلا قد بدأت حياة جديدة بكل معنى الكلمة. صدقني، احس وكأن حياتي الماضية، قد عشتها في حياة سالفة، او اني سمعتها من انسان غيري.
لهذا يمكنني ان اقولها الآن وبكل ثقة، اني فعلا لقادر على انفذ العهد الذي قطعته على نفسي: ان اشرع بتكوين سلالة جديدة، سلالة حب!
الوداع يا ابي، الوداع لك ولاسلافي، ولكم مني كل المحبة والغفران..

جواب الاب لأبنه

ولدي العزيز،
رسالتك قد وصلتني. رغم اني هنا منذ اعوام في عالم الغيب، الا اني ابدا لم انقطع عن التفكير بك ومتابعة اخبارك بين حين وآخر. كنت في كل فرصة، استميح العذر من اله الرحمة، ليسمح لي ان ازورك. لم يكن خيالا طيفي الذي كان يتراءى لك اثناء ثمالتك واشتداد حزنك في ساعات وحدتك الليلية، بل كنت انا حقيقة، روحي انا يا ولدي. كنت بكل ما امتلك من قدرات محدودة احاول ان امسح عنك حزنك واخفف من عذاباتك واشاركك بكائك المرير الذي كان يعذبني اكثر منك. كنت عندما اعود الى عالم غيبتي، استجير بالهي ان يساعدك، ان يمنحني الفرصة لكي اساهم بالتخفيف من عذاباتك التي كنت انا مسببها الاول.
كم حاولت ان ازرع فيك افكار الخلاص من وضعك هذا واحتراق ذاتك بنيران شعورك بالاثم. كانت نصائحي يا ولدي التي ابثها في روحك بواسطة طيفي، تؤثر فيك وكنت تأخذ بها، لكن كنت سرعان ما تنتكس مع عودتك للخمرة والتيه في علب الليل.
انت لم تدرك يا ولدي، كم مرة ساهمت بانقاذك عندما حاولت ان تنتحر، فآتي انا واهمس في روحك كلمات الامل والتفكير بأحبتك الذين ينتظرونك.
اسمح لي الآن ان اكشف لك الحقيقة التي لم اتجرأ على كشفها لك الا بعد ان تيقنت من خلاصك التام من مرضك ومن حياتك الماضية: انا الذي طلبت من الله ان يسارع بنشر السرطان في بدنك. حسب معرفتي الجيدة بشخصيتك، راهنت مع نفسي، ان هذه التجربة المرعبة والحاسمة وحدها لقادرة على دفعك على ان تحسم موقفك تماما مع شبح الماضي المهيمن علي روحك. ان تثور على هذا الوضع البائس الذي كبلت نفسك في شرنقته الجهنمية.
اثناء المرض لم اكن افارقك حتى لحظة واحدة، كنت معك، اواسيك، اهمس فيك كلمات الامل والمحبة، احثك على التغيير، اردد على لسانك كلمات التفاؤل ومحبة الذات والحياة.
لا يمكنك ان تتصور يا ولدي مبلغ السعادة التي تغمرني الآن وانا اشاهدك هكذا في بحبوحة حياتك الجديدة. انا معك تماما في قرارك بأن تبني سلالة جديدة قائمة على الحب وليس الحقد.
لهذا يا ولدي، قد رجوت الله ان يساعدني كي اساعدك انا نفسي بتحقيق مشروعك، ولقد استجاب الله لدعائي، وها انا ازف لك البشارة التي لم تكن تتوقعها ابدا:
هل تتذكر يا ولدي منذ ليلتين ، انك قد عاشرت زوجتك وتمنيت في اعماقك ان يرزقك الله ببنت.. اليس كذلك؟
اعلم يا ولدي لقد استجاب لك الله وزرع بنتا في رحم زوجتك.. واعلم خصوصا ان هذه البنت سوف تكون انا.. نعم انا لا امزح، لقد وافق الله ان تهبط روحي في بدن البنت، لأكون انا ابنتك القادمة.. هكذا اكون انا اول ابناء سلالة الحب.. كما كنت آخر آباء سلالة الحقد، اما انت فتظل الابن والاب، الوسيط الفاصل، الذي انتهت به سلالة عتيقة وبدأت به سلالة جديدة.. الى اللقاء القريب يا ولدي الحبيب .. ويا ابي الطيب..