كان يضع رأسه على يده المستندة على ذراعه، ذراعه المستندة على الطاولة، وقد بلغ به الضجر منتهاه حين استنفذ أعوامه الخمسين في الكتابة، كان ضوء الطاولة الخافت يداعب عينيه السارحتين في بعد مجهول في غرفته التي يرى من خلال نافذتها بحيرة البجع المتجمدة في شتاء قارص شديد البرودة، تاركا سرير النوم في الغرفة الثانية من شقته في الطابق الخامس، سرير الراحة، والإخصاب، والوهن، وقد يكون مكان الموت، لم يدر كيف سيكون مكان النوم في هذه الليلة، الذي تغط فيه زوجته في نوم عميق، حاول أن يهرب من مكان النوم، والهدوء، ويضع رأس زوجته على ذراعه كما اعتاد في كل ليلة، إذ كان مشدودا إلى الكتابة، منسابا بإحساس متعة لا مثيل لها، فيها نزاع قديم يسري في أعماقه، لن ينتهي إلا حينما يتجمد الدم في جسده مثل تجمد مياه البحيرة، حينئذ شعر أن حدثا هائلا سيقع له، أنه يجهله، ويجهل متى سيقع، قد يكون في الهزيع الأخير من الليل، لا يضاهيه أي حدث آخر، تلك لحظات متداخلة مع هذيان الكتابة، كل شئ يتشوه، ويخرج من مصدر الوحي لديه، والتوحد مع الآخر، أن هناك شئ ما وراء هذا التوحد، توحد صلب وأثير، حاول أن يتقاطع مع كوكبه الذي يعيش فيه وينشأ كوكبه الخاص، وتنفتح أمامه باب مدهشة، يفجر لها هذيانه الداخلي، ودندنته، ورؤياه تتسع، وتتشعب، وهو مغمض العينين، لأنه تعمد أن يغمضهما ليكتشف الوجه الآخر الحقيقي لكوكبه، انفجار ضخم يأخذه من يده، ويهدأ روعه دون صوت بشري رصين، خفيف ينصت إليه، يتبناه، ويولد عليه، ينقذه من هذيانه، ويحتوي روحه الهائجة، وهوسه في الكتابة، قد لا توجد هذه اليد، الهذيان ينبعث من عالمه الروحي اللامتناهي في رؤياه، كانت روحه تعتصر غضبا في نصفه الآخر - الكتابة -، لا يمكن أن تغيب عنه، وهو يذوي إذا ذوت الكتابة، أنه يشعر بالخوف من الكتابة أحيانا، وأحيانا أخرى يكون مشاكسا، متمردا في عالمه، وليس بمستطاعته إلا أن يسبب لنفسه الألم، ويغيب في حلمه، أنه يستطيع أن يغيب مع شخوص تفاعل معها، وشخوص أخرى ابتكرها لوحده، تآلف معها، أنه يغيب في خياله، محاصرا بنظرات ثاقبة، تبدو له أشبه بوميض ساحر منبثق من الظلام أو الليل المظلم، وتخاطبه : ( كاتبhellip;كاتب hellip; )، لم يع أنه نفسه، وهو يحمل كوكبه الصغير طوال عمره، منذ أن كان صغيرا، حينئذ شهد رعب كوكبه - دمية - تنتزع من يده، ترافقها لطمة قوية على وجهه، حيث كان يسير مع والده في السوق الكبير، وانسل من يده في زحام المارة إلى معروضات محل، والتقط - دمية - راح يفتش عن والده في الزحام كي يشتريها له، إلا أن صاحب المحل مسكه من يده، وسحب الدمية، وصفعه على وجهه، وأخذ منه الدمية، وهو يلعنه، فراح يبكي، والدم يسيل من أنفه عائدا إلى البيت تاركا والده يبحث عنه في زحام السوق، استقبلته أمه، وحدثها عما جرى له، هدأته، وأوعدته أن تشتريها له، واستحلفته أن لا يقول شيئا لوالده لئلا يغضب، ويقتل صاحب المحل، فكرر : ( أريد أن يقتله )، توسلت إليه ثانية، فقال بخفوت : ( لن أقل شيئا لوالدي ).كان متعبا طوال العمر أن يحمل معه أذى كوكبه الصغير في عالم يريده أن يكون مطيعا إلى الألفة، يؤدي فيه أدوار مختلفة، وهو لم ير نفسه، ويرى الأدوار، عرف بعضها، ولم يعرف غيرها، لا يريد أن يتشبه بها، ولا يريد أن يكون مثل الغير، أراد أن يكون هو غير متساو مع الآخرين، يميز نفسه عنهم، أراد أن يكون ذلك الشخص الملوح بالشمس، ويلقي ظل الظلال عن أوصال وطنه الذي يجري تقطيع أوصاله، وانكسار هيكله قطعا كثيرة التعقيد، مشتتة، متناثرة، تفوق قدرته على فعل أي شئ، عن أي شئ يكتب؟! هذا ما سأل نفسه فكل ما حوله معذب، بائس، وهو يغيب في خياله، يبدو له كوميض منبثق من الظلام أو من الليل المظلم، أنه ذو لمعة خارقة لبصره، ملتفتا وجهه إليه، أذهله بياضه الساطع، و أذهلته عيناه الواسعتان المكورتان، إنه يتفرس به ناطقا بالصمت : ماذا تريد مني أيها الكاتب؟! كان فاتحا فمه، فرأى أسنانه البيضاء، وفتحة منخريه، محركا أذنيه، وذيله، جمال أخاذ لوجهه الملتفت إليه، المرصع بالظلال بتعبير صامت، لم يغضب أو يخور بثورة، أنه في كامل منظره، في كامل توازنه، إنه ينظر إليه كما يريد، لكنه لا يستطيع أن يمتلك أعماقه، عيناه اللامعتان تشعان بالذكاء، إنه يحاوره : ( عيناك الباكيتان أيها الكاتب، ماذا تريدان؟! )، أجل له قوة جبارة في الفحولة، والإخصاب، لذلك تمثل به كبير الآلهة زيوس، فامتطته ابنة كنعان، فمضى بها بعيدا، واغتصبها، وولدت منه مينوس، لم يرد أن يكون مثل كبير الآلهة زيوس، ولا يريد أن يكون عبدا له كي ينزل المطر من السماء، ولا حتى إله السماء، ولا يشبه نفسه مثل تموز حينما تناجيه عشتار : ( إليك يا ثوري البري hellip; )، أو الأب الثور، أو ثور العالم أو الإنسان الثور، أو حتى كائن نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل ثور أو يصور برأس إنسان ملتح، ولا يريد أن يستجيب إلى نداء عشتار للانتقام من كلكامش بعد أن عيرها بكثرة عشاقها، وعدم إخلاصها لهم، فطلبت من أبيها أن يعاقب كلكامش، ويرسل له الثور المجنح، الذي قتله مع صديقه انكيدو hellip;لاhellip;لاhellip; أن كل وراء ذلك تسلط، وفحولة، إنه مخلوق كاذب هذا الثور الذي يتراءى له أبيض كان أم أسود hellip;ففي اليوم الأول الذي وجد فيه نفسه الثور الإنسان انتابه الشك، وفي اليوم الثاني تأكد أنه ليس الثور، وفي اليوم الثالث أصابه الضجر، وفي اليوم الرابع تأكد من الكذب، وفي اليوم الخامس كادت روحه تختنق، وفي اليوم السادس ضاغطا على نفسه لأنه لا يستطيع الفرار، وفي اليوم السابع وضع خالقه رجل على رجل، واستراح على قفه في عرشه، هكذا بدأت كينونته كإنسان، فليس له مأوى بين الثيران، يمتلك قرنين، وسنام الذي غالبا ما يصرع حين يغرز الرمح أو السيف فيه، تلك مصارعة الثيران، كل شئ صحيح وباطل في نفس الوقت، عينا الكاتب قلقتان، وجهه يعاني من ملامح الحزن، متأملا، غارقا في التفكير، شيخوخة، وعجز، لحظة إبداع، إلهام، مسرور هو الآن، أفكاره تزدحم، تتناقض، يقتفي أثرا ما، ويصبها في قالبها، أفكاره حبلى بالولادة، شكل يثير الجدل، حاجباه ترتفعان إلى أعلى، عينان تنظران صوب المجهول، تعبيره لم يكن غاضبا، أنه هادئ الآن، لكنه متعب، وعابس من المأزق الإنساني، من التوتر الذي يسبب له الوجع اليومي في القتل والتدمير، يرفض صراع العنف في وطنه، هناك طفل خائب خائف يختفي في زاوية من زوايا غرفته الموحشة الفقيرة، وفي الحوش يذبح أباه، وهناك شارع في بغداد يرى فيه عدد من القتلى يسيل الدم على أرجلهم، أن الكاتب يستجمع أفكاره للقبض على لحظة الإبداع في تجسيد الألم، أنه يقبض على المناخ الذي يعتصر روحه، فتسقط ذراعه على الطاولة، ويسقط قلمه، وتتبعثر أوراقه، وينام رأسه نومة أبدية تاركا الثور الأبيض والأسود فوق صفحات أوراقه.