كان لا يضحك إلا إذا سمع صوت (بودغورني) ورفاقه يضحكون. كان يبدو كانسان آلي، جسده هنا، وعاطفته هناك، حيث رفاقه العظام.
كم كان يأسف عندما لم يكن يجد في حانات المدينة وباراتها مشروب الفودكا، ليجلس ويشرب من هذا المشروب الأممي، الذي يفضله رفاقه العظام هناك!
كان سخطه وغضبه بل خيبة أمله تبلغ منتهاه حينما لا يجد إلا (العرق) الذي يشربه كل من هب ودب.
كان سروره بالغا حينما أحضر له يوما أحد رفاقه الذين عادوا من احتفال للشبيبة في ألمانيا الديمقراطية زجاجة من المشروب الحلم: زجاجة فودكا.
حمل الزجاجة التي حرص أن يحملها بعناية داخل كيس وضعه في جيب سترته الداخلي، لتكون قريبة من قلبه. وكأنه بذلك وبدون شعور يريد ان يسمع نبضات قلبه للزجاجة، التي طالما عبها ويعبها رفاقه العظام هناك. أحس بدفء القنينة وكأنها كائن حي له أحاسيس نابضة. ظل يستعجل خطاه ليصل إلى البيت.
كان يبدو له وكأن المسافة التي يقطعها كل يوم، ليصل إلى البيت قد طالت وطالت في ذلك المساء. كم كان يود أن يطير في تلك اللحظة فوق الشوارع والأزقة والبيوت، ليحط على سطح بيتهم ثم ينزل السلالم على عجل ليتحقق اللقاء الموعود الذي طالما تمناه. لحظة تذوق هذا المشروب المفضل لدى رفاقه العظام،المحفورة صورهم في ذاكرته وهم يكرعون في كؤوس صغيرة الفودكا دفعة واحدة قبل ان يضعوا تواقيعهم، على محاضر الاتفاقيات الدولية التي لها هدف واحد لا يتغير ألا وهو: إشاعة السلام في العالم اجمع وحماية حقوق الشغيلة.
كم كانت تعجبه هذه المناظر التي كان يعتبرها، مفخرة من مفاخر الحزب الذي ينتمي إليه!.. وكم كانت صور النساء والرجال المبتسمين دائما، والتي تتصدر دائما غلاف (المجلة السوفيتية) تبهره!
كان مصمما لو ساعده الحظ على أن يتزوج واحدة منهن، لتسطع بسمتها في حياته، ولتقطع البسمة البشوشة دائما، ظلام حياته وخيباته.
عندما كان يتأمل تلك الوجوه الصبوحة، الوضاءة، المتألقة بالابتسامات دائما، كان يرد إلى ذهنه وبشكل لا إرادي وجه زوجة أخيه النكدة التي لا تبتسم إلا في السنة حسنة كما يقال. ووجه أمه المكفهر، التي تعودت أن تأمر فتطاع من قبل الجميع، حتى من أبيه المغلوب على أمرها أمامها. وكان لا يمنع نفسه من السؤال أحيانا: ما الذي قاد هذا الرجل الوديع إلى الزواج منها؟
كان هو النقطة الضعف الوحيدة في حياتها. وكانت نقطة الضعف هذه تتجلى في وضعها نقودا في جيبه، كلما وجدته خاويا.
كانت أمه قد تعودت أن ترى ابنها الأكبر يعود كل مساء إلى البيت، وهو شبه غائب عن الوعي من السكر. لم تكن تتحدث معه، بعد أن رأت ان تقريعها له لم يعد يجدي.
كان أخوه يأتي ويسقط كالميت على فراشه، دون ان يسمع بكاء زوجته وشكواها من سوء الحظ وقلة البخت.
كانت أمه تكتفي بالصمت حينما كان يجلس ليشرب في غرفته، وتحمل له أحيانا بوجهها المكفهر الملبد بالغيوم قطعا من اللحم الذي تخفيه في زاوية من زوايا المجمدة، كي لا تصل إليه يد عروستها التي كانت في حالة نفور دائم معها، رغم انها خالتها.
أخيرا وصل البيت دفع الباب بلهفة متوجها إلى غرفته. أخرج القنينة من جيب سترته الداخلي ووضعها على مكتبه الذي تراكمت عليه الكتب والأوراق.
بدأ يتأمل القنينة كما يتأمل رجل خرج من السجن لتوه أول امرأة في الشارع، بعد سنوات طويلة قضاها خلف القضبان. نظرة تعكس جوعه الأبدي والإنساني، الذي كان سببا في إخراج أبونا آدم من الفردوس.
زفر زفرة طويلة لأنه لم يستطع أن يقرأ ما هو مكتوب على القنينة. توجه إلى المطبخ وأخذ قدحا. أثناء عودته شاهد أمه:
- كيف حالك يا أمي؟
ردت عليه وهي تحدجه بنظرة ذات معنى، بعد أن رأت القدح في يده:
- بخير مادمت أنت بخير!
وضع القدح إلى جانب القنينة. فكر أن يحضر بعض الفواكه أو يعد سلطة، كما هي عادته دائما عند شربه العرق بين فترة وأخرى. لكنه توقف فجأة، متذكرا ان الرفاق العظام في حفلات توقيع الاتفاقيات الدولية، يكرعون الأنخاب دفعة واحدة دون (مزة).
لا بد إذا أن يجاري طقوسهم. فالفودكا حاضرة، وصورة الرفاق متقدة في ذهنه. عاد إلى المطبخ ثانية لإحضار القدح. عندما تهيأ لالتقاطه من الرف، تذكر فجأة ان الرفاق العظام يشربون الفودكا في كؤوس صغيرة. توقف برهة، ثم انشرح وجهه فقد وجد الحل. هذه الليلة العظيمة لا يمكن أن يفسدها أمر تافه كهذا. مد يده بحبور وتناول قدح(الاستكان) الذي اعتادوا أن يشربوا فيه الشاي.
عاد إلى غرفته وأغلق الباب. كم تمنى لو كانت لديه أغان بالروسية تمجد العمال والفلاحين ليستمع إليها وهو يكرع كؤوس الفودكا!. . فالليلة لا يريد ان يستمع إلى يوسف عمر، الذي اعتاد أن يشرب العرق على أنغام أغانيه. الليلة ليلة استثنائية، انها ليلة اللقاء الأول مع الفودكا.
فتح القنينة وسكب بهدوء وعناية في قدح الشاي. رآه ينسكب رائقا، ذا بريق خاص. ملأ القدح حتى نهايته. ثم رفعه ونظر صوب كتب الرفاق العظام التي غيرت حياته، وكأنه يشرب نخبهم.
كرع القدح دفعة واحدة، كما يفعل الرفاق في مراسيم التوقيع على معاهدات السلم العالمي والاتفاقيات الدولية.
أحس بنار كاوية، تحرق كل خلية في جدران بلعومه، ثم تمتد من هناك إلى أعمق نقطة في معدته.
دمعت عيناه وأحس بحماوة بدأت من رأسه وانتشرت في وجهه.
استغرب كيف أن رفاقه يشربون كؤوسهم بهدوء، وكأنهم يشربون الماء، بينما هو يحس وكأن لهبا من نار قد هبط إلى أعماقه فجأة.
لا يدري كم من الزمن مر على صدمته من النخب الأول من الفودكا. لكن هذا الزمن كان كافيا ليشعر بنوع من الرضى والنشوة والانطلاق في دمه وكيانه.
أحس أنه ظلم الفودكا، فالسبب ليس هذا المشروب الراقي، بل معدته وأمعاءه التي تعودت على شرب العرق الملعون.
كلما توالت الأقداح، كان حجم الرضا والحبور يزداد في أعماقه، ودرجة السخونة التي تلف جسمه في ارتفاع مضطرد.
فتح النافذة،واطل منها على بيوت الحي، التي بدأت تستعد للنوم،ووداع الظلام. تنفس بعمق الهواء العليل وسط ظلمة الليل.
عاد إلى مكانه،لكنه أحس أنه يترنح، تماما مثل ترنحه بعد تناول الكؤوس الأخيرة من العرق.
عاد وجلس وملأ قدحه الأخير. تأمل بأسف القنينة الفارغة. استغرب كيف انه لم يشعر بأن نهاية القنينة قد دنت بهذه السرعة؟
أحس بالغرفة تميد، وراحت كتبته تميل كالأرجوحة يمنة ويسرة. كانت الغرفة تعود إلى حالتها الاعتيادية،حينما يغمض إحدى عينيه كما يفعل عند نهاية شربه للعرق بعدما سمع بذلك من صديق له.
كان الوقت متأخرا، حينما دوى في أرجاء البيت التي انطفأت أضواؤه، وغرق في ظلام دامس في انتظار النهار، صوته وهو يتقيأ بصوت عال سمعه حتى الجيران في بيوتهم. وربما لعنه من كان لا يزال يقظا من أصحابها.
*********
كان رأسه ثقيلا والعرق يغرق وجهه، عند توجهه إلى المقهى ليلتقي مع صاحبه أبو عدنان. وهو معلم يحيه لأنه إنسان مرح وبسيط،ذرب اللسان رغم انه يفتقر إلى الثقافة السياسية. وكان أبو عدنان يعرف لقاءه بالفودكا، فقد حدثه عنه قبل أن يتوجه إلى صديقه العائد من ألمانيا الشرقية.
قال له أبو عدنان:
- ها.. بشر! كيف وجدت الفودكا؟
تردد لحظة في أن يقول له الحقيقة؟لكنه في النهاية أبى إلا أن يعترف بها:
- زقنبوت!
ضحك أبو عدنان بصوت عال، كاشفا عن أسنانه التي اصفرت من فرط التدخين. وكان من الندماء المحبين لشرب العرق كل مساء:
- شرابنا زقنبوت عراقي.. شرابكم زقنبوت أممي. يعني زقنبوت في زقنبوت!
ابتسم بمرارة عندما قفزت إلى ذاكرته هذه الحادثة، التي تعود إلى سنوات بدت له مغرقة في القدم. وكأنها لا تمت بصلة إلى حياته حينما لجأ مع رفاقه إلى الجبل محتضنا مثلهم سلاحه،وهو يحمل في ذاته ان السلاح أقرب طريق للانتصار على النظام.
كانت الجبال تبدأ بالارتفاع فجأة،ليجد نفسه بعد فترة وسط أكام جيلية متقاربة لا عدد لها، تبدو كالتيه حين تقطعها مجار وعيون تفوق الحصر. حيث تبدو المرتفعات في بعض المناطق جبسية وصلصالية وصخرية.
كم كان الجانب الطيني يبدو اسمرا باهت، يبعث على الكآبة!. لكن الربيع سرعان ما كان يكسو سطحها بعشب أثيث،كثيف مزدهرا بأنواع لا تحصى ولا تعد من الزهر البري.
كانت الثلوج تغطي قمم معظم الجبال لثلاثة أشهر في العام. وكان فيضان الينابيع والعيون في موسم الشتاء بعد زخات مطر قوية تملأ السهول والوديان بالمستنعقات.
قضى سنوات طويلة في حشد مضطرب من شواهد الجبال يمتد إلى كل الجهات، ومن كتل مهيبة من الجرف الصخرية والقبب المندمجة. كان هذا المنظر البهيج يفتح في الصدور ينابيع الفكر والتأمل وتسلمه إلى البهجة المطلقة. لا يزال يتذكر ما شاهده هناك أزهار السوسن الخريفية الرائعة الألوان،التي لا يتوقع أن يكون هناك ما يفوقها سحرا وروعة.
أصبحت هذه المناظر بعد طول معايشة، اعتيادية. فالجبل والنهر والشجر والكهوف، تصبح جزءا من الإنسان خاصة حينما يعيش معها طويلا. خاصة كلما ازداد تحول الأيام إلى أشهر،والأشهر إلى سنوات هناك، بات كل ما يمكن أن يبهر عقل وخيال وعواطف المرء أمرا عاديا ومألوفا بالنسبة له. فالجبل حينما تنام في سفوحه وكهوفه لسنوات عشر كسنواته هو هناك، يفقد سحره. حيث يتحول إلى مجرد كتلة من الصخور والسفوح. وخرير الينابيع الذي يبدو رقراقا وخلابا، يهيج العقل والعاطفة والذاكرة،يصبح بعد أن يعتاد المرء عليه ويصغي إليه ليل نهار مجرد صوت رتيب. كما أن الأشجار والنباتات والزهور البرية تفقد بدورها شذاها وسحرها وفتنتها، خاصة عندما ترى العين موتها وبعثها من جديد عشرات المرات،كما رآها هو في تلك السنوات الطوال. هناك أدرك أن السأم والضجر يمكن أن يتغلغلا إلى النفس،حتى في أعماق الفردوس.
لقد رأى بعينيه طوال سنواته العشر هناك،موت الأزهار والأشجار والنباتات البرية والبشر. كانت الأشجار والنباتات البرية ما تلبث أن تعود إلى الحياة بعد دورة من الصمت والخمول والموت المؤقت. أما رفاقه الذين رحلوا فلم يعودوا إلى الحياة قط. كانوا أقل حظا من الأشجار والنباتات البرية.
كان يرى عجزه وخذلانه البشري،وهو يرى رفاقه يسقطون، ويمضون في لحظة، وتمضي وتتلاشى معهم أحلامهم الثورية،وأحلامهم كبشر عاديين، تاركين خلفهم حسراتهم وأشواقهم التي لن يعرف بها أحد بعد رحيلهم.
وسط صفحة الفردوس هذه، كم قاده السأم والضجر والانتظار الممل للنصر الذي لم يتحقق بعد،من على فوهة البنادق،إلى ألعاب صبيانية يستغرب الآن منها. لكنه يدرك أن الوحدة والعزلة هو أكثر إيلاما للمرء من أي شيء آخر،حتى لو كان ساهرا في قمم الجبال،محتضنا بندقيته منتظرا أن تأتي الأيام بما يتمناه مع رفاقه:الهدف الذي من أجله صعد إلى الجبل،لإيمانهم أن السلاح هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق النصر.
لكن الأيام طالت. تدرجت من سلم الزمن الأيام والشهر والسنوات بسرعة يستغرب لها حتى الآن.
دفعته الوحدة والضجر،وخاصة في أيام الربيع، حيث تنشر الشمس، الحياة والدفء في سفوح الجبال والسهول والوديان، إلى مراقبة أسراب النمل وهي في طريقها إلى بيوتها. كان يحلو له في هذه الساعات أن يرافق مع أسراب النمل إلى بيوتها،وأن يجلس لساعات طويلة وهو يمد قشه إلى بيوت النمل ليخرج عددا منه ثم يختار اثنين مها ويقربهما من بعض،حيث يشتبكان طويلا في عراك مرير ينتهي إما بمحاولة فرار احدهما أو فوز الآخر عليه باقتطاعه جزءا من جسم غريمه.
كانت لعبة قد اعتاد عليها منذ صباه،وخاصة عندما كان يبصر نملا في زاوية من فناء دارهم الواسع، دارهم الذي احتوته واحتوت نزقه،دارهم التي أصبحت أثرا بعد عين.
كان ينتشي عند عراك النمل،ويظل يتأمل نتائج الصراع لفترة طويلة، مستعيدا بذلك أيامه عندما كان يعيش في المنزل مع عائلته. عائلته التي تحملت من أجله الكثير،والتي ظلت لمدة عشر سنوات تشيع عنه لمن يسأل عنه سبب اختفائه المفاجيء ما يبين ليلة وضحاها،بأنه يدرس الدكتوراه في رومانيا.
لكم ضحك في سره،حينما كان يتذكر تلك الأيام والكذبة التي اضطرت عائلته إلى إطلاقها للجم الألسن،وإبعاد شبهات السلطة وطغيانها عنها.
يستغرب الآن فعلا ولا يجد تفسيرا لاستمراره وبقائه عشرة أعوام متواصلة في الجبل كرفيق للسلاح والجبال والأنهار والوديان، مترقبا بحذر السفوح والسهول ومتأملا العدو،الذي أتى مع رفاقه لإلحاق الهزيمة به.
دكتوراه في متابعة النمل،والتيه في الجبال،والنوم صيفا في العراء،وفي الكهوف في الشتاء!.. وان ينسى فلن ينسى قط المرات التي اضطر فيها خشية من التجمد من اللجوء للنوم في تلك الكهوف التي كان الرعاة يجمعون فيها الخرفان والماعز. كم من مرة بحث عن الدفء في النوم معها متحملا روائحهم الكريهة،كي لا يموت متجمدا في الخارج؟.
خلال السنوات العشر،ترك العديد من رفاقه الجبل،بعد أن أيقنوا أن الأماني والأحلام لا تتحقق دائما. وان العدو الذي ظنوا أنهم سيسحقونه ويحققون النصر تلو النصر عليه، مسلح ومعبأ لكي يصدهم بشتى صنوف السلاح. لكنه تشبث بالبقاء.
كان يريد أن يثبت لنفسه وللآخرين انه أكثر صلابة في ثوريته وإصراره على الكفاح المسلح. لكنه وبعد انسحاب القوات الحكومية من مدينة أربيل،رأى انفراط عقد رفاقه. أخذ كل منهم يبحث عن ملجأ في الدول الأوربية، بعد أن أعلنت هذه الدول عن قبولها للاجئين العراقيين.
كانت تركيا أقرب نقطة بالنسبة إليهم،فوصلوا إليها عبر الجبال. كانوا حفنة من الرفاق وجدوا أنفسهم بعد سنوات من حياة الجبل في قلب مدينة أنقرة.
يتذكر كيف كان يحدق بالمارة،وكأنهم يعرفون أنهم غرباء عنها. لفت انتباهه انه ورفاقه يمشون في شوارع أنقرة،التي قدموا إليها لمراجعة مفوضية اللاجئين، في خط مستقيم يتبع احدهما الآخر، كما كانوا يفعلون في الممرات الجبلية،حسب التعليمات المبلغة لهم من قبل آمريهم.
يتذكر كيف التفت ضاحكا إلى رفاقه:
- يا جماعة نحن الآن في أنقرة، في شارع يعج بالمارة،فلماذا نسير بصف متراص وكأننا لا زلنا في الجبل؟
أطلق رفاقه قهقهة متشابهة لقهقهته وهم يتبعون أحد رفاقهم الذي استقبلهم في أنقرة،وهم في طريقهم إلى حيث مقر المفوضية العمة للاجئين،لتقديم طلب اللجوء إلى إحدى الدول الأوربية .