مجموعة المسرح الحر التي تأسست في شيكاغو عام 2001 قدمت هذه العرض باعتباره اول اعمالها المسرحية واعادت عرضه ثانية بعد العرض الاول في العام 2002.
اصحاب العرض هم ناصر طه مخرجا مؤلفا ممثلا، توني يلدا ممثلا، فينوس مغنية العرض، سنان عناد الديكور وسينوغرافيا العرض، ماركريت بنجامين ادارة مسرحية، توني اتو اضاءة ومؤثرات صوتية. لماذا نستذكر الان عرضا مسرحيا مضى عليه اعوام!!؟ للاجابة على هذا التساؤل ينبري امامنا تساؤل اخر اكثر اهمية وصعوبه! وهو هل لنا ان نقرر ان من احدى مهام الخطاب المسرحي الجمالي ان يقدم نبؤة ما؟؟ ام يكتفي بتأصيل الانعكاس!؟ ربما بالسطور القادمة سنجد الاجابة على هذه التساؤلات! لك حرية تقرير ذلك عزيزي القارئ! انظر كيف امنحك الحرية في عالم يلتهم حرياته بشراهة مقيته!!.

تراجيديا الاحذية نصا وعرضا!

النص لا يتجاوز حدود المونودراما التقليدية كتابة! جندي قضى جل شبابه في الخدمة العسكرية! كحال الملايين من العراقيين! دخل كل معامع الموت الغبي الذي تماسسه السياسة المؤدلجة بالدم وبالرغم من كل الهزائم المخزية التي منيت بها هذا الادلجة الا ان صاحبنا المجند كان هو المنتصر الوحيد فيها! فهاهو يصرخ قائلا بتقريرية لا معقولة وعبثية quot; ان تخرج حيا ترزق من جحيم الحروب هو النصر بعينه!!quot; اجل كان النصر بالنسبة اليه هو ان يتجنب تقمص دور وقود المحارق التي اكلت الكثير ممن سيقوا اليها كالدواب!! لهذا كان الهروب هو الوسلية الوحيدة والخيار الحقيقي الخالد لتجنب غباء الاستشهاد المؤدلج! والحكاية تبدأ باقتناص احدى لحظات الهروب الازلية التي يمارسها هذا البطل المنسحق!! وفي جغرافيا محاصرة بالنار والدم والموت والصراخ quot; اين يجد المرء مكانا آمنا يختبئ فيه من هذا الجحيم الذي لا نهاية له!؟ كفى اولاد الكلب الى م نفترس الحباة ونشظيها!!! كفى quot; نلتقي بماضينا وحاضرنا وربما مستقبلنا المؤنسن والممسرح وجها لوجه وهو يعلق حذاءه العسكري على رقبته quot; لقد انقذتك من الموت هذه المرة ايضا يا صاحبي تركت رفقائي تداعبهم الشظايا ويغازلهم الموت quot; اذن من اللحظة الاولى يختار صاحبنا غريمه في الصراع المدرمن!! انا - نحن + الحذاء العسكري (البسطال ) ومن هذه العلاقة اللامألوفه تنطلق كل تهويماتنا ويومياتنا البسيطه تلك التفاصيل الهائلة التي تشكل نسيج تراجيديانا العراقية! من منا لم يعايش البسطال ويتنشق رائحة جواريبه المنتنة الم نلتحف العسكرة ونمارس معها كل موبقات التضحية!! كم من جرائم ارتكبناها باسم النصرالمؤزر؟ هكذا يستمر النص في استرجاعات سردية للكثير من كوابيسنا اليومية التي انضبطت وتوضحت بالبسطله ( نسبة للبسطال ) اننا امام مباشرة مشهدية ولغوية ترفض التلميح وتركل الاستعارة وتضطهد المجاز! اجل كل ما يقرأ ويشاهد ينتمي الى المعلن والمفضوح لامجال مطلقا لاختبار قدرات المتلقي التأويلية! كل الاحتيالات الجمالية والخدع الاسلوبوية محكومة بالنفي في النص والعرض معا انت تواجه تفاصيلك بمباشرة وقحه وفجة وغير مهذبة! من منا لم يتخيل الجلوس على قنينة كولا في سجن شرق اوسطي عموما او في سجن من سجون دوائر الامن العراقية!! ولم التخييل اصلا لنشاهدها لنمارسها وليكن ما يكون! هكذا لنفضح اسرارنا معا دون خجل او وجل او حياء يمنح الايديولوجيا فسحة للبقاء والتهيمن! او ليست انسحاقاتنا وصبرنا عليها بخدع المنطق السماوي والتأليهي!! هو وقود نار التسلطن والدكتاتوريا التي التهمت اخضرنا كله!؟ جبننا وانهزامنا امام النقد والتخاذل عن التصريح منح قنينة بائسة القدرة على اختراق مؤخراتنا لانتزاع اعتراف صارخ ومعلن بجرائم لم يحلم اعتى العتاة والمجرمين بارتكابها يوما ما!! ها هو المجند يتوسل للحذاء - المحقق بان ينهضه من كرسي الضيافة - القنينة quot; انا من وشى بالمسيح وما الرفيق يهوذا الا مظلوما فهو مسكين كان خفرا ويحرس الوطن ليلا! انا من قتل عليا في الفجر وما الخوارجي الا مظلوما كان يدافع عن اسوار الوطن ويجاهد في الثغور! بل انا من اغوى آدم واخرجه من الجنه اما ابليس فقد كان خفرا في فرقة الله المناضلة!quot; او تريد اعترافات اخر؟؟ هكذا يسير النص في رحلة مشهدية متنوعة يتم من خلالها افتضاح كل اسرارنا ورفع كل اغطيتنا الثقيلة التهتك، رحلة الهروب الى الخارج! ادعاءاتنا النضالوية الغبية واوهامنا بمقارعة الاستبداد! الدخول في دوامة التعارض وصراعاتها الماجنة في الخنادق والفنادق! انصداماتنا الحضاروية بانفتاحات الحداثة والتحضر! تقوقعنا في اخلاقيات التدين والاعتزال الانهزامي، ودون كيشوياتنا التافهة في تغيير فلسفة المنافي وتأسيس ممالك الشرق على مساحات الغرب والاحلام الارتدادية بالفتوحات! واخيرا وامام هذه الملحمة من التفاصيل يتوقف كل شئ امام حقيقة مخجلة وقاسية لا يخلصنا منها الا الموت!! هذه الحقيقة هي استمرارية انهزامنا وايماننا بتقمص دور الكبش الذي يتقبل النحر بديلا للاشئ! يا للعار!!! العرض في حقيقة الامر افترق كثيرا عن آليات المونودراما كنص وتجاهل تقنياتها!، ثم ذلك طبعا بتجاوز منطق السرد الممسرح والذي يحلو للاعبي المسرح من الممثلين التمشدق به والتفاخر من خلاله باظهار مهارتهم الادائية! لم ننجر لهذه التقليدية البائسة ومن اجل التخلص من هيمنة المونودراما فقد لجاءنا الى تحويل السرد في النص الى مشهديات متتالية ولكي ننجح في التشخيص والتنويع المشهدي ونحيون ( من حيوية ) الخطاب تعمدنا ان نؤنسن الحذاء العسكري الذي كان في النص مجرد مستقبل افتراضي لتهويمات المجند - البطل، اذن نحن الان امام شخصيتين تتصارع على الخشبة صراع لا نهاية له ولا ينتهي الا بموت احدهما! تقسم العرض على مجموعة اسكيتشات تتثيمن ( من ثيمة ) باتجاهات تفصيلية مختلفه ومن هذه الثيم التي هي خامة مشهدية ليس الا، تم الاعتماد على قدرة الممثل في الارتجال ونحت التفاصيل امام المتلقي.
مشهد التعذيب مثلا والجلوس على القنينة، تشظى فيه الحوار بدخول شخصية البسطال وتقمصها شخصية المحقق! حتى الحركة لم يتم رسمها خلال التمرين بل وجد الممثل نفسه امام سينوغرافيا مجغرفة تختلف تماما عن تضاريس ومناخ التمرين! ولكي لا نمنح المتلقي اي فرصه للاسترخاء او التمطي فقد استحضرنا شخصية المغنية من اجل ملء فراغات التغيير المشهدي واعتمدنا على قدرتها في ارتجال الاغنية التي تنسجم وثيمة المرئي، وشارك الممثل في تجسيد المغنى وفي الوقت نفسه يتأهب للعب المشهد القادم وبفضائحية يشارك فيها المشاهد نفسه! اجل اننا نلعب في المعلن المفضوح!.
هكذا يرى المتلقي رحلته الشخصيه عبر مشهد الهروب واللجوء ومشهد التدريب العسكري والحرب ومشهد اجتماعات المعارضة في خنادق الدرجة الاولى والحلم بانشاء جمهورية سوف تتصارع على تسميتها الاحذية البديلة ايضا، وربما في هذا المشهد تحديدا ينطلق العرض من اطار تجسيد الوقائع وتعريتها الى انفتاحات التنبؤ بعراق تحكمه جمهورية اخرى للقنادر المعسكرة!! وينتهي العرض حتما بهيمنة البسطال وموت المجند الذي لايجد نصرا في الهروب الازلي من دكتاتوريا القنادر!! الخاسر الوحيد في هذه النهاية الموغلة في التشائم هو الانسان العراقي تحديدا اما الاحذية ومن يتعقلن بها!! فهو يعرف كيف يختطف البقاء وكيف يكرسس ( من كرسي ) السلطه!.
في كل هذا كان الجهد الارتجالي لجميع فريق العرض هو المراهن عليه، ولم نتفاجأ كثيرا حين انتهى العرض بعد ساعة وخمسين دقيقة في حين كان من المتوقع له ان يكون ساعة ليس الا!! لا ندري طبعا كيف حدث هذا بالضبط حينها!، غير اني اجزم الان ان طرفي الخطاب الممثل + المتلقي قد استدرج بعضهما الاخر للعبة خصوصا في العرض الاول، واتصور الان ان السينوغرافيا التي ارتجلتها الفنانة سنان عناد في ليلة العرض، هي التي ساهمت بفاعلية في تأثيث العرض بالجماليات التي ظهر بها، فالمكان تقسم الى ألسنة تمتد باتجاهات مختلفة، اطولها يقسم المتفرجين الى اقسام متقاربة!! هكذا وجد اللمثل نفسه يكاد يكون محاطا بالجمهور ويقترب منه كثيرا وفي عدة امتدادات هذا التقارب خلق حميمة مباشرة بين اطراف الخطاب الممسرح فكلانا يتحسس انفاس الاخر ممثل ومتلقي!، واحاطت جوانب المساحة الملعوب عليها باجهزة الانارة القريبة والتي يشعر المتلقي والممثل بحرارتها وحرارة الوانها التي واجهت عين المتلقي بمباشرة قاسية خصوصا في المشهد الاخير والذي ينتهي فيه العرض وهو يرى بصعوبة بالغة من جراء توجيه الضوء بكثافة عليه مشهد قتل المجند، وصوت المغنية وهي تصدح باغنية...ياحريمة... مع صوت الآليات العسكرية وهي تزمجر بالمكان ايذانا بحروب اخرى قادمة وخرابات مستقبلية تداهم حيواتنا! انها تنسجم مع الشجيرات الميتة التي زرعتها مرتجلة السينوغرافيا على الخشبة!، ولون السواد الذي يلف جغرافيا العرض ولا بياض فيه الا زي مغنية العرض!! العرض تفنن في تمرير الكوميديا واعتمدها كاسلوب لطرح الخطاب المسرحي واعتقد ان اصرار الجمهور الشيكاغوي على اعادة العرض مرات اخر يمثل شهادة نجاح فني حلمنا بتحقيقه.

هكذا اعدنا العرض بعد الحاح جماهيري على قاعة مسرح محترف ذكرنا بمسرح الرشيد* ولنا حديث اخر عن جنوننا الممسرح في العرض الثاني!! نعدكم بذلك.

* مسرح الرشيد احد افضل مسارح العاصمة بغداد سابقا وربما الان.

[email protected]
من مذكرات مسرحي عراقي