تفيض شخصية رامبو، الشاعر الفرنسي المتمرد، وأحد آباء الحداثة الشعرية في أوروبا، سحراً وجاذبيةً في نفوس الكثير من المبدعين والمثقفين العرب، ولذلك كان لهذه الشخصية حضورها في العديد من الأعمال الأدبية والفنية، وبخاصة المسرحية منها، وكنت قد شاهدت أول عرض يتناول حياة الشاعر بعنوان (رامبو.. الأزهار والألم) تأليف واخراج المسرحي العراقي حسين علوان، الذي قدمه في دارة الفنون بعمّان عام 1996، بعد خمس سنوات على كتابة النص، وهو يتألف من ثلاثة مشاهد، يجري الأول في غرفة مستشفى في مرسيليا، حيث يرقد رامبوعلى السرير مبتور الساق، وعكازه جنبه، ترافقه أخته إيزابيل، ويزوره طيفا أمه، وصديقه الشاعر فرلين. ويستذكر رامبو في هذا المشهد رحلته الى الحبشة (أثيوبيا)، ومغامراته الوجودية، وعلاقته بصديقه في شارلفيل قبل عشرين عاماً، ومعاناته الشديدة بعد بتر ساقه. ورغم يأسه واعترافه بانتهاء حياته، ووداعه للزواج والعائلة والمستقبل، فإنه يبوح، مراعاةً لمشاعر أخته، بأن لاشيء يستطيع أن يسلب منه الأمل. ويدور المشهد الثاني في غرفة فندق في بروكسيل، حيث يحاول فرلين إقناع رامبو بأن لا يتركه ويعود إلى باريس، ويصل الخلاف بينهما الى ذروته حينما يطلق فرلين رصاصة من مسدسه فتصيب يد رامبو. أما المشهد الثالث فهو عودة إلى المستشفى ويبدو فيه رامبو وكأنه استفاق لتوّه من كابوس مرعب: laquo;أطلق يا فرلين، أطلق الرصاصة الثانية، الدماء في يدي تمتزج بمداد المحبرة، الألوان تتناثر في الهواء، أسود أبيض.. أسود أبيض .. إنها ألوان الحروفraquo;، ثم تقتحم غرفته طفلة تدعى فيتالي، تاركةً أباها الذي يرقد مريضاً في غرفة مجاورة، لتعرف سبب صراخه، فينجذب إلى براءتها، ويحدثها عن ألم ساقه المبتورة، وتعده بأن تكون صديقةً له، وتزوره ثانيةً. ولأنه يستشعر بقرب موته يتمنى، في سره، أن تكون ملاك الموت، ويقول لها laquo; لو كان الموت جميلا مثلك ، لما وجدنا أحداً يسير في الشارع raquo;. وما أن تودعه الطفلة حتى يستسلم للموت.

وقد أعادت فرقة المسرح الوطني اليمنية إنتاج هذا النص، فيما بعد، بإخراج محمد الرخم. وفي عام 1999 شاهدت عرضاً ثانياً بعنوان (عدن... عدن) تأليف وسينوغرافيا وإخراج التونسي حسن المؤذن، أنتجه المسرح الوطني التونسي، وقدم في أيام قرطاج المسرحية، وهو يبدأ من اللحظة التي كان فيها الشاعر على فراش المرض يتهيأ للموت بقلب غير واجف، أعزل إلاّ من التجديف والشهوة والرغبة اللانهائية في الامتلاك، على الرغم من أنه مقتنع بأن مغامراته الوجودية قد أشرفت على نهايتها الفاشلة، وبخاصة أن ساقه قد بترت، والمرض أخذ من جسده كل مأخذ. وتواصلاً مع ذاته المتمردة التي اختبرت معاناة الكلمة، وجراحات الواقع، وعذابات الروح، فإنه يتأهب للوداع الأخير رافضاً إلحاح القساوسة على الاعتراف، والصلاة للرب، ساخراً من كهنوتهم ودعاواهم، والى جانبه أخته إيزابيل التي تطلب له الغفران، وترجوه الإصغاء الى نداء القساوسة الذين استدعتهم لكي لا ينتهي نهاية وثنية.

وأحدث ما قرأت عن رامبو في المسرح العربي مسرحية قصيرة (لا تزيد عن خمس عشرة صفحة) رفيعة المستوى للشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي بعنوان (ضجة في منزل باردي) نشرها مع خمس مسرحيات أخرى في كتاب بعنوان (الصعاليك يصطادون النجوم) ، الصادر عن مركز الحضارة العربية في القاهرة عام 2004. وباردي هو بيت قديم في كريتر بعدن، كان وكالة لبيع الحبوب، سكنه رامبو في أثناء إقامته في عدن بضعة أعوام. وتستند المسرحية الى مرحلة في حياة رامبو، وعلاقته بصديقه الشاعر الفرنسي فرلين الذي هجر زوجته وسافر معه، ثم أطلق عليه النار فأصابه في كفه، فعاد رامبو الى باريس ليكتب ديوانه (فصل في الجحيم). ولا تظهر شخصية رامبو أو اسمه في المسرحية، ولا يرد ذكره إلاّ بصفته شاعراً، في حين نسمع مقاطع من شعره على لسان بطل المسرحية (الرجل = فرلين) الذي يقرأ في مخطوطة (فصل في الجحيم):

فليقبل... فليقبل
الزمن الذي نتعشقه
مثل المروج عليها
النسيان انسدل
نمت وازدهرت بالبخور
فليقبل... فليقبل
الزمن الذي نتعشقه

ثم يبدأ باستذكار صديقه الشاعر الشاب الذي استضافه في منزله، فاحتفت به عروسه كثيراً أمام أنظاره، ونشأت بينهما علاقة ما نكتشف طبيعتها في نهاية المسرحية. ولكن الرجل وصديقه سرعان ما يغادران المنزل في رحلة، تاركين العروس وحدها. وذات يوم يتشاجران، فيطلق الرجل رصاصة على الشاعر ويصيبه في يده، فتحكم عليه المحكمة حضورياً بالسجن سنتين مع الأشغال الشاقة. وعلى الرغم من شفاء الشاعر فإن جرح الرجل لم يندمل، وظل بعد خروجه من السجن يبحث عنه وعن عروسه حتى وصل الى هذا المكان المهجور في عدن، وهو بيت نابت على البحر، مخضب برائحة السمك والحبوب والذكريات. وفجأةً تطرق الباب امرأة فرنسية تسأل عن شخص فرنسي يقيم في هذا البيت كلما وصل الى عدن، وقد اقترح المؤلف عبد الرزاق الربيعي شكلاً للبيت يتألف من قسمين، قسم علوي يمثل الخارج لتظهر فيه المرأة، وقسم سفلي يمثل داخل البيت ليظهر فيه الرجل. ويستغرق الحوار بين الشخصيتين المسرحية كلها، كاشفاً عن انشغال الرجل بالبحث عن مفتاح الباب، وضيق المرأة من الانتظار، واعترافها بأنها هي العروس التي هجرها الرجل، وأن علاقتها بالشاعر كانت علاقة غرامية (بذلت له فيها قلبها)، ولكنها تابت عن خطيئتها، وأصبحت (الآن قديسة في السماء). أما الرجل فإنه يوحي في حواره بأن رحيله مع الشاعر كان بدافع الحب أيضاً، فقد (كانت محبته مسحورة)! وهذا يطابق حقيقة العلاقة التي كانت تربط فرلين برامبو كما تكشف سيرتاهما.

ويوظف الربيعي في هذه المسرحية، ببراعة، بعض رموز ملحمة (الأوديسة) من خلال تشبه المرأة بشخصية (بنيلوب)، وبحثها عن (عوليس) على الرغم من التباين الكبير بين شخصيتي المرأتين، فها هنا تخون المرأة، وهي لما تزل عروساً، زوجها، في حين تظل (بنيلوب) وفية وفاءً نادراً لزوجها (عوليس) الذي غاب عنها عشر سنين كما تروي ملحمة هوميروس. ولعل من أبرز سمات المسرحية أسلوب حوارها، الذي زاوج فيه الربيعي، بمهارة، بين الشاعرية والتلميح والسخرية الهادئة، وهو أسلوب يأسر القارئ بسلاسته وروحه الدرامية