تلاشي الفرق بين الحاكم الوطني والمستعمر فكلاهما سجناء العظمة

هل يسعي الانسان الي العظمة أم أنها هي التي تسعي للانسان ؟ سؤال يصيب من يحاول الاجابة عنه بالربكة .. فالي أي حد تلعب الأقدار دورها في بلوغ الانسان العظمة التي ينشدها ؟ وحين تتحقق لماذا تتحول الي قلعة حصينة يري فيها الانسان من حوله من فوق أبراجها العالية .. ورويدا رويدا يتحول ساكن القلعة الي رجل تسكنه القلعة فتتحكم فيه فلا يسمع الا صدي صوته من بين جدرانها.
تدور مسرحية رجل القلعة حول قصة اعتلاء محمد علي باشا عرش مصر كأول حاكم ينصبه الشعب بارادته .. وبرغم خلو المسرحية من أي اسقاطات سياسية مباشرة الا أن المسرحية بمجملها هي اسقاط سياسي مباشر لما يحدث في واقعنا العربي فالمسرحية تحمل رسالة مباشرة موجهة لكل حاكم في محاولة لتوضيح العواقب التي يمكن أن تحدث له حين ينفصل عن شعبه ويسكن قلعته الحصينة فلا يري من محكوميه الا القشور ولا يسمع منهم الا ما يريد أن يسمعه وحين يشعر بخطأه وحاجته لمحكوميه ليقفوا بجانبه ضد القوي الكبري ينزل من علياءه ليجدهم وقد تحولوا الي مسوخ لا يعرفون في حياتهم الا مشاكلهم وقوت يومهم فقد قنعوا بدور المحكومين بلا ارادة أو رغبة في التغيير .
قدمت مسرحية رجل القلعة ضمن الاحتفال بذكري اعتلاء محمد علي باشا عرش مصر وقام ببطولتها توفيق عبد الحميد وأشرف طلبة من خلال النص الذي كتبه المؤلف ابو العلا السلاموني وقدمت علي مسرح الغد .
اخراج ناصر عبد المنعم الذي اختار أن يقدم المسرحية بأسلوب الفلاش باك حيث تبدأ و محمد علي باشا شيخ طاعن في السن يعاني من لوثة واقفا ينتحب أمام قبر عمر مكرم نقيب الاشراف تلك اللوثة تدفع زوجته لعمل جوقة زار وتدبير أمر تمثيلية الغرض منها محاولة اعادة الذاكرة للباشا واخراج محمد علي من لوثته العقلية مستعينة بأحفاد عمر مكرم وخاصة حفيده صالح الذي يشبهه تمام الشبه ومن خلال الفلاش باك نعرف سر عقدة الذنب تجاه السيد مكرم وهي نقضه للعهد معه بألا يسكن القلعة وأن يحكم مصر من منزله وألا يفرض ضرائب أو قوانين دون الرجوع لمجلس الحكماء ذلك العهد الذي اعتبره محمد علي الثمن للوصول الي عرش مصر الذي كثيرا ما داعب خياله.. وبعد أن تحقق حلمه بنجاح عمر مكرم في جمع 40 ألف مواطن مصري مسلحين لاسقاط خورشيد باشا الذي سبق ورفض التعهد بعدم فرض ضرائب جديدة دون الرجوع لمجلس الحكماء وكبار التجار و الصناع فكان قرار عزل خورشيد باشا هو القرار الذي استطاع الشعب المصري أن يفرضه بعد حرب شعبية استمرت شهرين رضخ علي اثرها الباب العالي لتعيين محمد علي واليا علي مصر .
لم يستطع محمد علي أن يقاوم اغراء الوصول الي القلعة أكثر من أربعة سنوات فلم يحافظ علي عهده مع عمر مكرم بألا يسكن القلعةلان مكرم كان يري أن من يحكم مصر من داخل القلعة لا يسمع الا نفسه فقد كان محمد علي يريد أن يظل الحاكم الاول وأن يبقي الفرد الذي يتحكم في الكل فلم يعد يروق له أن يكون الشعب هو البطل الاول ولا يصبح له فضل عليه بل أن يكون هو صاحب الفضل علي هذا الشعب حتي يظل أسيرا لفضله وعطياه وأن يقوم هو بحمايته والدفاع عن أرضه وهو ما وضح من خلال حزنه لنجاح الشعب في التصدي لحملة فريزر وجلاء الانجليز بسبب المقاومة الشعبية أثناء انشغاله بفوتحاته الخارجية فكان قراره بنقض العهد وفرض ضرائب جديدة والصعود للقلعة وتأليب العلماء علي عمر مكرم حتي نجح في ذلك واستصدار حكم من الاشراف بعزله ونفيه الي دمياط التي بقي فيها حتي وفاته ومن وقتها عاش محمد علي بعقدة الذنب لما فعله مع نقيب الاشراف .
كان حلم محمد علي أن يخلق من مصر دولة كبري لا تخضع للباب العالي فحلم العظمة كان المحرك الاول لمحمد علي في قيامه بضرب كل الثوابت والتوسع الذي هدد الباب العالي لتكوين امبراطورة كبيرة لا تخضع لاحد .. ذلك الطموح الذي ماكان ليغيب عن أعين الدول الكبري التي تحالفت مع الباب العالي للتصدي له ولاحلامه التوسعية وحين احتاج محمد علي للشعب لكي يسانده أمام الدول الكبري نزل من قلعته ليبحث عن هذا الشعب الذي تحول الي مسخ فلم يجد هناك شعب طيب فالحياة لديهم أصبحت تلاهي فكل منهم مشغول بهمومه الذاتية ففشل في استقطاب الشعب حوله بعد ان ابتعد عنهم لسنوات طويلة فلم يراهم الا من خلال أبراج قلعته العالية لينكسر حلم محمد علي ويخضع لتوقيع اتفاقية لندن والتي بموجبها تم سحب القوات الاجنبية مقابل بقاءه وأن يكون واليا لمصر وعكا .
وبمجرد التوقيع تنتهي التمثيلية ليصيح محمد علي quot; أين السيد مكرم quot; ليجد أمامه أحفاده السيد صالح وزينب .. ليقف في النهاية صارخا مذهولا وحدي رجل القلعة .. وحدي رجل القلعة .
لم ترو مسرحية رجل القلعة تاريخ محمد علي بقدر ما حاولت أن تكشف العلاقة بين الحاكم والشعب من خلال وقائع تم اختيارها بعناية توضح صراع الحاكم وسلوكه قبل انفراده بالحكم وبعده .. ففي الوقت الذي يتعهد بأن يحكم بالشعب ومن خلاله يتنازل عن كل وعوده بمجرد وصوله للحكم وتنقطع الصلة بينه وبينهم وبتخليه عن عهوده يتخلي الشعب عنه وحين يهبط من عليائه باحثا عن محكوميه لا يجد سوي مسوخ فقدوا الرغبة في الثورة والدفاع عن أنفسهم أولا قبل أن يدافعوا عن حاكمهم فقد ارتضوا أن يقفوا موقف المأمورين والخاضعين فلم يعد لديهم ما يدافعون عنه فالبلد والقلعة أصبحت حكرا لساكن القلعة فقد تلاشي الفرق بين الحاكم الوطني والمستعمر فكلاهما حكام القلعة وسجناء العظمة .

كاتبة المقال باحثة مصرية
[email protected]