تـُرى كيف استطاع هذا الأسمر القادم من صهد بغداد إلى (قـر) هولندا أن يندمج بكل هذه القدرة في تفاصيل الشخصية الهولندية، ملتقطا سماتها، ومتشربا هفواتها، نزواتها وسخطها فى أول عمل له باللغة الهولندية التى أجادها كما هولندي أصيل، لا كمتحدث لم تتجاوز معرفته بها بضع سنوات لا تؤهل أي شخص لإتقان هذه اللغة التى تعد واحدة من أصعب اللغات الأوربية.
الصغير يشغل الفضاء الهولندي بروح عراقية
أحمد الشرجي |
غم ثقل وزنه الظاهر أمام عين المتفرج إلا أن أحمد الشرجي استطاع أن يحلق كطيرعلى خشبة المسرح بخفة أداءه، وقدرته على التلاعب بشخصية الأب الهولندي ذو الأصل العربي، الذى كره ارتباطه السابق بجذوره الأجنبية البعيدة عن الروح الأوربية، مسقطا كل مفاسده ومباذله ونزواته على المهاجرين الجدد رغم أنه أسوأ منهم !
أما المخرج رسول الصغير صاحب التجارب الشبابية فى المسرح العراقي، والذي مر بمحن كثيرة كي يصل إلى هولندا منتصف التسعينات، مقتحمًا مسرحها على ما في ذلك من صعوبة بالنسبة إلى مهاجر بشكل عام وعربي بشكل خاص، فقد برز اسمه من خلال تجاربه المسرحية التي خاضها ممثلا، ومخرجا كما هي الحال في هذا العرض الذي لفت إليه نظر الهولنديين وجعلهم بكل حيادية لا يماطلون في اختياره ليمثل هولندا فى عمل يقدم بإسمها ضمن مهرجان هام مثل مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.
الخيوط هولندية والغزل عراقي. تدور ثيمة النص المعنون بـ (فاقد الصلاحية) والذي كتبه المؤلف الهولندي (خرتايس) حول عائلة هولندية تعيش فى حي أصبح ، مع الهجرة التى وفدت إلى هولندا مطلع الخمسينات وتأكدت فى مرحلة التسعينيات، مكدساً بالمهاجرين الاجانب مما يسقط نوعاً من التأثير على هذه العائلة (الأم خصوصاً) ببعض الأفعال التى قد تتماثل وأفعال المهاجرين (كاستخدام الطست لغسل الملابس)، لكنها تنشغل كباقي أفراد العائلة بتفصيلات أولئك المهاجرين متغاضية عن نزوات وعلاقات زوجها التى وصلت إلى حد المحرمات (إقامة علاقة مع ابنتها !) وبالطبع فإن (خرتايس) لم يخجل من عرض صورة المجتمع الهولندي الذي يتميز بانفتاحه وتحرره بشكل قد يفوق حتى المجتمعات الأوربية المجاورة له، فالهولنديين أول من سمح بزواج المثليين على سبيل المثال.
وتلك الأسرة التى يصورها (خرتايس) بأنها أسرة هولندية عادية قد تعيش كل المتناقضات وتمارس كل السلوكيات التى قد تكون غير مقبولة من الآخر، تأكدت لنا متناقضاتها بدلالات بثها رسول الصغير لتعبر عن الامتعاض والاعتراض الذي تمارسه الأسرة في نبذها للآخر (المهاجر) واحتقاره.
مسح رسول الصغير النص بعقله قبل أن يقرأه بعينيه واستخرج منه ما يتناسب ورؤاه الخاصة، فلم يجعل للنص أي سلطه عليه، مضيفا له لمسات بدت واضحة، خاصة فى تعامله مع الأم والتى مثلت دورها الفنانة الهولندية (أووكي) فاستطاعت أن تتعامل مع الشخصية ببرود هولندي يتعامي عن الأساسيات ويتوقف عند صغائر الأمور، ويحاول أن يلصق وبأية طريقة قطع الزجاج المهشم الذى تكسر مع انغماس العائلة فى نزواتها، فبدت نظراتها مركزة للخارج بقوة، في حين جاءت مشتتة وهائمة في نظرتها للداخل، وكأنها تريد أن تقنع ذاتها بأن كل مشاكلها قادمة من الخارج !
ولعل ما يثير الإعجاب أن رسول الصغير لم يحاول أن يسقط بالقوة عراقيته على العرض، خاصة فى طريقة الأداء والحركة والحوار، بل جعل العرض (مسترخياً) كما هي حالة الشخصية الهولندية التى يصعب أن تثار أو تنفعل عند حدوث المشاكل، بل حتى في اللحظة الوحيدة التى ارتفعت فيها حرارة الشخصية تلك، جاءت من الأب الذى ينتمي لأصول أجنبية (وإن كانت بعيدة) وانغمست تلك اللحظة بحس جنسي برز فى قيام الأب بتلطيخ وجه البنت بالطعام مثلما تلطخت بعلاقتها السرية معه وعلاقتها المريبة مع زميلتها !
إن (خرتايس) ومن بعده رسول الصغير حاولا أن لا يغلقا أعين المشاهد عما يمكن أن يجري عند بعض الأسر الهولندية، وأن بدا ذلك غريباً ومستهجناً على الحس الشرقي، أو كما يقول رسول الصغير فى أحد لقاءاته الصحفية حول عرضه المسرحي هذا (بصراحة كانت هذه اللحظات بالنسبة لي رائعة، لأنها تعكس بحق كم نحن مختلفون رغم أننا نعيش على أرض واحدة).
عراقي بلغة هولندية
(فاقد الصلاحية) الذى أُستبدل فيه الديكور المتعارف عليه لبيت هولندي بمجموعة من القطع أكد فيها المخرج حالة التشرذم والخواء التى قد يعيش بها بعض الهولنديين جراء رغبتهم فى اختيار العزلة عن الآخر، قطع تجمع بين الكتب المبعثرة وقطع الكرتون وحبل الغسيل الذي علقت عليه صور أفراد العائلة التي افتضح أمرها وشاع كالملابس المنشورة على الحبل أيضا، بالاضافة لطست الغسيل المليء بملابس لا تريد أن تنظف رغم دعكها المستمر من قبل الأم.
والبيت وإن بدا غريباً عن النسق الهولندي المعروف بذوقه، واهتمامه حتى بالتفاصيل الصغيرة إلا أنه جاء تعبيراً عن الحالة النفسية التى تعيشها هذه الأسرة ورغباتها المدفونة التى لا تكف عن إلصاقها بالآخر فى كثير من الأحيان بدلا من أن تنظر إلى دواخلها.. الأب فى هذا العمل (أحمد الشرجي) لفت الانتباه إلى قدرته على هضم روح الشخصية الهولندية حتى فى الأداء وجاء الاستغراب كبيراً من مشاهدي العرض حين علموا بأن هذا العمل هو الأول للشرجي باللغة الهولندية التى استطاع الإنسجام معها حتى فى لحظات التوتر وتوهج النزوات والعنف الذي جسده بكل جدارة من خلال عملية التنفس التي قدمها ضمن لحظات ساكنة، فبدت الحالة تشبه إلى حد كبير لحظات الموت التي يتصارع معها مريض في غرفة الانعاش.
وباستثناء لعبه على وتر (الالقاء) الذي درّسه الشرجي سابقا في أكاديمية الفنون في العراق، نجده في المقابل قد أفلت وبجدارة كل تاريخ فن الأداء العربي الذى تعلمه ومارسه بشكل واسع فى العراق على صغر سنه، ليصبح هولندياً كما تتمنى الشخصية،لكن المخرج والممثل لم ينجرفا وراء هذه الرغبة، فعلى الرغم من تميز جزء كبير من الشعب الهولندي وهم أهل (سيرونام) باللون الأسمر، مما يجعل من السهل عليه التوحد مع رغبات شخصيته، إلا أنه يظل يذكرنا بأصوله العربية قاطعا علينا هذا التوحد بقدرات رائعة أهلته ليكون أحد المرشحين لجائزة أفضل ممثل في مهرجان شارك بــه عشرات الممثلين من جميع بلدان العالم.
إن ترشيحه لهذه الجائزة دليل على تميزه، رغم صعوبات التعاطي مع لغة جديدة على خشبة المسرح لأداء شخصية مختلفة أمام جمهور تمسه هذه الشخصية أكثر من ارتباطها بمؤديها (قدم العرض في هولندا لأكثر من عشرين ليلة وباقبال كبير من الجمهور الهولندي) مما جعل أحمد ذاته يشعر بأنه في كل عرض من هذه العروض وكأنه يمثل للمرة الأولى، ورغم ذلك إلا أن الشرجي نال استحسان الجمهور والنقاد والفنانين الهولنديين الذين أثنوا على العمل فقدم بعدها كثيرا داخل وخارج هولندا.
لكن العروض التي قدمت في هولندا جاءت بأداء ممثلتين مغربيتين بجانب الشرجي، في حين قدم عرض القاهرة بممثلتين هولنديتين هما (أووكي ndash; الأم) والممثلة الهولندية (آنا ماري) التي قامت بدور الابنه، فملأت فضاء المسرح بحركتها وخفة أداءها رغم ضآلة جسدها، كما علقت بها أذهاننا بانسجامها مع شخصية البنت المنفلتة، خاصة فى علاقتها الباهتة مع الأم والمتوغلة مع الأب.
بهذا العمل أثبت رسول الصغير، أنه (كبير) بفنه، فاستطاع أن يتحول من مجرد شخص يبحث عن ملاذ آمن بعد أن أنهكت بلده بنزوات الحاكم وسواد الحروب، إلى فنان قادر على منافسة الهولنديين فى عقر دارهم، بل أنهم اعترفوا به فناناً كبيراً حين كرمته فرقته الهولندية (إلبا) المسرحية بإطلاق اسمه على أحد أعمالها (رسول أس) وكرمته هولندا واختارته ليمثلها فى أحد أهم المهرجانات المسرحية التجريبية فى العالم.
وتجارب أخرى على المسارح الأوروبية
إن تجربة المسرحية الهولندية (فاقد الصلاحية) بطاقم عراقي القيادة لرسول الصغير، وبمشاركة تمثيلية متمرسة لأحمد الشرجي، وقدرات الهولنديتين أووكي، وآنا ماري، أثبتت أن المسرحي العراقي استطاع أن يبدع ويتألق في مجال المسرح الأوربي مخترقا بكل جدارة أجواء كانت ولسنوات طويلة من الصعب اختراقها، في دول أوربية غير ناطقة بالانجليزية أو الفرنسية، وهذا ما بدا واضحا في تجارب د. عوني كرومي في المسرح الألماني، وقاسم بياتلي في المسرح الايطالي، وصلاح قصب ورسول الصغير في المسرح الهولندي وغيرهم الكثير.
التعليقات