شهادة
من واقع تجربة على ضفتين مختلفتين تماما في العمل المسرحي وجدتني مشدودا إلى تدوين بعض ما مر من تجارب واجتهادات في تجربة عمرها عشرين عاما قسمت إلى قسمين متساويين بالكم مختلفتين بالمعرفة ,تخللتها إخفاقات واجتهادات,نجاحات وأفكار تأجلت أحيانا وطبقت أحيانا...لكن في مجموع هذه الرحلة كانت المعرفة دوما خصمي العنيد الذي حاولت ولا زلت أحاول وسأظل أحاول التفاهم معه.
في العراق هذا البلد الذي أنتج ما أنتج من المعرفة المسرحية التي كانت دوما في مقدمة النتاج المسرحي العربي من خلال النصوص المسرحية والأعمال المسرحية ورجالات الفن المسرحي العراقي الذين أسسوا لنا ركائز متينة وخزيناً معرفياً كان دائما سلاحي الذي أحاور به كل ما يطرأ علي من الفعل المسرحي الذي سيأتي .
العراق البلد الذي درست فيه أبجديات الفن المسرحي على يد نخبة من خيرة مسرحييه وعملت مع أفضل ما مر في تجربتي المسرحية من ممثلين ومخرجين وكتاباً وحتى المساعدين؟
كان خصمي أيضا حاضرا فالمعرفة هي النجمة المضيئة التي كنت أريدها دوما وأظن أنني بذلت جهدا كبيرا في التعلم من كل من صادفته أو قصدته فتشكلت لدي مخيلة ومعيناً لازلت اجزم انه خير متاع في الرحلة القادمة التي لم أكن قد خططت لها يوما أبدا لكن المصادفة وحدها هي التي قادتني إلى هولندا البلد الأوروبي المترف بالمسرح والفنون والذي لم أكن اعرف عنه سوى رسامين هما فان خوخ ورامبرانت ولاعبي كرة قدم هما كرويف وفان باستن..لا شي أكثر من ذلك...................
هولندا..
هذا البلد الذي ينبض بالفن والمسرح يتطور فيه كل ثانية..لا يشبه أبدا تلك المخيلة التي جئت بها .....أنا ابن مدينة الثورة وخريج أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد.(واقصد هنا المخيلة المسرحية) لهذا اخترت عنوان المقالة ..المسرح فن الاسترخاء.
المسرح فن الاسترخاء
مما لاشك فيه ومثلما تعلمنا ان المسرح هو فن المتعة والدهشة والخلق وان عنصر أو فرضية الاسترخاء هو الأساس الذي يبنى عليه الفعل التمثيلي وعلى رغمٍ من سعة كلمة( استرخاء) لكنها صنو الممثل الدائم,عندما كنا طلاب نتدرب على فن التمثيل كانت كلمة الاسترخاء حاضرة بكل قوة قي معظم توجيهات الأستاذة والمخرجين وفي الإعداد أيضا للتمارين كان أول ما نبتدئ به هو الاسترخاء وهذا دليل على أن كلمة الاسترخاء لها حضورها في الفعل المسرحي وعلى الممثل بالذات فما هو الاسترخاء ؟
ببساطة تلقائية التمثيل ..أي على الممثل أن يمارس فنه في تلقائية عالية تساعد في إنضاج فعل الإيهام الذي سيواكب العرض المفترض أي أن الكلمة مرتبطة كثيرا بالفعل التمثيلي وبالتالي بالممثل ولكن كيف يمكن أن يكون الاسترخاء في مشهد متوتر أصلا كل العصبية والصراخ والهلع التي يتطلب أداءها جهدا أخر من الممثل وهنا بالتأكيد سوف يصطدم معنى كلمة الاسترخاء بالفعل المراد .
هنا كانت العقدة الأساس التي جعلتي ابحث عن المعنى الاسقاطي وليس الحرفي للكلمة وماهيتها .
في مسرحية الخادمات كانت مفردة الاسترخاء هي الند الحقيقي لنا كمجموعة عمل فالمسرحية تنصب على فعل المؤامرة والتربص والتخطيط والقتل والسرقة أي إن مجمل أفعال المسرحية ليست لها علاقة بكلمة الاسترخاء بالمفهوم العام للكلمة أو على الأقل بدلالتها.
هنا لفت انتباهي إننا في الغالب عندما نشاهد المسرحيات الجادة نسمع الكثير من الصراخ ونرى الأداء المتوتر للحركات والأداء المتشنج للمثل وخصوصا في الأدوار الجادة وكان السؤال لماذا كنت أنا امثل بهذه الطريقة وأين فعل الاسترخاء في أدائي ولماذا كنت انظر إلى تمثيل زملائي بعين الرضا بينما ألان وفي مسرحية الخادمات ارفض هذا النوع من الأداء وابحث عن شكل أخر للأداء وأحاول أن أجد شكلاً لا يخدش الإذن ولا العين وفي الوقت نفسه يقدم الفعل المضطرب بشكل فني منحوت بدقة وغير فاقد لمقوماته ..
هذه الجدلية جعلتني أجد سؤالاً مهماً هو هل تلعب بيئة وظروف الممثل المحيطة دورا في طريقة تمثيله سيما والنظريات والطرق المسرحية معروفة في كل العالم ...سؤال أخر لماذا اختلف شعوري عندما شاهدت عروضاً مسرحية كلاسيكية مثل مكبث وعطيل هنا في هولندا عما شاهدته في العراق فقد كان عندي شعوران مختلفان حقا وكان لكل طعمه الخاص ولكن بالتأكيد كان هناك اختلاف كبير أيضا فقد أنعم العرض هنا بسكينة غاية في الأناقة والانسيابية والتصاعد الدرامي هنا ينساب بدفء وتلقائية (العرض المسرحي له رنين ولا يخرج أبدا عن محيط الرنين)..والقصد هنا ليس المقارنه عن جودة العمل هنا وهناك أبدا لكن طريقة أداء الممثل هي بيت القصيد وطريقة تقديم العرض المسرحي..
وكان هذا هو السؤال الذي سألته ببراءة لزملائي في المعهد العالي للمسرح في اوترخت وكان الجواب مدهشا ...الاسترخاء ..الاسترخاء....مرة أخرى تستفزني هذه الكلمة وأعود بذاكرتي واضحك فكيف فاتتني هذه البديهية وهي حاضرة معي كل يوم فبمقارنه بسيطة اكتشفت أننا عندما كنا نتدرب على المسرح في العراق عادة ما نبدأ بتمارين الاسترخاء بينما هنا في هولندا يبدؤون بتمارين الإحماء(التسخين) فيا للمفارقة. وبعودة سريعة إلى تاريخي الشخصي كفرد يعيش في مجتمع وينهل منه مادته المسرحية ومراجعة الظروف التي كانت تحيطني والتي كنت اصل بها إلى قاعة التمارين أيقنت أن البيئة لها فعلها الحقيقي الذي ينعكس على الممثل ويلعب دورا كبير في طريقة تأديته للدور...
في بلد مثل العراق تعمه الاضطرابات وعدم الاستقرار منذ 40 عاماً أو أكثر كيف يمكن أن يكون المرء مسترخيا وكيف ممكن أن تتربى العين على جماليات تتفاعل مع فن الاسترخاء لذا فاسترخاؤنا كان في معظمه محاولة استرخاء عضلية وليس استرخاء فنيا حقيقيا ,,,إذا نحن كنا نمثل فعل الاسترخاء ولم نملكه يوما كمفردة من مفردات حياتنا لما هو الحال للمثل الهولندي..نحن كنا نتدرب على الاسترخاء ولكنا كنا نفتقده ولان لا اعرف كيف كان أولئك الممثلون الكبار الذي قدموا لنا خيرة الأعمال لا اعرف كيف كانوا يمثلون في ظل كل ذلك التوتر القائم.. والان أيضا أدركت لماذا كنا نظن أو على الأقل تعلمنا إن المعاناة هي التي تصنع الفنان ..هذه الخرافة التي أوهمنا بها.وكأنما محرم على فنانينا أن يعيشوا بكرامة .
إذا مرة أخرى الاختلاف في المفاهيم .....................
فهنا في هولندا البلد المستقر تتكفل القوانين بحل معظم أمور الحياة اليومية فالحياة تقريبا مضمونة بنسبة كبيرة ولذا إن الاسترخاء هو سلوك نما وينمو مع الفرد كائن من يكون وللفنان (الهولندي)وضع جيد يتمتع به وتكفله له القوانين وليس النظام السياسي لذا إن عامل الاسترخاء موجود أصلا عند الممثل الهولندي وبالتالي سوف يفسر الدور من خلال خلفية متوازنة لذا من النادر إن يؤدي الممثل المحترف دوره إلا و يكون الاسترخاء تلقائيا قاسم الأداء المشترك فيختفي التشنج و الصراخ على رغمٍ من طبيعة الدور............
إذا ستدور يوميات تمارين مسرحية الخادمات بهذا الجو, أي إن مفهوم كلمة الاسترخاء هو الحقيقة التي ستكون مختبرنا لتقديم عمل مسرحي فيه الكثير من الاضطرابات وكنت شخصيا أتمتع كثيرا في التمارين وخصوصا في المشاهد التي تتطلب جهدا لإنشاء توتر ما آو تقاطع ما وكنت انظر إلى هذه الممثلة التي تتكور وتستقيم تصرخ وتهمس بنفس القدر من كمية الاسترخاء الجليل الذي يهيمن على طريقة أدائها الساحر والى تلك التي تبقى متيقظة وواعية لأدائها في مختلف حالات الدور الصعبة والسهلة ,,المتصاعدة والتنازلية ويبقى الجسد شامخا منتصبا لا غبار من التعب علية لأنه وببساطة لم يبذل جهدا كي يمثل الاسترخاء بل هو كان مسترخيا تماما كي يمثل دوره وهذا هو الفرق................
هنا تعود الدائرة مرة أخرى فالحياة الشخصية الخاصة للمثل والبيئة والعادات والتقاليد المحيطة في المجتمع تتحكم كثيرا في طريقة تناول الأشياء وفهمها وبالتالي تحدد وتشكل طريقة أداء الممثل .
في أول لقاء مباشر بجمهور عراقي وبعد انقطاع دام أكثر من خمسة عشر عاماً كانت هناك فرصة غير اعتيادية لجس النبض وكانت تلك الفرصة هي مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة وكنا مشاركين في مسرحية هولندية اسمها فاقد الصلاحية وهو نص هولندي والممثل الرئيس عراقي هو احمد شرجي وممثلتين هولنديتين ومصمم الإضاءة ومنفذها هولندي كذلك الديكور لفنانة هولندية..كنا في غاية الشوق وأنا على وجه الخصوص لمعرفة انطباعات المشاهد العربي لعملنا وسيما المشاهد العراقي (كانت أول الإشارات جاءتنا من فناننا الكبير المخرج المسرحي المعروف المبدع جواد الاسدي ...إن المشاهد العراقي هو أصعب مشاهد وهو الميزان الحقيقي لجودة العمل...) كانت هذه الوصية بمثابة جبل كبير إمام أعيننا ..
إذا كيف سينظر المشاهد العربي إلى هذا النتاج الهجين بمجموعة ثقافات وتقاليد ,,التحدي الأخر الذي واجهني ان أساتذتي في المسرح العراقي كانوا هناك أيضا فمنهم من درسنا كا الدكتور عقيل مهدي والدكتور حسين علي هارف ومنهم من كان له الفضل على تكويني في فرقة المسلح الفني الحديث استأذنا الكبير يوسف العاني وكان هناك أيضا زملائي في الفرقة القومية ممن رافقوا بداياتي .المهم كان المعادلة صعبة جدا وكنت انظر إلى كل هذا من خلال عرض مسرحي أنتجناه نحن مجموعة فرقة المسرح الحديث في هولندا..كان قلقنا منصب ليس حول جودة العرض أبدا لكن من طريقة استقبال هكذا عرض بذلنا قصارى جهودنا طوال مدة التمارين في البحث عن شكل مسترخي لعرض متوتر..
بعد العرض كانت النتائج بالنسبة لمشاهدي العرض مثلما توقعنا تماما حيث أجمعت معظم الآراء على أن العرض كان سلساً وممتعا ..وأنيقا..وهذه المفردات بالنسبة لفريق العمل كانت جد مهمة لأنها سوف تساعدنا في بحثنا المقبل..
سمعنا أراء جيدة جدا وكانت تلك مكافأة في غاية النضوج والطزاجة ...لم يتكلموا معنا عن لغة العرض وهي ليست عربية بل كانت هناك مناقشات حول طريقة التمثيل في المسرحية وقد نال الفنان العراق احمد شرجي الكثير من الإطراء كونه ممثلا عراقياً له أعماله في العراق وكانت المقارنه مابين طريقة تمثيله سابقا ولاحقا هي بالضبط السر الذي كنا نريد أن نؤكده وهو إن الفنان العربي أو العراقي ليس قاصرا لكن يجب توفير الأرضية له كي ينعم بالاستقراء واتركوا لمخيلته خلق الإبداعات.
لقد انتبه الجمهور إلى كل تفاصيل العرض من ديكور وأزياء وحركة وإضاءة وكل جزئيات العرض وهذا ما يوفره الاسترخاء الذي انعكس من خلال العرض إلى المشاهد أيضا وبهذا تتوفر المتعة التي هي جوهر العملية الإبداعية.
في الحقيقة كانت هناك حزمة من الاسترخاء أطرت العرض المسرحي وبالتالي لم يكن المشاهد غائبا أو مستلبا بل كان واعيا لمجمل ما يراه ويسمعه وخصوصا طريقة أداء الممثلين.....في مشاهد التوتر كان التعبير الصوري بديلا عن توتر المشهد سواء بالصوت أو الفعل الحركي ومن المفارقات الجميلة إن بطل المسرحية احمد شرجي كان قد مثل في العراق وهو ممثل مسرحي معروف وبالنسبة لزملائه الذين شاهدوه في هذا العرض كانت لهم أراء في غاية الأهمية حول طريقة أدائه للدور وكيف انه حافظ على خصوصيته كونه ممثلاً تعلم في العراق ومارس التمثيل هناك وهنا إشارة تستحق الانتباه أي أن الممثل لم يستعِر طريقة جديدة في الأداء بل هو استثمر الجو النفسي المتاح له في مكانه الجديد وأدى الدور بطريقة أخرى كان للاسترخاء حصة كبيرة منها فلم يكن احمد ممثلاً بهوية محدده سواء أوروبي أو عربي بل كان ممثلاً وحسب وهذا بنظري هو بيت القصيد لأننا كنا كثيراً ما نقف أمام هذا السؤال في أثناء تدريباتنا على المسرحية وكنت أتعرض لهذا السؤال كلما أقدمت على تجربة جديد وكان جوابي الذي أؤمن به ..أن لا فرق في المسرح في أي بلد كان وإنما الظروف والبيئة والتقاليد هي التي تحدد ضوابط الفعل المسرحي التي سيسير عليها المبدع المسرحي ...
إن الممثل في المنطقة العربية يدفع دائما ثمن اضطراب بيئته للأسف لكثرة التابوهات ومن حسن حظ الممثل الذي يعمل في الضفة الأخرى انه يستثمر كل الاستقرار الذي تمنحه الظروف التي يعيشها سياسيا واجتماعيا وثقافيا والعالم المتسارع بالتطور هي التي تجدد ملامح ونوعية وطريقة اشتغاله....
وهنا أود الإشارة أيضا إلى كثير من المفاهيم والأفكار التي سوقت لنا واستقبلناها وعملنا عليها وصارت قوانين ومنها إن المعاناة في التي تصنع الممثل او الفنان عموما وان الفنان دوما هو المحروم والفقير الخ وهذا في ظني لا أساس له من الصحة على الإطلاق لان الفرق مابين الواقع والواقع المتخيل هو الزمن الذي نعيشه لا أكثر..وهذا الزمن هو عصارة الجهود التي بذلها الممثلون للوصول إلى أدوارهم فليس من الضرورة أن يمثل الفقير دور الفقير كي يجيده لان ذلك يخل بفرضية الخلق والإبداع في الفن ويبدو لي إن إذلال الفنان هو وسيلة السلطة في إعاقة النمو الثقافي لديه أو تأخيره بغية تغييب الوعي لان الفنان في منطقتنا هو صنو الرفض دوما من وجهة نظر الحكام وهو بظني ليس دوره البتة.............
تقاليد مسرحية
في مسرحنا العربي عادة ما توزع الأدوار حسب معرفة المخرج بمجموعة من الممثلين أو من خلال ترشيحا من قبل المقربين,,, في هولندا العملية تختلف كثيرا فهنا يلعب الاختبار دورا رئيسا في العملية الفنية حيث يقوم المخرج باستدعاء مجموعة من الممثلين على التنافس على ادوار المسرحية سواء كانوا محترفين أم هواة(طبعا هذه ليست قانون أو قاعدة ولكن عرف سائد) والهدف من الاختبار هو ليس اختبار إمكانية الممثل بل مدى ملاءمته للدور وهذا الأمر ينطبق على المخرجين أيضا حيث تستدعي فرقة ما مجموعة من المخرجين لاختيار مخرج يقوم بإخراج مسرحية لهم وهذه العملية ليس فيها ما يعيب هنا على الإطلاق بعكس تقاليدنا في العالم العربي باعتقادي الشخصي هذه تجربة تمنح الدور والممثل استرخاء آخر كونه خاض تجربة الاختبار وتخلص من عملية الضغط النفسي التي ستواكب العملية الفنية فهنا مجمل الهدف العام لإنتاج العرض المسرحي هو المتعة نعم المتعة فهي أهم شرط من شروط النجاح بالنسبة للعرض المسرحي أولا لكثرة المعروض ثانيا للتفرد بالنوعية وثالثا للتنافس على الحصول على دعم الدولة للأعمال وللأسف أن المتعة في مسرحنا العربي تأتي في ذيل الاهميات لأننا لازلنا مثقلين بأعباء السياسة والتوترات والحروب لذا سيظل التوتر سيد الموقف وسنظل نحلم بالاسترخاء وهذا هو بيت القصيد.
التعليقات