لرقص السنغالي يرسم خطوطاً نحو الحرية

من أمستردام صالح حسن فارس: يعتبر الرقص من أجمل وأرقى الفنون التعبيرية التي ينطق بها الجسد لغته، فالجسد كان ومازال من أهم ادوات العرض ومركزه منذ الرقصات التعبيرية الأولى في الطقوس والشعائر الدينية التي كانت تقدم من قبل الراقصين للالهة ضمن طقوسها الخاصة. وأستمرت التجارب المسرحية القديمة والحديثة بالاعتماد على لغة الجسد سواء كان ذلك بالايماءات أوالحركات أو الرقصات التعبيرية للافصاح عن قصة توصل رسالة الى المتلقي. لغة الجسد لغة قائمة بذاتها فلم تكن الكلمات يوماً هي اللغة الوحيدة التي تستطيع أن تعبر كل شئ وهو ما أكده الفنان الروسي (مايرهولد) إذ قال: quot;إن الكلمات لاتستطيع أن تقول كل شئ في حين أن حركات الأيدي وأوضاع الجسم والصمت والنظر هي التي تشير إلى حقيقة العلاقات المتبادلة بين الناسquot;.
إن عالمية لغة الجسد لاتحتاج إلى مترجمين، هذا ما كشفه لنا ليلة أمس العرض الراقص بعنوان (اورتان) والتي تعني (جدل لا ينتهي) بلغة الفولف المحلية السنغالية الذي قدمته فرقة (يان- بي) والتي تعني الشمس.
تدور أحداث المسرحية الراقصة التي قدمتها الفرقة على المشاكل السياسة والاجتماعية والثقافية في السنغال بشكل خاص وافريقيا بشكل عام بأطار فني أعتمد على الرقصات الحديثة والفلكلورية على انغام الموسيقى والإيقاعات المكونة من الأصوات والهمهمات وقليل من أستخدام اللغة الشعبية السنغالية التي لا يفقهها الجمهور ولم يكن ذلك عائقاً لتفسير الحركات الجسدية الراقصة بل ترجموها بكل حرفية المترجم الخبير وأخلاصه لعمله .
كتبوا عملهم بأجسادهم، محولين يومياتهم ومعاناتهم الحياتية القاسية والظروف السياسية التي تحيط بهم إلى رقصات عنيفة تروي الاحداث عبر حركات الجسد.
بمشهد استهلالي صامت يعتمد الحركة نرى ممثلا جالساً على المائدة يصوغ من حركاته البديعة رقصات كوميدية حيث أنعكست حركاته على الشاشة الخلفية التي هي عبارة عن (خيال الظل).
من هنا تبدأ ولادة العرض الراقص الذي قُدم على قاعة (مسرح الموسيقى) بمدينة أمستردام. ويندرج هذا العرض ضمن عروض الرقص الحديث التي شاركت في تصميم رقصاته الفنانة السنغالية (جيرماينا اكوني). وتبعه لوحة راقصة آخرى شديدة الشبه برقصة الهيوة المعروفة في جنوب العراق والخليج. قدم الراقصون هذه الرقصات وهم حفاة الأقدام كأنهم يريدون أن يلمسوا حرارة الأرض على إيقاعهم الإفريقي الذي سحروا به الجمهور طيلة العرض. وليستمر العمل بمشاهده الجماعية والفردية المتنوعة.
في كل لوحة راقصة تتغير الإضاءة وتنقلنا الأجواء إلى مكان وزمان الرقصة مع آهات الجسد وإنكساراته وإبتهاجاته ، مما أضفى على العمل روحية ملونة تؤطرها حياة الراقصين الغامضة المبتهجة والعنيفة.
كما قدمت الفرقة عدة لوحات فنية متنوعة راقصة رافقتها الموسيقى على الطبول الافريقية الحية التي كانت تُعزف على المسرح وتتجلى عبرها سخرية لاذعة للأوضاع السياسية في السنغال.
ويمكن أن نذكر هنا لوحة رقصة quot;الثعبانquot; وهي رقصة منفردة لأحد الراقصين سحرت الجمهور. تحول الراقص إلى ثعبان دون أن يتعكز على أية وسيلة مساعدة تعينه. توهج الجسد وتلوّن مثل أفعى. لاشئ سوى الجسد وعموده الفقري. (العمود الفقري هو ثعبان الجسد).
كان الرقص بالنسبة لهم هو اللغة الوحيدة التي يعبرون فيها وكما يقول quot;شلدون تشينيquot; في كتابه تاريخ المسرح في ثلاثة الاف سنة: (الرقص هو أقدم الوسائل التي كان الناس ينفـّسون بها عن انفعالاتهم، ومن ثم كان هو الخطوة الأولى نحو الفنون. الرقص هو الأصل الذي تفرعت عنه جميع الفنون ).
بكل خفة ورشاقة ومهارة عالية كأنهم طيور أفريقية وحشية تعانق السماء في جنون وهلع إلى حد تسرب جنونهم الى الجمهور. على مدى خمس وأربعين دقيقة أهدوا الينا ما تعلموه وأحبوه في سنوات من الرقص الافريقي الخالص وايقاعاته السريعة المعروفة.
عمل راقص لسبعة فرسان أفارقة وسبع حكايات فردية ومشتركة تحكي عن التفكك السياسي في افريقيا واضطهاد الشعب، إنها رحلة سياحية بالجسد تتخللها عشرات الرقصات والموسيقى الافريقية المعروفة بايقاعها السريع الذي انفعل معه الجمهور وكانت حركات أقدام الراقصين البارعة هي الاكثر إدهاشاً في هذا العمل.
نعم انها حركات اقدامهم في الفضاء كان لها تأثير واضح وجلي في أن يسرقوا أنتباه الحضور وأدهاشهم. حيث إنهم بذلوا جهدا هائلا من أجلنا كأنهم طيور زاهية الالوان تحلق فوقنا ومن أجلنا. بايقاعات أشبه بدقات القلب التي خلقت حيوية وبهجة أحتفالية. كانت حركاتهم الراقصة مرسومة بدقة متناهية وتنطوي على شئ روحاني قادم من الطقوس الشعبية المتوارثة و مفعم بالطاقة والحيوية للاجساد الافريقة التي جمعت أصالة تراثها وقدمته لنا على شكل قطعة فنية نادرة.
ينتهي العمل برقصة سنغالية بامتياز قام بادائها جميع أعضاء الفرقة، لحظة صمت ثم يتحول العازفون الذين كانوا جالسين على يسار المشاهد إلى مصورين فوتوغرافيين، التقطوا صورأ للراقصين، كأنهم يريدوا أن يوثقوا العمل في ذاكرتنا إلى الابد، وهذا ما فعلوه حقاً، أو كأنهم سواح يلتقطون صورا تذكارية للراقصين. وكأنهم أرادوا أن يقولوا لنا ليس هناك من أمل الا بمواجهة العنف السياسي بالرقص وعنفوانه.
بقي أن نشير إلى ثغرات بسيطة ربما لم تنتبه اليها مصممة الرقص، وهي أن العمل قد هبط أيقاعه بعد أن تكررت بعض الرقصات مما جعلها مملة، وكذلك غياب العنصر النسوي الراقص.
تأسست الفرقة عام 1998 في السنغال بمبادرة من الفنانة السنغالية quot;جيرماني اكونغنيquot; التي زارت هولندا مؤخرا وهذه الزيارة الثالثة لها. من أعمالها: العجوز الرائعة، والمرأة والطفل، وتعتمد الفرقة على المزج بين الفولكلور والمعاصرة في تقديم أعمالها الراقصة. تضم الفرقة راقصين من بلدان أفريقية مختلفة وحققت حضوراً فنياً في العالمين الافريقي والغربي .