السر هو في ضعف العراقيين

طالما سمعنا في العراق بان شهر تموز (يوليو) هو شهر الثورات وقد احتفينا قبل ايام بذكرى ثورة 14 تموز، ولكنه أيضا شهر الانقلابات بل وأسوأ الانقلابات في تاريخ العراق الحديث، عندما استطاعت مجموعة من الانقلابيين من حزب البعث اقناع عبد الرحمن الداود آمر لواء الحرس الجمهوري (المحيط بالقصر الرئاسي) وعبد الرزاق النايف رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية بالانضمام اليها لاجبار عبد الرحمن عارف على الاستقالة او بالاحرى على التنازل لهم عن رئاسة الجمهمورية، وذلك في 17 تموز 1968. وكان عبد الرحمن عارف الضعيف الشخصية قد استورث رئاسة العراق بعد مقتل أخيه عبد السلام عارف وذلك بقرار سعيد صليبي وطاهر يحيى التكريتي وبقية اعضاء العصبة القبلية العسكرتارية التي حكمت العراق بين 1963 و1968. ويشكل انقلاب 1968، بداية جديدة لصدام حسين الذي عُـرف قبل الانقلاب بكونه مسؤول مجموعة الاغتيالات في حزب البعث أي ما سمي بالجهاز الصِدامي، فهو الذي شهَرَ مسدسه فجأة أثناء غذاء عمل! تعود البكر على الدعوة له وقام بتوقيف رئيس الوزراء، عبد الرزاق النايف، فكان الانقلاب "التصحيحي" يوم
30 تموز اي بعد 13 يوماً فقط من الانقلاب. وسيصبح صدام بسرعة كبيرة نسبياً نائب رئيس الجمهورية، دون ان يكون صاحب خط فكري سياسي ولا زعيم خط عسكري، ثم صعد الى رئاسة الجمهورية، في تموز 1979، على جثث العشرات من القيادات البعثية والحكومية وبعد تنحية البكر الذي قتل فيما بعد في ظروف غامضة.
لذلك ينبغي التشجيع على محاولات التحليل الموضوعي للتعرف على كيفية نجاح أفراد هذه العصابة في تسلم حكم العراق العظيم والمحافظة عليه، للاستفادة من هذه المعرفة لاضاءة تجاربنا المقبلة، فالامة التي تهمل ماضيها كما هو معروف هي أمة تستمر في فشلها ونكوصها. ولذلك يهدف هذا المقال الى طرح بعض الأسئلة والأفكار التي تساعد على اثارة النقاش وتقريب المواقف نحو فهم موضوعي لهذه الظاهرة أي وصول هؤلاء الى السلطة بعد أقل من خمس سنوات من سقوط تجربتهم الدكتاتورية الدموية عام 1963، ثم نجاحهم في الاستمرار فيها رغم قلة عددهم (300 عضو) وكراهية الشعب العراقي لهم. وللتذكير فقط، فان صدام التكريتي ارتقى السلطة في خضم هذه العملية الانقلابية لأنه بدونها لم يكن لأحد أن يعرفه بهذا الشكل لا في العراق ولا في بلدان العالم.
هناك طبعاً امور كثيرة منها اعادة المفصولين الى "غير" وظائفهم ! واطلاق سراح السجناء والاعتراف بالمانيا الديمقراطية والحصول على توقيع الملا مصطفى البارزاني لاتفاقية 11 آذار وتوقيع ميثاق الجبهة بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي، كل هذه امور مهمة ساهمت في بقاء حزب البعث في السلطة ولكني سأتعرض فقط لنقطتين ذات أهمية أساس في فهم ما حدث.


1- وضع المجتمع :
عرف المجتمع العراقي منذ اواسط الستينات بداية ظاهرة فقدان ثقة الناس في الأحزاب السياسية الموجودة. فبعد ثورة تموز ولعدم منح العراقيين الحق في تشكيل الأحزاب السياسية وما لذلك من تأثير في تكلس الفكر السياسي على مستوى الرأي العام، تضاءل ثقل الأحزاب الليبرالية والديمقراطية مثل الحزب الوطني الديمقراطي (كامل الجادرجي) لصالح الأحزاب الراديكالية مثل الحزب الشيوعي الذي ازداد قوة. وبعد 1963 عرف الشيوعيون أزماتهم المعروفة ومحاولات حلها الى ان حدث الانشقاق وظهور خط القيادة المركزية الراديكالي والمتبني لخط الكفاح المسلح. من الجهة الاخرى بدأت الحركة الاسلامية الناشئة تكسب أعداداً كبيرة لاسيما بين الشباب والطلبة (حزب الدعوة). اذن كانت هناك بداية لحركة اصطفاف سياسي جديد في المجتمع ولكن لم تترسخ بعد. في المقابل، استطاع حزب البعث ثم الضباط الناصريون (بالاسم) الاستمرار في استقطاب الجماعات الناقمة على ثورة تموز والمتمسكة بامتيازاتها في حكم العراق والتي مرت ببعض الأزمات ولكنها استمرت عموماً في تعاونها وتماسكها بعد 1963. وتأتي هذه الجماعات بالخصوص من نواحي شمال بغداد وغربها.
إذن من جهة قطاعات المجتمع الأساسية متبعثرة او في حالة اعادة ترتيب مع جماهير عريضة لم تعد واثقة من الطروحات السياسية المتواجدة على الساحة ومن جهة أخرى قطاع صغير ولكن متماسك .يعرف ما يريد ومستعد لعمل كل شيئ والتحالف مع اية قوة للمحافظة على امتيازاته وسيطرته، إذ تعود عملياً على حكم العراق لوحده بفضل التحالف مع البريطانيين منذ 1920، ثم بعد ثورة تموز، بالاعتماد على أبنائه من قادة الجيش العسكرتاريين لاستعادة السيطرة على البلد باسم المصالح القومية والوحدة العربية التي استعملت كشعارات فقط لاعطاء صفة ايديولوجية قومية لتحالفهم مع بعض الدول العربية، لا سيما مصر جمال عبد الناصر (ثم السادات)، وأيضاً لتبرير محاربتهم للآكراد الانفصاليين والشيعة الشعوبيين. وهكذا استطاع هؤلاء استعادة تداول السلطة وتوزيع المغانم فيما بينهم اعتباراً من شباط (فبراير) 1963، مع الانقسامات التي عرفوها بعد تشرين الأول 1963. واذا كان ما حدث في 17 تموز هوانقلاب بالنسبة للشعب العراقي، فهو كما سموه ثورة بيضاء بالنسبة لهذه القطاعات لأنها لم تتقاتل بينها وعرفت ان مصلحتها في هذا التحالف الجديد برئاسة البكر، والذي اقصي منه الدخيلان يوم 30 تموز ثم حتى حردان التكريتي وعبد الخالق السامرائي وأمثالهما من الذين تشبثوا بمصالحهم الخاصة او أفكارهم ومثالياتهم، مهما كانت درجة صحتها او بطلانها.
لم يثبت صدام التكريتي مهارة في السياسة ولا في الاقتصاد، الخ بل كان يستفيد من الخبراء والاساتذة الجامعيين ليدبجوا له خطبه الملتوية على نفسها. بل أبدى مهارته في التآمر وكسب الولاءات ونسج شبكته العنكبوتية التي أقض بها على "ولي نعمته" الفاشي الآخر، أحمد حسن البكر الذي أجرم كثيراً بحق العراقيين وأول جرائمه أيصال صدام الى سدة الحكم وتمكينه من رقاب وأموال وأعراض العراقيين ثم جاء دوره على يد دميته الجهنمية.


2- دورالأحزاب السياسية والمثقفين:

"لايلدغ المؤمن من جحر مرتين" حديث شريف وحكمته واضحة لأن اللدغة الثانية هي ذنب الملدوغ وليس الفاعل وحده.. لقد كانت لدغة 17 تموز هي الثانية، أي بعد لدغة شباط الأسود، ومع ذلك تقبلت أحزاب مناضلة بالتفاهم، بعد 1968، مع جلاديها الذين سفكوا دمها سنة 1963، تاركة حلفاءها الطبيعيين من أبناء الشعب الطيبين وراءها ثم حل بها ما نعرف من قتل وتشريد. وعندما نرجع الى تلك الفترة، لا نجد لهذا التصرف من تفسير الا باثنين : 1- المصالح الحزبية والرغبة في الوصول الى بعض المنافع وتفادي بعض الأخطار، 2- ثم تسلط الشعارات التي تقوم أحيانا بتقريب الحزب من الاعداء وابعاده عن الاصدقاء. فاستخدام صدام وحزب البعث للشعارات البراقة ساهم بالتأكيد في انخداع بعض القوى الخيرة وصار البعض يمتدح صدام حسين كقائد وطني. وفي نفس الوقت، ابتعدت هذه القوى عن جماهير واسعة لأنها تفكر بطريقة مختلفة عنها. وقد وصل هذا "الاغتراب الطوعي" عن المجتمع الى درجة حمل السلاح في مدينة كربلاء ومساعدة البعثيين للقبض على أبناء المواكب الحسينية الذين تجرؤا على رفض أوامر البكر وصدام عام 1977. فبدل مساعدة هؤلاء الذين تعرضوا للقصف بالقنابل وتفرقوا في أطراف كربلاء، وصل تأثير الشعارات بأبناء احزاب الحداثة الى معاونة الفاشيين البعثيين للقبض على من أسموهم بالرجعيين..
واليوم نلتقي كعراقيين في عملية بناء سياسي ديمقراطي حقيقي لاننا نستطيع جميعا التعبير عن اراداتنا وافكارنا ولدينا احزابنا وصحفنا وجمعياتنا والشعب هو الفيصل. وفي نفس الوقت يحيط بنا الأعداء من كل جانب يريدون اجهاض تجربتنا واعادتنا الى ما كنا عليه من استعباد واذلال، فلا ينبغي ان تكون افكارنا مهما كان سموها سببا في تفرقنا وهزيمتنا وهلاك شعبنا. ان أساس الفكر الانساني هو لخدمة الانسان. والذين يستخدموه لتبرير التسلط عليه فهم مستبدون بحق الانسان، سواء كانت افكارهم نابعة من الدين او من ايديولوجيات قومية او يسارية او ليبرالية.
ان التفكير المتعقل والمخلص يدفعنا الى التذكر بصفحات الماضي القريب أو البعيد لا للترديد أو للبكاء على الماضي بل لتشخيص العلل واستخلاص ما يفيدنا في الخطوات القادمة وتحسين الأداء او على الأقل لتفادي ارتكاب نفس الحماقات. أن واجب كل انسان يريد فعلاً خدمة شعبنا المظلوم والمستباح في العراق هو التأكيد على وحدة القوى الخيرة التي تريد تخليص البلد من طغيان صدام وأزلامه وأيتامه وسفاحيه. الاخلاص هو الأساس اي المهم ان نكون حقيقيين في أفكارنا وفي اخلاصنا للوطن وإعلائنا لشأنه مهما كانت اختلافاتنا في الفكر والمنهج والمصطلحات. تذكروا يا أبناء العراق ان مصير الوطن في ايديكم هذه الأيام، ولنستذكر ما حصل بعد 17 تموز 1968 ونستخلص العبر لحاضرنا ومستقبلنا...

دكتوراه الدولة في العلوم السياسية/ باريس
[email protected]