في كتابهما الهام quot;سياسة وأقليات في الشرق الأوسط quot;، طرح الباحثان الهولنديان، لورانت وآني شابري، هذه الملاحظة الصائبة : quot;يجب ألا نتوقع في البلد العربي المسلم، أن نرى طائفة أقلية تبتهج بصعود سياسي، مفاجيء، لأقلية اخرىquot;. ربما لا نكون مغالين، لو أسقطنا تلك الملاحظة على ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من صراعات وتجاذبات وتحالفات بين مختلف إثنياتها وطوائفها؛ منذ إنتهاء حرب تحرير الكويت، تحديداً. ولعل مثال الكرد والسريان، الذي ننفرد هنا بتشخيصه، قد يعطينا صورة مصغرة عن العلاقات المعقدة، الشائكة، بين مختلف مكونات النسيج الإجتماعي الوطني في مرحلة مصيرية، دقيقة وحاسمة، تمرّ بها سورية راهناً.
كما هو معلوم لدينا، فأكراد العراق كانوا أكبر الغانمين من إندحار الديكتاتور العراقي في حرب الكويت، حيث وفرت لهم الحماية الدولية إمكانية حكم إقليم كردستان ذاتياً، بعيداً عن أي وصاية مركزية. إعتباراً من ذلك التاريخ، لاحظنا إنهمار سيل من المقالات والأبحاث في الصحف العربية، من أقلام سريانية، بشكل خاص، متناولة العلاقات المسيحية الكردية تاريخياً، مع التركيز على الجوانب السلبية فيها؛ حدّ إعتبارها علاقات خلافية متناحرة، لا سبيل لإصلاحها أبداً. إنّ قلق أصحاب هذا التوجه من إمكانية تكرار التجربة الكردستانية العراقية، في سورية، كان متماهياً أحياناً في تلك المقالات والأبحاث المشار إليها؛ قلق أضحى معلناً ومفصحاً عنه إثر إنتفاضة 12 آذار، الكردية، التي تفجرت عام 2004 في مدينة القامشلي، ثم إمتدت لمدن اخرى في سورية.
من جانبهم، فلم يأبه الكرد عموماً بتخفيف هواجس جيرانهم هؤلاء؛ ولم تبادر أحزابهم السياسية إلى المبادرة الجدية لحوار شفاف بهذا الشأن، وكذلك الأمر بالنسبة لمثقفيهم. لقد كانت اللقاءات، المحدودة، الجامعة بين السياسيين الكرد والسريان، في داخل وخارج الوطن، تتمّ غالباً على أرضية من الريبة والتوجس. ناهيك أنه حتى تلك اللقاءات، فقد كانت تجري غالباً بين أكراد ممثلين لأحزابهم القومية وسريان منخرطين في أحزاب يسارية أو قومية سورية؛ مما كان يحول دون الخوض بصراحة ووضوح في أمور تخصّ جماعتيهما كأثنيتيْن مضطهدتيْن، والانهماك عوضاً عن ذلك بمناقشات عامة تخصّ المناسبة الطارئة التي جمعتهما. بالمقابل، فلا يجوز إنكار حقيقة أنّ إجتماعات بهذا المستوى، كان لها إيجابيات مؤثرة على صعيد الحوار الكردي السرياني، المثمر المنشود، وصولاً إلى جذب ممثلين لمكونات إثنية، مهمشة، إلى الحراك السياسي الضالعة فيه المعارضة السورية.
وبما أننا عوّلنا على دور المثقفين في حوار سريانيّ كرديّ، مفترض، فلنقلها بصراحة؛ أنّ بعض الأقلام هنا وهناك، قد ذهبت بعيداً في شطحاتها أو ردات فعلها، بخلق معارك وهمية على خلفية تاريخية يعودُ بعضها أحياناً لعصور ما قبل الميلاد. الأفدح في هذه المقالات / المهاترات، تذييل أصحابها لأسمائهم بعبارة quot;شاعرquot; أو quot;باحثquot;.. الخ؛ في نفس الوقت الذي لا تنمّ مقالاتهم عن إحترامهم لتلك الصفة الأدبية أو العلمية، المزعومة. علاوة على أنّ مسألة التاريخ، أضحت لعبة يتسلى بها كتبَة لا يمتلكون حداً أدنى من الثقافة، ناهيك عن المراجع العلمية المسندة والموثقة. فهذا quot;يتفذلكquot; على القاريء بعرض صاروخيّ ممتد على أربعة خمسة آلاف سنة، وبمقالة لا تتجاوز كلماتها الأربعمائة خمسمائة مفردة مجازفة؛ وذاك قلمه أفتك من قنبلة هيروشيما، يمسح به من على وجه البسيطة وجودَ شعب بأكمله، بحجة أنّ quot; هجرة quot; أسلاف هذا الشعب إلى أرض الحضارات الآشورية الآرامية الكلدانية تعود لألف ألفيْ عام quot; فقط quot;!
في أحد مباحثه القيّمة، يؤكد كلود ليفي شتراوس على أنه ما من جماعة أثنية، مهما كان حجمها أومدى تطورها المعاصر، إلاّ وكان لأسلافها دور فاعل في الحضارة الإنسانية. هذا التأكيد، لا يطيق أن يسمعه أصحابنا، المثقفون، المنتمون للعرق السوري quot;النقيّ quot;؛ الوالغون في تاريخ الكرد سفكاً وفتكاً، المجدفون على شخصياته تشويهاً وتجنياً. الأوابد الأثرية، العائدة لتواريخ وحقب مختلفة قديمة ووسيطة، المكتشفة في إقليم الجزيرة، السورية، من لدن بعثات علمية غربية؛ هذه الأوابدُ يتوجّبُ مصادرتها، برمّتها، في متحف الجماعة المختارة؛ بعُرف أولئك الدونكيشوتيين، أنفسهم. عجباً، لمَ يفتخر السريانيّ، اليوم، بآرام ما قبل الميلاد وآشوره ووو..، ولا يحقّ لجاره، الكرديّ، أن يتمتع بمفخرة أسلافه الحوريين والميتانيين والميديين: أم أنّ صفة هذا الأخير، quot;الإسلامية المتخلفةquot;، لا تجيز له ذلك؟ وهذا المُستنطق أسماءَ بلداتٍ وتلال وقرى كردية، في الجزيرة، بجذورها الآرامية المفترضة؛ هل يتناسى - حتى لا نقولُ مفردة اخرى! - أنّ مدناً عربية كبرى، في سورية الساحلية والداخلية، إنما تحمل أسماء إغريقية / رومانية، مما يعطي quot; الحق quot; ليونانيي وإيطاليي ما وراء البحار، المطالبة بهذه البلاد جميعاً؟؟
لنغض الطرف، أيضاً وأيضاً، عن الدم الكردي المسفوح على الضفاف العروبية، وعن ثارات المجازر من أيام حمورابي وحتى صدام حسين : فلمَ لا ينتفضُ العِرْق السوريّ، quot; النقيّ quot;، لدماء أبنائه، المسفوكة تاريخياً على الضفاف ذاتها؟ ولم لا يرى الممثلون المفترضون للسريان، وخصوصاً المثقفون منهم، إلى العدو المشترك لشعبهم والشعوب المتعايشة معهم، من كرد وغيرهم، المُتمثل بالنظام الديكتاتوري البعثي في دمشق؟ إستقراءُ أولئك المثقفين، السريان، لعراق ما بعد البعث، الذي منح شعبهم هناك - وخصوصاً في إقليم كردستان - حرية لا محدودة في جميع المجالات السياسية والثقافية والدينية والإقتصادية..، أكان ذلك الإستقراء من ثقب الإبرة؛ الذي عناه الباحثان الهولنديان، في مفتتح مقالتنا، بحديثهما عن أنانية بعض الأقليات الطائفية وضيق أفق تفكيرها؟؟
التعليقات