يمر العراق الجديد بمحنة كبيرة، ويضغط أعداؤه في اتجاه يحاول دفع عموم العراقيين والعرب إلى الترحم على أيام الطاغية صدام حسين، فكلما تأزمت الأوضاع في بغداد والمدن العراقية الكبرى، كلما غذت أصوات متهافتة خيالا مضللا يتناسى فواجع أربعة عقود من الآلام والحروب والتعذيب والقهر والفساد والديكتاتورية، ويسمو بصور قديمة ملفقة عن الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية.
إن الثابت أن ولادة العراق الجديد، التعددي والوفاقي والدستوري والمؤسساتي والحر، لن تكون سهلة، ولم يتوقع أحد من قبل أن تكون كذلك، غير أن العراق الجديد أيضا، خلافا للعراق الصدامي، مفتوح أمام الجميع، حيث يمكن أن تفضح جل التجاوزات التي قد ترتكب على أرضه بيسر، تماما كما هو تدافع وسائل إعلامه الوطنية والدولية إلى متابعة شؤونه وقضاياه دون تقدير في كثير من الأحيان لطبيعة المرحلة الانتقالية وما تقتضيه من تفهم لمتطلباتها وخصائصها.
إن الديمقراطية ليست بضاعة يمكن أن يجلبها الأمريكيون معهم، إنما هي حزمة قيم وسلوكيات يجب على العراقيين التدرب على ممارستها، فهي كما المشي بالنسبة للطفل الصغير، لا تتعلم إلا من خلال التدرب عليها، وما تستتبعه الدربة من وقوف وسقوط وتدرج في الخطوات حتى استواء القامة وإمكانية العدو، والذين يهولون ما يحدثndash; على الرغم من أنه يدمي قلوب المحبين- بغية زرع الإحباط واليأس بين العراقيين وتزيين فضائل الطغاة لهم، سيؤول عملهم لا محالة إلى بوار.
لقد وجه الكثير من اللوم إلى قادة العراق الجديد، واتهمتهم العديد من الأطراف والشخصيات بالطائفية والحزبية والتنكر للمصالح الوطنية العليا، ولا شك في أن هؤلاء القادة ليسوا ملائكة ولا منزهين عن الخطأ، تماما كما أنه ليس بمقدور أحد تزكيتهم بالإجماع، غير أن الثابت إلى حد الآن أن غالبيتهم على قدر كبير من الحكمة والصبر وحب الوطن، وأنهم عملوا ما أمكنهم ndash; وما يزالون- على تجنيب بلدهم شرورا كبرى ترسم لها، لعل أقلها خطورة الحرب الأهلية والفتنة الطائفية والقطيعة السياسية.
إن ساسة العراق الجديد، لم تتح لهم طيلة العقود الأربعة الماضية، فرص العمل السياسي السلمي الديمقراطي حتى يتعلموا كيفية حل النزاعات وتطويق الصراعات والوصول إلى تفاهمات، بل لقد كانت حياتهم جحيما من المطاردات والتصفيات والآلام والعذابات والمؤامرات، أما مواطنوهم الذين هم عماد الديمقراطية الحالية، فقد ولد جلهم في ظل أجواء خيم عليها الرعب والتجسس وعبادة أصنام القائد الرمز الذي بيده مفاتيح ومغاليق كل شيء، لم يشعرهم أحد بأن صوتهم يمكن أن يعلي حكومة أو يسقطها، ولم يصور لهم الأمر غير أنهم رعايا مولانا، يوجههم إلى ساحات الموت في حروبه الخاسرة أو زنزاناته ومعتقلاته الرهيبة.
لقد أجبرت التحولات السريعة قادة العراق الجديد ومواطنيه على السواء، على الانخراط في دورات تدريبية مكثفة لتعلم ممارسة الديمقراطية، بعد أن كانوا قد أجمعوا عليها نظريا، وحلموا بها فكريا، طيلة سنوات الجمر الطويلة، وللأسف الشديد فإن فصول المدرسة التي تحتضن هذه الدورات محاطة بأعداء داخليين وخارجيين، يعملون بجد ومثابرة على زرع الألغام في ساحتها واغتيال الكثير من طلبتها ومعلميها وتفجير العديد من مبانيها وبناها التحتية، بهدف الإبقاء عليها مدرسة عائدة لملكية خاصة، يشرف عليها معلم فاسد يغرس في تلاميذه الرعب والرذائل وقسم ولاء الطاعة له في حصص الصباح المساء.
إن التوصل إلى اتفاقات لاقتسام الثروة والسلطة في العراق الجديد، وفقا لآليات ديمقراطية مسألة في غاية المشقة والعناء، خلافا لعراق صدام، الذي لم تكن كلمة اتفاقات واردة فيه من الأصل، فالثروة والسلطة هي بيد القائد الرمز الملهم يفعل بها ما يشاء وينعم بها على من يشاء، وإن إجراء الاتفاقات عقلية تحتاج إلى كثير من الصبر والحكمة والعقلانية لاستكمال بنائها.
ثمن الديمقراطية باهض لا ريب، لكن ثمن الديكتاتورية والاستبداد أبهض، وإذا كان العراقيون يكتبون بلدهم الجديد الحر بدماء آلاف منهم يسقطون غيلة وغدرا على أيدي الإرهابيين الآثمة، فإن بلدهم الصدامي القديم كان قد كتب بدماء ملايين العراقيين الذين قدمهم الأخ القائد وقودا لمغامراته ونزواته ونزعاته السادية المتكررة، وليس في هذا القول استهانة ndash; حاشى لله- بدماء الشهداء الزكية، إنما فضح لهؤلاء الذين أصبحت فجأة نفوس العراقيين عزيزة عليهم، في حين لم يخرجوا طيلة عقود في مظاهرة واحدة احتجاجا على سجون صدام الكريهة وما ارتكب فيها من جرائم وانتهاكات تشيب لها الولدان، أو على حروبه الحقيرة التي لم تنفجر إلا في وجه الأشقاء.
إن الدولة القومية المتجاوزة للطائفية والقبلية والفئوية والجهوية، لم تكن في الغرب أو اليابان أو غيرها من الدول، نتاج سنتين أو ثلاث سنوات، مثلما يلام العراق الجديد اليوم، بل إن هذه الدولة كانت نتاج اعتراف مسبق بوجود تعددية اجتماعية، قومية أو دينية أو لغوية أو مذهبية، لا إنكار لوجودها كما يصور أو يعتقد البعض. أما حكم صدام، فلم يكن إلا تكريسا لأبشع أنواع الطائفية، ذلك الذي يقوم على إلغاء حقيقة تشكل المجتمع من طوائف بالاعتماد على سلطة القمع الرهيب، ووضع الحكم برمته في أيدي رجل واحد أوحد وعائلة واحدة لا منافس لها، وبقدر القول أن نظام صدام لم يكن طائفيا، بقدر ما يمكن أن يقال حاليا عن نظام الأسد السوري، حيث يئن شعب تحت نير عائلة وطائفة، فيما الشعار المرفوع باستمرار قومي ووطني.
لقد كان الشعب العراقي منذ تم توحيد الولايات العثمانية الثلاثة، الموصل وبغداد والبصرة، ضمن دولة العراق الحديث، عقب انتصار الثورة العربية الكبرى وثورة العشرين العراقية، مكونا من عرب وكرد وتركمان وآشور وسريان وكلدان، ومن مسلمين ومسيحيين وصابئة ويزيديين، ومن شيعة وسنة، وأخيرا من دينيين وعلمانيين، ومن شيوعيين وقوميين وإسلاميين وليبراليين و لا منتمين، وسيظل هذا العراق كذلك، كما سيظل مطروحا على العراقيين الاعتراف ببعضهم البعض، والتعايش مع بعضهم البعض، والعمل إلى جانب بعضهم البعض، لما فيه خيرهم جميعا، وكذلك يفعلون.
إنه لمن المنطقي والمتوقع أن يتدافع قادة العراق الجديد، وأن يعمل كل طرف على الحفاظ على مصالحه ومصالح قاعدته الانتخابية وفقا لما يتصوره أنه حق له، وسيجد هؤلاء القادة صعوبات جمة في التفاهم والتوافق وتقاسم المواقع ومراكز السلطة والنفوذ، وسيكون من بينهم من ينزع إلى أنانية شخصية أو فئوية أو استبداد بالرأي والسلطة، إلا أنهم سينجحون في خاتمة المطاف ndash; ومهما تكن التضحيات والتحديات- في تذليل العقبات والوصول إلى تفاهمات واتفاقات، لن تحقق أجندة كل طرف بكافة نقاطها، لكنها ستحقق لكل طرف أكثر ما يمكن من النقاط التي رسمها مسبقا.
إن الفوضى تبدو أحيانا ndash; للأسف الشديد- ضرورة تاريخية في بعض الحالات، ومخاض الولادة عبارة عن فوضى بشكل من الأشكال، لكنها الفوضى البناءة التي تنضج الوعي وترشد العقل لما فيه خير الوطن والأمة، والعراقيون إنما بمواجهتهم تحديات الفوضى إنما يواجهون تحديات بناء دولة ديمقراطية تعددية راسخة، وما من أمة عظيمة اتجهت للديمقراطية إلا بعد أن دفعت ضريبة غالية، وبقدر عظمة الضرائب تأتي عظمة الصروح والبناءات الشاهقة.
وإنه لبيان لكل من آمن بعراق جديد، حر وديمقراطي وتعددي، يسع كافة أبنائه على اختلاف طوائفهم وتياراتهم وأحزابهم وأديانهم ولغاتهم، أن يدافع عن إيمانه وأن يواجه مع العراقيين معاركهم وحروبهم ضد زراع اليأس والإحباط والمتباكين زورا وبهتانا على أيام الطاغية وفضائل الطغيان، و إن رهان الإرهابيين ومن يقف وراءهم من المتآمرين على العراق الديمقراطي، لمنصب على الجانب النفسي والمعنوي، ولهذا فإن الوعي بطبيعة المعركة الدائرة بين طموح المستقبل الديمقراطي وردة الماضي الدكتاتوري لجدير بأن يرشد أصحابه إلى أن تعزيز وترميم ودعم معنويات مناضلي العراق الديمقراطيين من أهم أولويات المرحلة.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي- لاهاي.