حملات الإستئصال والتطهير والسلخ الطائفي المؤسفة القائمة في العراق حاليا تعيد إلى الأذهان كل حكايات وصور الوحشية والتخلف والبدائية التي رافقت إنقلاب 14 تموز العسكري عام 1958؟ والتي إستمرت فيما بعد (كسنة خبيثة) سنها الثوار من العسكريين الفاشلين والقتلة الذين شربوا من نفس الكأس الدموية المريعة التي أذاقوها للآخرين، فحالات سحل الجثث، والتمثيل بالقتلى، والتفنن في تقطيع الأوصال هي المثال الناصع على مدى بعد الجماعات المتمنطقة بالخطاب الديني في العراق عن الحد الأدنى من القيم الدينية والإسلامية تحديدا، وعن سيادة الخطاب الجاهلي المتوحش المغلف بدعايات دينية ومذهبية، وعن مدى الخراب النفسي العميق الذي لحق بالقطاع الأكبر من المجتمع العراقي المريض، فقيام الجماعات السلفية المتوحشة بتفجير مناطق فقراء الشيعة وإيقاع الأذى بملايين الأبرياء لا يشكل حالة إجرامية موغلة في ساديتها فقط بل يشكل ما هو أكبر من فضيحة أخلاقية لا يمكن الدفاع عنها، كما أن قيام عصابات ما يسمى بجيش المهدي بسحل جثث بعض أئمة المساجد السنية لا يمكن أن يكون له أدنى علاقة بفكر أهل بيت النبوة عليهم السلام الذين كانوا عرضة للظلم والإضطهاد وكانوا منارة الهدى في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين، وهذه الأحداث الموجعة المؤسفة الرهيبة لا يمكن قراءتها مذهبيا ولا دينيا، فالدين والعقيدة والمذهب أبعد ما يكونون عن ما يجري من جرائم بشعة ضد البشرية وكل القيم الإنسانية في العراق، ومؤامرات الجماعات والأحزاب والفيالق المذهبية المرتبطة بمراجعها المقيمة خارج الحدود لا تصب إلا النار على الزيت، ولا تزيد نيران الفتنة إلا إشتعالا، وأمامي صورة من تعميم وزعته وأرسلته الأمانة العامة لمنظمة بدر (فيلق بدر سابقا) وهي الذراع العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أرسل إلى الدائرة السياسية للمنظمة وهو سري يقول فيما يقول من أن:
(سرايا مالك الأشتر قد قامت بإعادة الحق إلى أهله وسيطرت على المساجد التي يستخدمها الوهابيون الكفرة وإعادتها إلى أهلها الشرعيين من أتباع أهل البيت عليهم السلام)!!، وقد أرسلت نسخة من هذا التعميم للسيد عبد العزيز الحكيم ولوكالة العمليات الخاصة في المنظمة!!.. أي أن (سرايا الدفاع) في منظمة بدر قد حققت نصرها المبين وحررت المقدسات!! وكسبت حرب (المساجد)!! في نفس الوقت الذي تمكنت فيه قوات (جيش المهدي) المنصور من سحل أكبر عدد من الجثث التابعة لبعض الأئمة من أهل السنة!! فيما تتواصل بيانات (الجماعات السلفية) وعصابات الزرقاوي المسعورة بتكفير جماهير العراقيين من بسطاء الشيعة ويجتهدون في إعداد بهائم التفخيخ البشرية التي تفجر أجسادها في الباصات والتجمعات العمالية والدينية!! وهي حالة مغرقة في التوحش لا تعبر إلا عن خواء نفسي رهيب وعن عقلية إجرامية موغلة في البدائية والتوحش، فهل يستحق الشعب العراقي هذا المصير السوداوي الذي يعيشه كل يوم ويستنزف من إمكانياته الشيء الكثير ويؤشر بصورة لا تقبل الخطأ على حجم التخلف المرعب الذي إنحدرت إليه القوى السياسية والطائفية والدينية المتصارعة؟ من كان يتصور أن البلد الذي كان في طليعة بلدان الشرق المستقرة والناهضة في ثلاثينيات القرن الماضي يصل لهذا المستوى من الإنحدار والظلامية؟ من كان يعتقد ولو في الأحلام من أن البلد الذي كانت نسائه في طليعة قوى الشعب المتحررة وهن اللواتي ساهمن أوسع مساهمة في معارك التقدم والثقافة يعشن اليوم أزهى عصور التخلف والخطف والتعتيم وفرض الرؤى الظلامية وإعادة عصر الجواري؟ وحيث أضحت المرأة العراقية سلعة تباع وتشترى وتصادر حريتها المسؤولة وتعود لعصور الإقطاع والعشائرية؟ من كان يعتقد بأن صراع الحركة الوطنية العراقية العريقة يختزل في حروب المساجد والحسينيات والعودة لشعارات وصراعات عصر (السقيفة) و(الفتنة الكبرى)! ومصطلحات العصر الأموي والصراع الهاشمي / السفياني والمرواني والذي طبع مراحل تاريخية موغلة في القدم أضحت تاريخا بعيدا ولكن إصرار القوى الرجعية على إستحضار تلكم الأحداث المريضة يؤشر على حالة الخلل في العقلية السياسية العراقية وتراجع الحركة الوطنية بل والروح الوطنية، ونجاح الفاشية البعثية في تخريب العقلية العراقية وإشاعة الجهل الشامل وإنكفاء المجتمع بأسره نحو الماضي وصراعاته العقيمة التي لن تنتهي وستدمر المجتمع العراقي في حال الإصرار عليها والتمسك بشعاراتها المريضة، لا يوجد أي خلاف حقيقي بين جماهير الشيعة والسنة فكل الخلافات هي فروق مذهبية موجودة بين كل الفرق الدينية والمذهبية، ولكن الإصرار المريض على تسييس الطائفة والدين، وفشل الأحزاب العراقية التعبانة في ملأ الفراغ القيادي، والتعثر الواضح بل الفشل في عملية إعادة البناء أو توفير فرص العمل أو تهيئة برنامج للتنمية الوطنية الحقيقية، كلها عوامل تساهم في تكريس التخلف وفرض نزعات الثأر البدائية التي تحولت عارا وطنيا عراقيا حقيقيا..!، فهل ثمة أمل في إعادة القاطرة العراقية على سكة الإتجاه الصحيح؟... هذا ما نتأمله.. ولكن!.

[email protected]