... خيارات الزوابع والتوابع

ديمقراطية الأغلبية
تقف الديمقراطية كمفهوم أو نظام بين عاملين رئيسين هما ؛ تداول السلطة و طريقة تمثيل الجماعات. ومابين هذين العاملين يكون الخوض في المزيد من التفاصيل التي تفرزها المكونات السياسية والاجتماعية، إذ تكشف التجربة المباشرة عن تصدر الأغلبية لصالح برلمان ذي صبغة سياسية، يطمن مصالح وحاجات وأهداف سياسية تخص ممثلين جماعة بعينها، في الوقت الذي بات الآخر يعيش حالة الإسترضاء، والتي تتخذ في المدلول الاجتماعي العراقي، لا صيغة التوافق بقدر ما تقوم على التحجيم. وهنا تحديدا تبرز أزمة المصطلح ويتنامى دور المفاهيم، حتى لتبرز معطيات، من نوع ؛الأصول والفروع، الداخل والخارج، الكفاءة والخبرة، الإرادة والتبعية، الوحدة والإنقسام.
الإسترضاء في المجال العراقي، يتخذ لبوس التهميش والإقصاء، حتى أن المفردة بعينها تكون ذات مدلول استفزازي، فهي تأتي في سياق يقوم على مظهر إتمامي، من دون أن يكون لها المساهمة الجادة والفاعلة. ومن هذا يكون رد الفعل الذي يتخذ شكلا مناكفا ورافضا ولافظا. كيف يمكن أن يشم من التوافقية الرغبة الفاعلة والعميقة في المشاركة، هل يقوم على النسبية التي أفرزتها حالة الانتخابات، والتي أفرزت أغلبية وأقلية؟أم أن الأمر يستدعي البحث في المكونات الحقيقية للوضع العراقي، من حيث دراسة القوى الرئيسة فيه، من حيث الكفاءة والتأثير والمصلحة الوطنية والتطلع نحو بناء النموذج الوطني القادر على مواجهة التحديات الكبرى التي يواجهها وطن مثل العراق، والذي بات اليوم عرضة للمزيد من التهديدات والتدخلات، من قبل العديد من القوى الدولية والإقليمية، حتى أن المراقب، بات لا يتردد من تعداد قوى سياسية، كانت في الأمس القريب تعد من الهوامش، لكنها وسط زحمة الحراجة والعتمة صار من الممكن أن يفكر بها كلاعب رئيس! عن أي أغلبية يمكن الحديث فيما يعيش الوطن حالة من التقسيم المسف والخلط المذل والتداخل المهين، حتى لم يتورع الهامشيون من أن يكون لهم الدور البالغ في تكثيف صورة العتمة.
أزمة الأقلية والأغلبية التي أبرزتها المقرطة في العراق المستباح، تحتاج اليوم إلى إعادة نظر عميق في عملية التوزيع والتناسب، بين القدرة والكفاءة والتأثير والسعي نحو الارتباط بهذا الوطن، والذي صار اليوم هو الأبعد عن الغايات والأهداف. أزمة نعم وبكل المقايسس، ولكنها لا تستدعي بالضرورة أن يكون القياس الحاضر وقد استند إلى تقديم هذا على ذاك أو تفضيل طرف على آخر، بقدر ما يكون القياس وقد ارتبط بالصالح العام، هذا الأخير الذي يستدعي تعريفا جديدا، لا بد للجميع أن يتوافقوا عليه.

التفاهم والتنسيق
يشير د. رغيد الصلح إلى جملة من النماذج العربية، بوصفها مدارك وحلول وتجارب مباشرة، حيث ؛ التناوب الوفاقي في المغرب، والشراكة الوطنية في السودان ومحاولة تجديد الديمقراطية الوفاقية في لبنان. ويبقى السؤال المباشر عن مدى النتائج المأمولة في صلب تلك التجارب، إنها تجارب مازالت تعيش التوترات والمشاحنة، لكنها محاولات تحمل شيئا من محاولات الخروج من نفق التأزيم، عبر وسائل ؛ المشاركة، الاتفاق، المبادرة، التفاهم. ومن واقع مركب الانقسام الحاد والمضطرب الذي يعيشه العراق الراهن، تبرز أسئلة المتعلقات المكونات الاجتماعية والسياسية، والعواقب المريرة التي ما انفكت تشكل ورما شديدا عصيا على استئصال في الجسد العراقي، بعد أن تحول التنوع والاختلاف، من مدار مباهاة إلى مجرد وسيلة للإلغاء والإقصاء المتبادل في المجال الاجتماعي. بعد أن تسيدت ثقافة التدمير والخراب والقتل المعلن تحت مبررات ودعاوي الطائفية والعنصرية والإثنية والتضليل والإفادة من الثغرات. (( د. رغيد الصلح سلسلة من المقالات التي كتبها في جريدتي النهار البيروتية والحياة اللندنية))

التوافقية Conciliative
يلخص د. رغيد الصلح النموذج التوافقي استنادا إلى العناصر الأربعة التالية:
1.استقلالية نسبية لمكونات المجتمع.
2.فيتو متبادل بينها.
3.تحالف كبير يؤسس للكارتل الحاكم.
4.اعتماد النسبية في توزيع المناصب والمنافع بين هذه المكونات. (( انظر ورقة، مستقبل الديمقراطية الوفاقية في الدول العربية، إعداد د. رغيد الصلح)) Arend Lipjhart,Constitutional أنظر أيضا، Choices For New Democracies,p 163.
والتلخيص هذا لا يغيب عنه إلحاق عناصر أربعة، تتابع من خلالها الأعراض، الحلول، شروط النجاح، الانتقادات. وها نحن وجها لوجه بإزاء نموذج أسس له الباحث السياسي Lipjhart، عبر حث جهاز المقارنة مع العديد من التجارب الديمقراطية في، هولندا وبلجيكا والنمسا وسويسرا وكندا، وطريق تفاعل هذا النموذج مع لبنان وماليزيا وقبرص وكولومبيا والأورغواي ونيجيريا.. والنموذج هذا يتواصل مع الجهود التنظيرية التي وضعها كل من :Lehmbruch في الديمقراطية النسبية، Powell في التجزؤ الاجتماعي، Nordlinger في احتواء النزاعات في المجتمعات المقسمة، Steiner في الاتفاق الرضائي. (( انطوان نصري مسرة، النموذج السياسي اللبناني واستمراريته، ترجمة جورج أبي صالح))

الإقصاء ndash; الفوضى- وعي القيادات
الحوار طريق التفاهم، جملة يمكن لها أن تستقيم في ظل أوضاع أقل ما يقال عنها طبيعية، ولكن يبقى السؤال كيف الطريق إلى الحوار؟ومن هو المسؤول عن إدارة دفة الحوار، عن الكيفية ومدى المبادرة والقوة والأهمية ومقدار الوعي بالتسامح، والوعي الراسخ بالعملية السياسية، ومعطيات الواقع العميق والأصيل وتجذر الفهم والإدراك بالوطن والوطنية. والإدراك العميق بواقع الخصوصيات والنزعات الفرعية والميول وتقرير المصالح الذاتية.
لقد غاب عن الراهن العراقي، أو غيب معنى البحث العميق عن القوى الرئيسة القادرة على ممارسة مضمون المشاركة السياسية الجادة، ففي لوثة الفوضى والاضطراب تم التنادي بالصورة الشوهاء للبعض من ممثلي القوى، في الوقت الذي كان الإقصاء سيدا للموقف، لا سيما في ظل قانون اجتثاث البعث، أو تفكيك المؤسسات الرئيسة للدولة، أو سيادة ثقافة الانتقام والثأر، أو محاولة استبدال المواقع، ومن هذا الاضطراب المفجع تبدت صورة تقديم مصالح الجماعات والتحزبات على حساب مضمون الشراكة الوطنية، الذي تم تغييبه في قراءة لا يقال عنها سوى بالمنقوصة أو الطارئة.

الشراكة ndash; الانجاز- التوافق
يتداول التونسيون مثلا شعبيا في غاية الألمعية قوامه (( تريد تفهم تدوخ)) أما العراقيون فإن منجزهم الشعبي يقوم على (( ألعب لو أخرب الملعب)) وهو يتطابق مع المثل المصري (( يافيها يا أخفيها)). كيف تفهم؟ وكيف تلعب؟ كأنها الإحالة إلى تدبيج مقام الأولويات بالنسبة إلى عموم المكون الاجتماعي العراقي، من دون الدخول في متاهة التوزيع والتقسيم وحديث المثلثات والجيوب، والاتهام والاتهام المتبادل، والتكفير والتحقير والإذلال والتهميش، وثقافة الفرصة السانحة.
ماهي التحديات الكبرى التي يواجهها العراق اليوم ؟ كثيرة لا شك وعزيزة على الإحصاء بالطبع، و وغزيرة كثيفة معتمة! ولكن أما من أولويات، أما من تحديد لنقاط كبرى يمكن التوافق عليها من أجل لملمة البعثرة التي تكاد تودي بهذا الجسد المسجى على طاولة العهر والفساد والفوضى والاضطراب. تبرز للعيان قضايا؛ (( استقرار العراق، ودستور العراق، واحتلال العراق)) ثلاثية ما انفكت تحضر بقوة في هذه التراجيديا التي تعز على الوصف، فيما مسلسل القتل على الهوية يتواصل، والوهن يتصاعد والحكومة تترهل والمواطنون يتصايحون فرقا ورعبا وانعدام أمل وجدوى.
كيف يمكن ترتيب هذه الأولويات، من يقود من؟ هل من الممكن الحديث عن توافق على الاستقرار، التفاهم على انجاز إنهاء الاحتلال، الشراكة في صياغة الدستور. لا يمكن التغاضي عن أن الجميع يتحدث عن الرغبة العارمة في إخراج العراق من نفق الفوضى، وأن السعي الحميد نحو الاستقرار هو هدف مشترك، لا يختلف حوله اثنان، ففيم إذن هذه التفجيرات والمفخخات، ولماذا يذبح العراقيون بدم بارد؟ الأمر إذن يرتبط بتوزيع آخر يقوم على أهمية توجيه النظر في الأسس التي قامت عليها الحكومة المنتخبة، حتى أن المزيد من المعارضين المعلنين لم يترددوا من الإفصاح عن حالات التزوير التي رافقت الانتخابات الأخيرة. وهنا تتبدى ملامح التقاطع الشديد بين الحكومة التي تستمد شرعيتها من الأغلبية المنتخبة، والمعارضة التي ترى في الأمر نقصا وعيبا فاضحا بحاجة ماسة إلى العلاج. ما هو الحل إذن هل يبقى الحال على ماهو عليه مع السعي نحو تعديل نسبة المشاركة السياسية، أم أن هناك رغبة صميمة لدى المعارضة بأهمية البحث عن حل جذري، كأن يقوم على إعادة النظر في كل شيء، والسعي نحو إقرار ميثاق عمل وطني، تقوم عليه جهة راعية كالجامعة العربية أو استحداث مجلس وطني عراقي، يتم انتخابه وفقا لمعايير النسبية الطائفية والقبلية والخبرة السياسية.
لقد تم تجريب علاج الجامعة العربية، والذي تم تمييعه وسط المشغلات والتداعيات والأحداث الجسام التي مرت بالعراق، حتى لم يتبق سوى البحث عن الإطار الوطني، وليكن التنادي بمجلس تمثيلي يتم انتخابه من قبل الفاعلين الرئيسين والأوساط المجتمعية الأساسية التي مثلها الطيف العراقي، بواقع اثنين من كل عنصر، طائفي- قبلي-سياسي، يكون كل طرف مسؤول عن النتائج المترتبة عن النتائج التي يتمخض عنها القرار الصادر عن هذه الجهة العليا، وبسقف زمني محدد لا يتجاوز الشهر الواحد. تكون المهام المنوطة به وقد تركزت في معالجة النقاط الرئيسة والممثلة في إقرار؛ (الاستقرار، التعديلات الدستورية، مناقشة مسألة الاحتلال). هذا الإطار يكون بمثابة التمهيد لفكرة تسويغ المصالحة الوطنية لتي تطرحها اليوم.